السيدة ماريا القبطية أم المؤمنين (أم ابراهيم)
هدية من مصر
وغير بعيد من بيت النبي (ص)، في منزل خاص، كانت تقيم سَرِية للنبي (ص) لم تحظ بلقب أم المؤمنين، ولكنها حظيت دونهن جميعا بشرف أمومتها لابنه ابراهيم (ع) إلى جانب حظوتها، مثلهن، بشرف الصحبة(١).
وهي لم تقم في دور النبي الملحقة بالمسجد، إلا أن أثرها في هذه الدور وساكناتها كان جد بعيد.
فمن تكون هذه السرية. وكيف دخلت حياته (ص)؟ وأي موضع كان لها في هذه الحياة؟
في قرية من صعيد مصر، تدعى "حفن" قريبة من بلدة "أنصنا"(٢) الواقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونين، ولدت "مارية بنت شمعون" لأب قبطي، وأم مسيحية رومية.
وأمضت بها حداثتها الأولى قبل أن تنتقل في مطلع شبابها الباكر مع أختها "سيرين" الى قصر "المقوقس" عظيم القبط.
وقد سمعت هنالك بما كان من ظهور نبي في جزيرة العرب يدعو الى دين سماوي جديد، وكانت في القصر حين وفد "حاطب بن أبي بلتعة" موفدا من هذا النبي العربي يحمل رسالة إلى المقوقس.
وأذن في الدخول، فأدى الرسالة:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
"من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام عاى من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط. يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا: اشهد بأنا مسلمون"(٣).
وقرأ المقوقس الكتاب ثم طواه في عناية وتوقير، ووضعه في حُقٍّ من عاج دفعه إلى واحدة من جواريه.
والتفت من بعد ذلك إلى "حاطب" يسأله أن يحدثه عن النبي (ص) ويصفه له، فلما فعل، فكر المقوقس مليا ثم قال لحاطب:
"قد كنت أعلم أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وهناك كان مخرج الأنبياء، فأراه قد خرج من أرض العرب... ولكن القبط لا تطاوعني" وضنَّ بملكه أن يفارقه.
ثم دعا بكاتبه فأملى عليه رده:
"... أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت من ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام....
"وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وبكسوة، ومطية لتركبها، والسلام عليك"(٤).
ودفع "المقوقس" كتابه إلى "حاطب" معتذرا بما يعلم من تمسك القبط بدينهم، وموصيا إياه بأن يكتم ما دار بينهما، فلا يسمع القبط منه حرفًا واحدًا.
وانطلق "حاطب" عائدًا إلى النبي (ص)، ومعه "مارية" وأختها "سيرين" [...]، وألف مثقال ذهبا، وعشرون ثوبا لينا من نسج مصر، وبغلة شهباء (دلدل) وجانب من عسل "بنها" وبعض العود والند والمسك.
وشعرت الأختان بوحشة لفراق الوطن، فسارتا تملآن أعينهما من الوادي الحبيب، حتى إذا غابت عنهما آخر معالمه، ألقتا نظرة وداع دامعة، على الأرض التي حُلَّت فيها تمائمها، ودرج عليها صباهما.
وأحس "حاطب" ما تجد الأختان الشابتان من شجن الفراق، فأقبل عليهما يحدثهما عن تاريخ لبلاده عريق، ويروي لهما ما وعى من قصص وأساطير نسجهما الزمان حول مكة والحجاز طوال قرون لا عداد لها، ثم انثنى يتحدث عن النبي (ص)، حديث مؤمن وامق وتابع صاحب، فأخذت الشابتان بما سمعتا وانشرح قلباهما للاسلام ونبيه الكريم.
واستغرقهما التفكير في الحياة الجديدة التي توشك ان تستقبلهما، وفي السيد النبي الذي ينتظر في "المدينة" رجوع صاحبه "حاطب" برد المقوقس. وفي الإصابة، من طريق ابن سعد، أن حاطبا عرض الإسلام على مارية ورغبها فيه، فأسلمت هي وأختها.
حتى بلغ الركب المدينة سنة سبع من الهجرة، وقد عاد النبي(ص) من "الحديبية" بعد أن عقد الهدنة مع قريش.
وتلقى(ص) كتاب المقوقس، وهدية مصر...
وأعجبته "مارية" فاكتفى بها، ووهب أختها "سيرين" لشاعره "حسان بن ثابت".
وطار النبأ إلى دور النبي، أن شابة مصرية حلوة، جعدة الشعر، جذابة الملامح، قد جاءت من أرض النيل هدية النبي (ص) فأنزلها بمنزل لحارثة بن النعمان، قرب المسجد.
وتكلفت "عائشة" ما استطاعت من جهد، لكي تعلل نفسها بألا خطر عليها من هذه الشابة الجديدة، فما كانت سوى جارية قبطية غريبة، أهداها سيد إلى سيد.
