مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المرأة وأثر كلمتها على العائلة

المرأة وأثر كلمتها على العائلة

بكلمة وضعت زوجها على طريق الجهاد: الكلمة مسؤولية خطيرة وأمانة عظيمة..

فهي بداية كل وجود، وباعث أي تغيير، وسلاح جميع الأنبياء والرسل والأئمة والمصلحين، ووسيلة أي دعوة أو مبدأ، وإطار أية فكرة أو معنى.. وهي سبب كل حادث خيراً كان أو شراً..

حتى أن القرآن الحكيم يجعل الكلمة رمزاً لتنفيذ مشيئة الله تعالى في إيجاد الكائنات. وكلمة كن هي ذلك الرمز الذي تتكون به الموجودات. قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»1.

وتوجيه الله تعالى لعباده إنما يتمّ عبر الكلمة التي يوحيها إلى الأنبياء والرسل.

والشيطان بدأ مسيرة إضلاله وإغوائه للإنسان بواسطة الكلمة، حينما قال لأبينا آدم عليه السلام وهو في الجنة: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى»2؟!.

ولما وضعت العذراء الطاهرة مريم عليها السلام وليدها الطاهر المسيح عيسى بن مريم، بقدرة الله تعالى دون أن يغشاها بعل.. حينذاك أثيرت حول عفتها ونزاهتها الشكوك والشبهات، فكان الموقف حرجاً للغاية.. وكانت كلمة الوليد الطفل عيسى ابن مريم كلمة الفصل والحسم التي نسفت كل شكوكهم وألغت كل شبهاتهم، حيث أثبت لهم بتكلمه في المهد أن الأمر معجزة من الله لا تدخل ضمن ما ألفوه من قوانين وعادات. يقول تعالى: «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»3.

فالكلمة سلاح خطير يمتلكه الإنسان، ولكنها سلاح ذو حدّين، حيث يمكن للإنسان أن يوظفها في سبيل الخير فيقطف منها الثمار اليانعة والنتائج الحسنة.. ويا ويله إن هو استخدمها في اتجاه الشر، فإنها ستعود عليه بالسوء والدمار.

والكلمة هي الكلمة، ولكنها، حين تكون كلمة طيبة فستثمر الورود والزهور التي تعطر أجواء الحياة.. حينما تكون الكلمة خبيثة فلن تعطي إلا الأشواك التي تدمي صاحبها وتعكر الأجواء..

رائع هو المثل الذي ضربه القرآن للكلمة في الصورتين، حيث يقول تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»4.

ومن هنا جاءت التعاليم الإسلامية تلفت الإنسان إلى أهمية الكلمة وخطورتها، وتؤكد على مسؤولية الكلمة وآثارها، فليس هناك كلمة واحدة خارج نطاق المسؤولية والحساب.. بل إن الإنسان محاسَب ومسؤول عن كل كلمة يتفوَّه بها، فإن كانت طيبة نال جزاءها، وإن كانت خبيثة دفع ثمنها عذاباً وعقاباً..

يقول تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»5.

ويقول الرسول الأعظم(ص) في وصيته لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: يا أبا ذر، إن الرجل يتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها، فيهوي في جهنم بين السماء والأرض6.

والإنسان المؤمن عليه أن يشهر سلاح الكلمة لخدمة رسالته ومبادئه ولمصلحة أُمته ووطنه.. فبها يستطيع أن يهدي الناس إلى الحق ويوصل إلى قلوبهم معاني الخير والصلاح.

ورد في الحديث عن النبي محمد(ص):
ما أهدى مسلم هدية لأخيه أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى أو يردّه بها عن ردى7.

فلنشهر سلاح الكلمة لخدمة مبادئنا الرسالية ومن أجل إصلاح أمتنا، فكم من كلمة فجّرت ثورة وغيّرت مجرى التاريخ؟

وكم من كلمة صنعت ثائراً بقي مناراً للأجيال؟

وكم من كلمة انتشلت إنساناً من هوّة الضلال والانحراف، ورفعته إلى أوج الهداية والصلاح؟..