لكنها راحت ترقب في كثير من القلق، مظاهر اهتمام الرسول بتلك المصرية الطارئة، وقد أثار جزعها أن تراه (ص) يكثر من التردد عليها [...].
طيف وأمل
ومضى عام ونحو عام، و"مارية" سعيدة بحظوتها لدى السيد الرسول(ص)، قد اطمأن بها المقام في كنفه، وأرضاها أن يضرب عليها الحجاب، شأن أمهات المؤمنين.
وانحصرت أمانيها وخواطرها، بل انحصر وجودها كله في شخص ذلك السيد العظيم الذي ربطها القدر به على غير ميعاد، فكان لها السيد والصاحب والأهل والوطن، وصار همُّها أن تظل أبدا موضع حظوته ورضاه.
وكانت تحمل في كيانها سحر مصر، وفي أعطافها أريج الوادي العطر [....].
ولم يَغضِ أبدا ذلك النبع الدافق الذي كان يمدها في كل آن بعذب الحديث وشهى السمر، على أنها كانت مشوقة أبدا لأن تستعيد قصة "هاجر" زميلتها المصرية التي جاءت من أرض النيل، [....].
وطالما شاق "مارية" أن تسمع الحديث عن نجدة السماء التي هدت "هاجر" إلى نبع زمزم، وكيف بدأت الجزيرة العربية بانبثاق ذاك النبع المبارك حياة جديدة، وكيف عاشت "هاجر" ملء التاريخ، وصارت هرولتها ومسعاها بين الصفا والمروة، شعيرة مقدسة من شعائر حج العرب في الجاهلية والإسلام.
وألِفت "مارية" حين كانت تخلو بنفسها، أن تفكر في "هاجر" ومصريتها وأمومتها لاسماعيل وللعرب، فلم تخطئ فيها ملامح شبه بها: فكلتاهما جارية مصرية، وكانت "هاجر" هبة من سارة للنبي ابراهيم(ع)، كما أن "مارية" هبة من المقوقس للنبي محمد (ص) [...].
ولكن "هاجر" كانت أما لولد إبراهيم، فهل تغدو "مارية" أما لولد محمد؟!...
ما أبعد الأمنية، بل ما أدناها من المستحيل!...
لقد تزوج المصطفى (ص) منذ ماتت السيدة خديجة، عشر زوجات، منهن الشابة الفتية، والمرأة الناضجة، ومنهن من كانت ذات ولد. ولكن أرحامهن جميعا أمسكت فما تجود بولد واحد للنبي الذي تخطف الموت أبناءه من خديجة، فلم يدع له سوى ابنة واحدة، هي السيدة "فاطمة الزهراء".
وقد شارفت الستين من عمره، وبدا كأنه كف عن تمني الولد، بعد سنين مجدبة، مع زوجات ذوات عدد.
فأنّى "لمارية" أن يكون لها مثل ما كان "لهاجر" من أمومتها لاسماعيل؟
يا لها من أمنية أبعد من الوهم، ويا له من أمل أوهى من السراب!
بشرى
استقبلت "مارية" عامها الثاني في حياة النبي(ص)، وما تكفّ عن ذكر هاجر، واسماعيل، وابراهيم.
وفجأة أحست بوادر حمل مستكن، فكذبت إحساسها واتهمت يقظتها، وخيل إليها أن المسألة لا تعدو أن تكون وهما جسّمه شوقها الملح إلى الامومة، وتفكيرها الدائم في هاجر واسماعيل.
وكتمت ما بها شهرا وشهرين وهي في ريب من الأمر، لا تدري أحق هو أم ذاك حلم يقظة ورؤيا منام... حتى تجسمت البوادر الأولى وصارت أوضح من أن تتهم.
هنالك أفضت به إلى أختها "سيرين" فأكدت لها أن ليس في الامر وهم ولا شبه وهم، وإنما هو جنين حي.
وأخذ "مارية" من الانفعال والفرح ما قُرب وما بُعد، فما حسبت أن السماء سوف تستجيب لدعائها هكذا، وتحقق أملها الذي بدا عقيما واهيا كالسراب.
واستغرقتها نشوة حالمة، حتى جاء السيد الرسول، فأفضت إليه (ص) بالسر الخطير الذي تجنه أحشاؤها.
وتذكر ما كان يلحظه من توعكها وقلقها وزهدها في الطعام، وهي أعراض عرفها من قبل في "خديجة" في مستهل كل حمل، لكنه حسبها في "مارية" وعكة طارئة لا تلبث أن تزول.
ورفع إلى السماء وجها مشرق الاسارير يشكر لخالقه ذاك العزاء الجميل الذي منَّ به على عبده الرسول، إثر فقده ابنته الغالية "زينب" بعد أن ماتت قبلها رقية، وام كلثوم، ومات عبد الله، والقاسم...
سبحانه، جلَّت قدرته وعظمته آياته، ووسعت رحمته عبده المصطفى، كما وسعت من قبله، عبديه ابراهيم وزكريا:
قال تعالى:
‹هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ*فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ* فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ* قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ›(٥).
ومن آياته تعالى في زكريا والبشرى: ‹قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا›(٦).
لكن "مارية" لم تكن عجوزا، كما لم يكن (ص) عقيما قد بلغ من الكِبَر عِتِيّا! وفاض عالمها المشترك بالهناءة الغبطة.
وسرعان ما سرت البشرى في أنحاء المدينة أن المصطفى (ص) ينتظر مولودا له من "مارية المصرية"[...].
وخاف الرسول على "مارية" فنقلها الى "العالية" بضواحي المدينة، توفيرا لراحتها وسلامتها، وعناية بصحتها وصحة جنينها. وسهر عليها يرعاها، وكذلك فعلت أختها "سيرين" حتى بلغ الجنين أجله، وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة.
ودعا الرسول قابلتها "سلمى": زوج ابي رافع ثم انتحى ناحية من الدار، يصلي ويدعو....
فلما جاءته أم رافع بالبشرى(٧) أكرمها كل الإكرام، وخفّ الى مارية فهنأها بولدها الذي أعتقها من الرق(٨)، ثم حمل وليده بين يديه مستثار الفرح والحب، وسماه "ابراهيم" تيمنا باسم جد الأنبياء.
وتصدق(ص) على مساكين المدينة بوزن شعر الوليد ورقا، وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، [...]، فاختار مرضع ولده، وجعل في حيازتها سبعا من الماعز كي ترضعه بلبنها اذا شح ثدياها(٩).
وراح يرقب نموه يوما بعد يوم، ويجد فيه أنسه ومسرته، ويود لو شاركته دنياه كلها في هذا الأنس.
حمله يوما بين ذراعيه إلى "عائشة" ودعاها في تلطف وبشر، لترى ما في الصغير من ملامح أبيه، فأحست "عائشة" كأن سهما نفذ الى قلبها، وكادت تبكي مما تجد، لكنها أمسكت عبرتها وقالت في غيظ:
- ماأرى بينك وبينه شبها!
وأدرك الرسول على الفور مدى ما تكابد، فانصرف بولده وهو يرثي لعائشة....[....].
وخُيل لمارية انها بلغت مناها، فهذه هي تلد للنبي ولدا كما ولدت "هاجر" لابراهيم لبنه اسماعيل.
وهذه هي محنة الغيرة تنتهي على خير لها.
ولم يسعد "مارية" شيء قدر ما أسعدها أن تهب السيد المصطفى (ص) على اليأس غلاما تقر به عينه، ويتعزى به عمن فقد من أبناء السيدة خديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها.
لكنها لم تنج من غيرة نساء النبي(ص):
في (الإصابة) من طريق عَمرة، بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ما غِرتُ على امرأة إلا دون ما غِرْتُ على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة فأعجب بها رسول الله(ص)، وكان أنزلها أولَ ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان، الأنصاري، فكانت جارتنا فكان عامة الليل والنهار عندها.... فجزعت فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا" زادت في رواية: "ثم رزقها الله الولدَ وحُرِمناه منه".
الهلالُ الغارب
لكن سعادتها لم تطل سوى عام وبعض عام، ثم كانت المحنة الفادحة والثكل المرير...
مرض "ابراهيم" ولمّا يبلغ عامين من عمره، فجزعت أمه ودعت إليها أختها، وقامتا ساهرتين حول فراشه تمرّضانه ونفساهما تذوبان عليه من لهفة وقلق، لكن الحياة أخذت تنطفئ فيه رويدا رويدا... فجاء أبوه [...]، فحمل صغيره من حجر أمه وهو يجود بنفسه، ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة، لا يملك إلا أن يقول في أسى وتسليم:
"إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا" ثم ذرفت عيناه وهو يرى ولده الوحيد يعالج سكرات الموت، ويسمع حشرجة احتضاره، مختلطة بعويل الأم الثكلى والخالة المفجوعة...
وانحنى على جثمان فقيده فقبله والدمع يفيض من عينيه ثم تمالك نفسه فقال: "يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأوّلنا، لحزنّا عليك حزنا هو أشد من هذا. وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون. "تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب"(١٠).
ثم نظر إلى مارية في عطف ورثاء، وقال يواسيها: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعة في الجنة"(١١).
وأقبل ابن عمه (ص) "الفضل بن عباس" فغسَّل الصغير الميت، وأبوه الرسول جالس يرنو اليه في حزن بالغ.