وفي ثورة كربلاء كان للكلمة دور عظيم يضاهي مكانة دماء الشهداء.. وكان للمرأة في هذا المجال من الثورة –مجال الكلمة الثورية– نصيب كبير..

فهل سمعتم عن البطل المجاهد زهير بن القين، الذي جعله الإمام الحسين عليه السلام قائداً للجناح الأيمن من جيشه؟

زهير الذي يتدفق حيوية وحماساً، يقول للإمام الحسين عليه السلام: والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلَّدين... لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيه8!.

ويقول مرة أخرى: والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك9.

زهير الذي كان يحمل على القوم ويصول في الميدان يضرب ويطعن ويرتجز قائلاً: أنا زهير وأنا ابن القين أذودهم بالسيف عن حسين إن هذا البطل كان يسير في اتجاه مناوئ للثورة!! ولكن كلمة صادقة مخلصة من فم زوجته المؤمنة كانت السبب في تغيير موقفه وانضمامه إلى صفوف ثوار العقيدة والإيمان.

فكيف حدث ذلك؟

يحدثنا التاريخ على لسان أحد الرواة: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة بعد انتهاء فريضة الحج، وكنا نساير قافلة الإمام الحسين عليه السلام، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلَّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب، ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين حتى سلّم، ثم دخل فقال:
- يا زهير بن القين، إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه.

فطرح كل إنسان ما في يده من الطعام، وساد صمت رهيب في الخيمة حتى كأن على رؤوسنا الطير، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين!..

ولكن زوجة زهير واسمها دلهم بنت عمرو مزقت أجواء الصمت والذهول بكلمة قوية ثائرة حيث التفتت إلى زوجها قائلة: يا زهير، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟! سبحان الله، لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت.

فكان لهذه الكلمة المخلصة وقع عجيب في نفس زهير، جعله يتخلص من تردده وحيرته ويستجيب لرسول الحسين، وإن كان في النفس شيء من الكراهة.

واستقبله الإمام الحسين عليه السلام وتحدث معه كثيراً حول دوافع ثورته وأهدافها، ووضعه أمام ضميره ووجدانه، وذكره بحديث سابق سيخبرنا به زهير فيما بعد.

وهنا اتخذ زهير قراراً حاسماً يضع به حدّاً لحياته السابقة، ويبدأ به حياة جديدة تحت راية الثورة والنضال في سبيل الله ومن أجل الجماهير المستضعفة المحرومة.

وعاد إلى قومه مستبشراً قد أسفر وجهه. فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه أن ينقل إلى مخيم الحسين.

والتفت لزوجته قائلاً:
- أنتِ طالق، إلحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك بسبـبي إلا خير، وقد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بروحي وأقيه بنفسي.

ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه زوجته وبكت وودّعته قائلةً: خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين!..

وقال لأصحابه:
- من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر العهد مني.
ثم قال: إني أحدثكم حديثاً:
غزونا بلنجرة ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا، فقال لنا سليمان الباهلي:
- أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم.
فقلنا: نعم.
فقال لنا: إذا ادركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم !..
فأما أنا فإني استودعكم الله10..

وهكذا استطاعت زوجة زهير بكلمة أن تضع زوجها على طريق الثورة.

فالكلمة الصادقة الحقة لها مفعول كبير وتأثير عظيم بحجم موقعها وهدفها.

فعلى الرسالي أن لا يبخل بالكلمة وأن يحسن استخدامها.

ومرة أخرى: فلنشهر سلاح الكلمة لخدمة مبادئنا العظيمة وأهدافنا الرسالية السامية.


الهوامش:

1- يس:82.
2- طه:120.
3- مريم:27-30.
4- ابراهيم24-26.
5- ق:18.
6- الوعظ 1/358.
7- سفينة النجاة 2/493.
8- ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية ص 246.
9- المصدر السابق ص249-250.
10- أعيان الشيعة 4/92.


المصدر: موقع المجلس الثقافي- الاجتماعي للنساء والأسرة، نقلاً عن كتاب مسؤولية المرأة، الشيخ حسن الصفار، ص35-39.

التعليقات (0)

اترك تعليق