وفي رواية أنه مات في بني مازن عند ظئره أم بردة خولة بنت المنذر بن زيد. وغسَّلته وحُمل من بيتها على سرير صغير وصلّى عليه أبوه، عليه الصلاة والسلام وكبَّر أربعا. ثم سار وراءه إلى البقيع، وأضجعه بيده في قبره، ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء(١٢).
وآب المشيعون الى "المدينة" واجمين، وقد غام الأفق وانكسفت الشمس، فقال قائلهم: "انها انكسفت لموت ابراهيم".
وبلغت الكلمة مسمع النبي(ص)، فالتفت إلى أصحابه يقول:
"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته..."(١٣).
وطوى جرحه في قلبه الكبير صابرا مستسلما لقضاء الله فيه، واعتكفت "مارية" في بيتها تحاول أن تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجرح في قلب السيد الرسول، فاذا عزّ الصبر خرجت الى البقيع فاستوحت لقرب فقيدها، والتمست راحة في البكاء.
ولكن أيامه (ص) لم تطل بعد موت "ابراهيم" في السنة العاشرة للهجرة، فما أهلّ ربيع الاول من السنة التالية حتى شكا (ص)، ثم لحق بربه الاعلى، وترك "مارية" من بعده تعيش خمس سنوات في عزلة عن الناس، لا تكاد تلقى غير أختها سيرين، ولا تكاد تخرج إلا لكي تزور قبر الحبيب بالمسجد، أو قبر ولدها بالبقيع.
[وماتت سنة ست عشرة من الهجرة].[...].
وكل نفس ذائقة الموت، فحسب "مارية" أنها دخلت في حياة النبي (ص)، وان الله آثرها بفخر أمومتها لابراهيم (ع).
وصيّة من النبي صلى الله عليه وسلم
ثم حسبها بعد هذا كله، أن دعمت ما بين مصر والجزيرة العربية من صلة عريقة بدأت بهاجر من أعماق الماضي الموغل في القدم، فجعلت سيدنا خاتم النبيين يوصي بقوم مارية فيقول.
"الله الله! في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فان لهم نسبا وصهرا".
وأخرج مسلم في (باب وصية النبي(ص) بأهل مصر) حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله(ص): "إنكم ستفتحون مصر... فأحسموا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال: "فإن لهم ذمة وصهرا...." الحديث(١٤).
ولقد ترك(ص) هذه الوصية ميراثا بعده[...]
كما يقال إن "عبادة بن الصامت" لما جاء مصر بعد فتحها، بحث عن تلك القرية وسأل عن موضع بيت مارية، فبنى به مسجدا...
___________________
(١)الاستيعاب ٤/١٩١٢، الإصابة: ٨/١٨٥ (قسم أول).
(٢)سيرة ابن هاشم: ١/٧ -وراجع معه القاموس الجغرافي لرمز ي ج١ ط دار الكتب المصرية- وللأستاذ حفني ناصف، بحث في "موطن مارية القبطيّة من الديار المصرية" قدمه إلى مؤتمر المستشرقين بأثينا عام ١٩١٥- رحمه الله.
(٣ و ٤)تاريخ الطبري ٣/٨٥ والمحبر ٩٨، وعيون الأثر ٢/٢٦٦. والنقل منه وفي الهدية، عند ابن سعد: الحمار عفير، أو يعفور حكاه ابن حجر في ترجمة مارية بالإصابة.
(٥)سورة الذاريات، الآيات: ٢٤-٣٠.
(٦)سورة مريم، الآيتان: ٨-٩.
(٧)وفي رواية ان الذي حمل البشرى الى الرسول أبو رافع زوج سلمى- السمط: ١٤٠-وانظر الاستيعاب: ١/٥٤.
(٨)السمط الثمين: ١٤٢-وانظر الاستيعاب: ٤/١٩١٣.
(٩)الاصابة لابن حجر: ﺟ١- والاستيعاب: ١/٥٥.
وفي رواية أنه (ص)، حلق رأس ولده يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة، وذبح كبشين "وفاء الوفاء: ١/٣١٦".
(١٠)الاستيعاب: ١/٥٦ -والنقل فيه- والإصابة: ابراهيم بن محمد(ع). والسمط الثمين١٤٣.
(١١)أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: ٤/١٨٠٨ (ح٢٣١٦).
(١٢)عيون الأثر ٢/٢٩١ -والنقل منها- والاستيعاب من طريق الواقدي ١/٥٦.
(١٣)أخرجه مسلم في صحيحه من عدة طرق. منها حديث جابر بن عبد الله، (٢/٦١٣).
(١٤)صحيح مسلم، كتاب الفضائل ٤/١٩٧٠: ح(٢٥٤٣) والاستيعاب١/٥٩.
المصدر: عبد الرحمن، الكتورة عائشة (بنت الشاطئ): نساء النبي ، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، ١٩٨٥م-١٤٠٦ﻫ.
بتصرف
وغير بعيد من بيت النبي (ص)، في منزل خاص، كانت تقيم سَرِية للنبي (ص) لم تحظ بلقب أم المؤمنين، ولكنها حظيت دونهن جميعا بشرف أمومتها لابنه ابراهيم (ع) إلى جانب حظوتها، مثلهن، بشرف الصحبة(١).
وهي لم تقم في دور النبي الملحقة بالمسجد، إلا أن أثرها في هذه الدور وساكناتها كان جد بعيد.
فمن تكون هذه السرية. وكيف دخلت حياته (ص)؟ وأي موضع كان لها في هذه الحياة؟
في قرية من صعيد مصر، تدعى "حفن" قريبة من بلدة "أنصنا"(٢) الواقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونين، ولدت "مارية بنت شمعون" لأب قبطي، وأم مسيحية رومية.
وأمضت بها حداثتها الأولى قبل أن تنتقل في مطلع شبابها الباكر مع أختها "سيرين" الى قصر "المقوقس" عظيم القبط.
وقد سمعت هنالك بما كان من ظهور نبي في جزيرة العرب يدعو الى دين سماوي جديد، وكانت في القصر حين وفد "حاطب بن أبي بلتعة" موفدا من هذا النبي العربي يحمل رسالة إلى المقوقس.
وأذن في الدخول، فأدى الرسالة:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
"من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام عاى من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط. يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا: اشهد بأنا مسلمون"(٣).
وقرأ المقوقس الكتاب ثم طواه في عناية وتوقير، ووضعه في حُقٍّ من عاج دفعه إلى واحدة من جواريه.
والتفت من بعد ذلك إلى "حاطب" يسأله أن يحدثه عن النبي (ص) ويصفه له، فلما فعل، فكر المقوقس مليا ثم قال لحاطب:
"قد كنت أعلم أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وهناك كان مخرج الأنبياء، فأراه قد خرج من أرض العرب... ولكن القبط لا تطاوعني" وضنَّ بملكه أن يفارقه.
ثم دعا بكاتبه فأملى عليه رده:
"... أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت من ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام....
"وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وبكسوة، ومطية لتركبها، والسلام عليك"(٤).
ودفع "المقوقس" كتابه إلى "حاطب" معتذرا بما يعلم من تمسك القبط بدينهم، وموصيا إياه بأن يكتم ما دار بينهما، فلا يسمع القبط منه حرفًا واحدًا.
وانطلق "حاطب" عائدًا إلى النبي (ص)، ومعه "مارية" وأختها "سيرين" [...]، وألف مثقال ذهبا، وعشرون ثوبا لينا من نسج مصر، وبغلة شهباء (دلدل) وجانب من عسل "بنها" وبعض العود والند والمسك.
وشعرت الأختان بوحشة لفراق الوطن، فسارتا تملآن أعينهما من الوادي الحبيب، حتى إذا غابت عنهما آخر معالمه، ألقتا نظرة وداع دامعة، على الأرض التي حُلَّت فيها تمائمها، ودرج عليها صباهما.
وأحس "حاطب" ما تجد الأختان الشابتان من شجن الفراق، فأقبل عليهما يحدثهما عن تاريخ لبلاده عريق، ويروي لهما ما وعى من قصص وأساطير نسجهما الزمان حول مكة والحجاز طوال قرون لا عداد لها، ثم انثنى يتحدث عن النبي (ص)، حديث مؤمن وامق وتابع صاحب، فأخذت الشابتان بما سمعتا وانشرح قلباهما للاسلام ونبيه الكريم.
واستغرقهما التفكير في الحياة الجديدة التي توشك ان تستقبلهما، وفي السيد النبي الذي ينتظر في "المدينة" رجوع صاحبه "حاطب" برد المقوقس. وفي الإصابة، من طريق ابن سعد، أن حاطبا عرض الإسلام على مارية ورغبها فيه، فأسلمت هي وأختها.
حتى بلغ الركب المدينة سنة سبع من الهجرة، وقد عاد النبي(ص) من "الحديبية" بعد أن عقد الهدنة مع قريش.
وتلقى(ص) كتاب المقوقس، وهدية مصر...
وأعجبته "مارية" فاكتفى بها، ووهب أختها "سيرين" لشاعره "حسان بن ثابت".
وطار النبأ إلى دور النبي، أن شابة مصرية حلوة، جعدة الشعر، جذابة الملامح، قد جاءت من أرض النيل هدية النبي (ص) فأنزلها بمنزل لحارثة بن النعمان، قرب المسجد.
وتكلفت "عائشة" ما استطاعت من جهد، لكي تعلل نفسها بألا خطر عليها من هذه الشابة الجديدة، فما كانت سوى جارية قبطية غريبة، أهداها سيد إلى سيد.
لكنها راحت ترقب في كثير من القلق، مظاهر اهتمام الرسول بتلك المصرية الطارئة، وقد أثار جزعها أن تراه (ص) يكثر من التردد عليها [...].
طيف وأمل
ومضى عام ونحو عام، و"مارية" سعيدة بحظوتها لدى السيد الرسول(ص)، قد اطمأن بها المقام في كنفه، وأرضاها أن يضرب عليها الحجاب، شأن أمهات المؤمنين.
وانحصرت أمانيها وخواطرها، بل انحصر وجودها كله في شخص ذلك السيد العظيم الذي ربطها القدر به على غير ميعاد، فكان لها السيد والصاحب والأهل والوطن، وصار همُّها أن تظل أبدا موضع حظوته ورضاه.
وكانت تحمل في كيانها سحر مصر، وفي أعطافها أريج الوادي العطر [....].
ولم يَغضِ أبدا ذلك النبع الدافق الذي كان يمدها في كل آن بعذب الحديث وشهى السمر، على أنها كانت مشوقة أبدا لأن تستعيد قصة "هاجر" زميلتها المصرية التي جاءت من أرض النيل، [....].
وطالما شاق "مارية" أن تسمع الحديث عن نجدة السماء التي هدت "هاجر" إلى نبع زمزم، وكيف بدأت الجزيرة العربية بانبثاق ذاك النبع المبارك حياة جديدة، وكيف عاشت "هاجر" ملء التاريخ، وصارت هرولتها ومسعاها بين الصفا والمروة، شعيرة مقدسة من شعائر حج العرب في الجاهلية والإسلام.
وألِفت "مارية" حين كانت تخلو بنفسها، أن تفكر في "هاجر" ومصريتها وأمومتها لاسماعيل وللعرب، فلم تخطئ فيها ملامح شبه بها: فكلتاهما جارية مصرية، وكانت "هاجر" هبة من سارة للنبي ابراهيم(ع)، كما أن "مارية" هبة من المقوقس للنبي محمد (ص) [...].
ولكن "هاجر" كانت أما لولد إبراهيم، فهل تغدو "مارية" أما لولد محمد؟!...
ما أبعد الأمنية، بل ما أدناها من المستحيل!...
لقد تزوج المصطفى (ص) منذ ماتت السيدة خديجة، عشر زوجات، منهن الشابة الفتية، والمرأة الناضجة، ومنهن من كانت ذات ولد. ولكن أرحامهن جميعا أمسكت فما تجود بولد واحد للنبي الذي تخطف الموت أبناءه من خديجة، فلم يدع له سوى ابنة واحدة، هي السيدة "فاطمة الزهراء".
وقد شارفت الستين من عمره، وبدا كأنه كف عن تمني الولد، بعد سنين مجدبة، مع زوجات ذوات عدد.
فأنّى "لمارية" أن يكون لها مثل ما كان "لهاجر" من أمومتها لاسماعيل؟
يا لها من أمنية أبعد من الوهم، ويا له من أمل أوهى من السراب!
بشرى
استقبلت "مارية" عامها الثاني في حياة النبي(ص)، وما تكفّ عن ذكر هاجر، واسماعيل، وابراهيم.
وفجأة أحست بوادر حمل مستكن، فكذبت إحساسها واتهمت يقظتها، وخيل إليها أن المسألة لا تعدو أن تكون وهما جسّمه شوقها الملح إلى الامومة، وتفكيرها الدائم في هاجر واسماعيل.
وكتمت ما بها شهرا وشهرين وهي في ريب من الأمر، لا تدري أحق هو أم ذاك حلم يقظة ورؤيا منام... حتى تجسمت البوادر الأولى وصارت أوضح من أن تتهم.
هنالك أفضت به إلى أختها "سيرين" فأكدت لها أن ليس في الامر وهم ولا شبه وهم، وإنما هو جنين حي.
وأخذ "مارية" من الانفعال والفرح ما قُرب وما بُعد، فما حسبت أن السماء سوف تستجيب لدعائها هكذا، وتحقق أملها الذي بدا عقيما واهيا كالسراب.
واستغرقتها نشوة حالمة، حتى جاء السيد الرسول، فأفضت إليه (ص) بالسر الخطير الذي تجنه أحشاؤها.
وتذكر ما كان يلحظه من توعكها وقلقها وزهدها في الطعام، وهي أعراض عرفها من قبل في "خديجة" في مستهل كل حمل، لكنه حسبها في "مارية" وعكة طارئة لا تلبث أن تزول.
ورفع إلى السماء وجها مشرق الاسارير يشكر لخالقه ذاك العزاء الجميل الذي منَّ به على عبده الرسول، إثر فقده ابنته الغالية "زينب" بعد أن ماتت قبلها رقية، وام كلثوم، ومات عبد الله، والقاسم...
سبحانه، جلَّت قدرته وعظمته آياته، ووسعت رحمته عبده المصطفى، كما وسعت من قبله، عبديه ابراهيم وزكريا:
قال تعالى:
‹هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ*فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ* فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ* قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ›(٥).
ومن آياته تعالى في زكريا والبشرى: ‹قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا›(٦).
لكن "مارية" لم تكن عجوزا، كما لم يكن (ص) عقيما قد بلغ من الكِبَر عِتِيّا! وفاض عالمها المشترك بالهناءة الغبطة.
وسرعان ما سرت البشرى في أنحاء المدينة أن المصطفى (ص) ينتظر مولودا له من "مارية المصرية"[...].
وخاف الرسول على "مارية" فنقلها الى "العالية" بضواحي المدينة، توفيرا لراحتها وسلامتها، وعناية بصحتها وصحة جنينها. وسهر عليها يرعاها، وكذلك فعلت أختها "سيرين" حتى بلغ الجنين أجله، وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة.
ودعا الرسول قابلتها "سلمى": زوج ابي رافع ثم انتحى ناحية من الدار، يصلي ويدعو....
فلما جاءته أم رافع بالبشرى(٧) أكرمها كل الإكرام، وخفّ الى مارية فهنأها بولدها الذي أعتقها من الرق(٨)، ثم حمل وليده بين يديه مستثار الفرح والحب، وسماه "ابراهيم" تيمنا باسم جد الأنبياء.
وتصدق(ص) على مساكين المدينة بوزن شعر الوليد ورقا، وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، [...]، فاختار مرضع ولده، وجعل في حيازتها سبعا من الماعز كي ترضعه بلبنها اذا شح ثدياها(٩).
وراح يرقب نموه يوما بعد يوم، ويجد فيه أنسه ومسرته، ويود لو شاركته دنياه كلها في هذا الأنس.
حمله يوما بين ذراعيه إلى "عائشة" ودعاها في تلطف وبشر، لترى ما في الصغير من ملامح أبيه، فأحست "عائشة" كأن سهما نفذ الى قلبها، وكادت تبكي مما تجد، لكنها أمسكت عبرتها وقالت في غيظ:
- ماأرى بينك وبينه شبها!
وأدرك الرسول على الفور مدى ما تكابد، فانصرف بولده وهو يرثي لعائشة....[....].
وخُيل لمارية انها بلغت مناها، فهذه هي تلد للنبي ولدا كما ولدت "هاجر" لابراهيم لبنه اسماعيل.
وهذه هي محنة الغيرة تنتهي على خير لها.
ولم يسعد "مارية" شيء قدر ما أسعدها أن تهب السيد المصطفى (ص) على اليأس غلاما تقر به عينه، ويتعزى به عمن فقد من أبناء السيدة خديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها.
لكنها لم تنج من غيرة نساء النبي(ص):
في (الإصابة) من طريق عَمرة، بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "ما غِرتُ على امرأة إلا دون ما غِرْتُ على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة فأعجب بها رسول الله(ص)، وكان أنزلها أولَ ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان، الأنصاري، فكانت جارتنا فكان عامة الليل والنهار عندها.... فجزعت فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا" زادت في رواية: "ثم رزقها الله الولدَ وحُرِمناه منه".
الهلالُ الغارب
لكن سعادتها لم تطل سوى عام وبعض عام، ثم كانت المحنة الفادحة والثكل المرير...
مرض "ابراهيم" ولمّا يبلغ عامين من عمره، فجزعت أمه ودعت إليها أختها، وقامتا ساهرتين حول فراشه تمرّضانه ونفساهما تذوبان عليه من لهفة وقلق، لكن الحياة أخذت تنطفئ فيه رويدا رويدا... فجاء أبوه [...]، فحمل صغيره من حجر أمه وهو يجود بنفسه، ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة، لا يملك إلا أن يقول في أسى وتسليم:
"إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا" ثم ذرفت عيناه وهو يرى ولده الوحيد يعالج سكرات الموت، ويسمع حشرجة احتضاره، مختلطة بعويل الأم الثكلى والخالة المفجوعة...
وانحنى على جثمان فقيده فقبله والدمع يفيض من عينيه ثم تمالك نفسه فقال: "يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأوّلنا، لحزنّا عليك حزنا هو أشد من هذا. وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون. "تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب"(١٠).
ثم نظر إلى مارية في عطف ورثاء، وقال يواسيها: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعة في الجنة"(١١).
وأقبل ابن عمه (ص) "الفضل بن عباس" فغسَّل الصغير الميت، وأبوه الرسول جالس يرنو اليه في حزن بالغ.
وفي رواية أنه مات في بني مازن عند ظئره أم بردة خولة بنت المنذر بن زيد. وغسَّلته وحُمل من بيتها على سرير صغير وصلّى عليه أبوه، عليه الصلاة والسلام وكبَّر أربعا. ثم سار وراءه إلى البقيع، وأضجعه بيده في قبره، ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء(١٢).
وآب المشيعون الى "المدينة" واجمين، وقد غام الأفق وانكسفت الشمس، فقال قائلهم: "انها انكسفت لموت ابراهيم".
وبلغت الكلمة مسمع النبي(ص)، فالتفت إلى أصحابه يقول:
"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته..."(١٣).
وطوى جرحه في قلبه الكبير صابرا مستسلما لقضاء الله فيه، واعتكفت "مارية" في بيتها تحاول أن تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجرح في قلب السيد الرسول، فاذا عزّ الصبر خرجت الى البقيع فاستوحت لقرب فقيدها، والتمست راحة في البكاء.
ولكن أيامه (ص) لم تطل بعد موت "ابراهيم" في السنة العاشرة للهجرة، فما أهلّ ربيع الاول من السنة التالية حتى شكا (ص)، ثم لحق بربه الاعلى، وترك "مارية" من بعده تعيش خمس سنوات في عزلة عن الناس، لا تكاد تلقى غير أختها سيرين، ولا تكاد تخرج إلا لكي تزور قبر الحبيب بالمسجد، أو قبر ولدها بالبقيع.
[وماتت سنة ست عشرة من الهجرة].[...].
وكل نفس ذائقة الموت، فحسب "مارية" أنها دخلت في حياة النبي (ص)، وان الله آثرها بفخر أمومتها لابراهيم (ع).
وصيّة من النبي صلى الله عليه وسلم
ثم حسبها بعد هذا كله، أن دعمت ما بين مصر والجزيرة العربية من صلة عريقة بدأت بهاجر من أعماق الماضي الموغل في القدم، فجعلت سيدنا خاتم النبيين يوصي بقوم مارية فيقول.
"الله الله! في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فان لهم نسبا وصهرا".
وأخرج مسلم في (باب وصية النبي(ص) بأهل مصر) حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله(ص): "إنكم ستفتحون مصر... فأحسموا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال: "فإن لهم ذمة وصهرا...." الحديث(١٤).
ولقد ترك(ص) هذه الوصية ميراثا بعده[...]
كما يقال إن "عبادة بن الصامت" لما جاء مصر بعد فتحها، بحث عن تلك القرية وسأل عن موضع بيت مارية، فبنى به مسجدا...
___________________
(١)الاستيعاب ٤/١٩١٢، الإصابة: ٨/١٨٥ (قسم أول).
(٢)سيرة ابن هاشم: ١/٧ -وراجع معه القاموس الجغرافي لرمز ي ج١ ط دار الكتب المصرية- وللأستاذ حفني ناصف، بحث في "موطن مارية القبطيّة من الديار المصرية" قدمه إلى مؤتمر المستشرقين بأثينا عام ١٩١٥- رحمه الله.
(٣ و ٤)تاريخ الطبري ٣/٨٥ والمحبر ٩٨، وعيون الأثر ٢/٢٦٦. والنقل منه وفي الهدية، عند ابن سعد: الحمار عفير، أو يعفور حكاه ابن حجر في ترجمة مارية بالإصابة.
(٥)سورة الذاريات، الآيات: ٢٤-٣٠.
(٦)سورة مريم، الآيتان: ٨-٩.
(٧)وفي رواية ان الذي حمل البشرى الى الرسول أبو رافع زوج سلمى- السمط: ١٤٠-وانظر الاستيعاب: ١/٥٤.
(٨)السمط الثمين: ١٤٢-وانظر الاستيعاب: ٤/١٩١٣.
(٩)الاصابة لابن حجر: ﺟ١- والاستيعاب: ١/٥٥.
وفي رواية أنه (ص)، حلق رأس ولده يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة، وذبح كبشين "وفاء الوفاء: ١/٣١٦".
(١٠)الاستيعاب: ١/٥٦ -والنقل فيه- والإصابة: ابراهيم بن محمد(ع). والسمط الثمين١٤٣.
(١١)أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: ٤/١٨٠٨ (ح٢٣١٦).
(١٢)عيون الأثر ٢/٢٩١ -والنقل منها- والاستيعاب من طريق الواقدي ١/٥٦.
(١٣)أخرجه مسلم في صحيحه من عدة طرق. منها حديث جابر بن عبد الله، (٢/٦١٣).
(١٤)صحيح مسلم، كتاب الفضائل ٤/١٩٧٠: ح(٢٥٤٣) والاستيعاب١/٥٩.
المصدر: عبد الرحمن، الكتورة عائشة (بنت الشاطئ): نساء النبي ، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، ١٩٨٥م-١٤٠٦ﻫ.
بتصرف
اترك تعليق