مصدر واجبات المرأة وحقوقها في الشريعة الإسلاميّة
أما الواجبات التي أناطتها الشريعة الإسلاميّة بالمرأة، فمصدرها شيء واحد، هو عبوديّة المرأة لله عز وجل.
وعبوديّة الإنسان لله عز وجل، من أولى حقائق الدين الإسلامي، بل هي من أولى الحقائق الكونيّة وأشدّها بداهة، وهي من أولى مستلزمات اليقين بوجود الله عز وجل. ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه الحقيقة أو عرض الأدلة عليها.
وواضح أنه لا فرق في هذه الحقيقة بين الرجل والمرأة؛ إذ إنّ العبوديّة فرع عن المملوكيّة، ولا شك أنّ كلّاً من الرجل والمرأة مملوك لله عز وجل؛ فاطر كل شيء، ومن ثم فإنّ عبوديتهما لله واحدة في حقيقتها وقدرها، ولا مجال لفهم أي تفاوت ما بين الرجل والمرأة فيها.
والنتيجة التي تتفرع عن ذلك، تتمثل في أنّ الواجبات التي كلّف الله بها عباده الرجال هي نفسها التي كلّف بها إماءه النساء.
وكثيراً ما يعبَّر عن هذه الواجبات بحقوق الله عز وجل. ومن ذلك ما رواه مسلم بسنده من حديث معاذ أنّ رسول الله(ص) قال: "حق الله على العباد أن يُعْبَد ولا يُشرك به شيء. وحق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئاً أن لا يعذبهم"(1).
فقد جمع هذا الحديث بين ما نسميه هنا الحقوق والواجبات، معبِّراً عن الأولى بحقوق العباد وعن الثانية بحقوق الله، ويتفرع كل منهما إلى أحكام كثيرة شتى. وكل ما تقرؤه في الشريعة الإسلاميّة من المبادئ والأحكام المتنوعة الكثيرة، إما أن تراه داخلاً في حقل الواجبات، أي ما يُسمى بحقوق الله، أو تراه داخلاً في حقل الحقوق، أي ما يُسمى بحقوق العباد.
وإذا تأمّلت في قول رسول الله(ص) في الحديث السابق: "حق الله على العباد.." أدركت أنّ كلمة (العباد) هنا ليست خاصة بالرجال، بل هي شاملة للنساء والرجال، على طريقة التغليب، وهذا ما يؤكد أنّ الواجبات التي كلّف الله بها عباده، لا تفاوت فيها بين الرجال والنساء.
ولكن قد يُقال: فما بال الرجال يخاطبون بتكاليف لا تُخاطب بها النساء، وما بال النساء يخاطبن بتكاليف لا يخاطب بها الرجال؟ فمن النوع الأول واجب الإنفاق على الأسرة وواجب السعي إلى أداء صلاة الجمعة؛ فالرجال وحدهم هم المكلفون بذلك. ومن النوع الثاني واجب الحضانة وواجب ستر المفاتن عن الرجال الأجانب؛ فالنساء وحدهن قد كلّفن بذلك.
والجواب أنّ هذا الاختلاف ليس آتياً من فرق ما بين الذكورة والأنوثة أو ما بين الرجال والنساء، وإنما هو آتٍ من عوامل خارجيّة أخرى تتعلق بالحكمة أو المصالح التي شرعت من أجلها هذه التكاليف.
فصلاة الجمعة مثلاً شرعت دعماً لوحدة المسلمين وجمع كلمتهم. وإنما تبرز قيمة هذه الحكمة عندما لا تفوِّت مصلحة أهم منها. فغن عارضتها مصلحة أهم، سقط وجوب صلاة الجمعة إيثاراً لتلك المصلحة، بقطع النظر عن كون المصلي رجلاً أو امرأة. فالرجل الذي يكلّفه حضور صلاة الجمعة ترك مريض يمرضه، دون أن يكون ثمّة مَن يقوم مقامه، لا تجب في حقه صلاة الجمعة، بل الأولى به أن يبقى إلى جانب ذلك المريض يؤنسه ويرعى شأنه، ولمّا كان حضور المرأة في المسجد لصلاة الجمعة مظنّة إهمال لهذه المصلحة نفسها، متمثلة في رعاية وخدمة صغارها، سقط عنها وجوب الحضور لأداء هذه الصلاة، للسبب ذاته اقتضى سقوط الوجوب في حق الرجل في المثال المشابه الذي ذكرناه. المهم أنّ وصف الأنوثة لم يلعب أي دور في إسقاط الوجوب، كما أنّ وصف الذكورة لم يلعب أي دور في إثباته.
ومن أوضح الأدلة على هذا أنّ المرأة إذا اشتركت مع الرجال في حضور صلاة الجمعة وأدائها، صحّت جمعتها وأجزأتها عن صلاة الظهر، شأنها في ذلك كشأن الرجل الذي سقط عنه وجوب صلاة الجمعة للعذر ذاته، وحضر مع ذلك الجمعة وأدّاها، فإنها تجزئه. والقاعدة في ذلك أنّ كل مَن صحت ظُهره صحّت جُمعته(2).
أما واجب الإنفاق على الأسرة من زوجة وأولاد، فإنما أُنيط بالرجل أباً أو زوجاً، دون غيره، لأنه المباشر الأول لعمليّة الاكتساب والرزق. وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة لِحِكم وأسباب اجتماعيّة سنشرحها في حينها إن شاء الله. ومن أهم أسباب استمرار هذه السنة على الرغم من تبدّل الأعراف وتطوّر الحضارات، أنّ المرأة لو زجّ بها في مجال الكسب والارتزاق بحيث حلّت في ذلك محل الرجل أو ساوته في هذه المهمة، فإنّ أقدس وظيفة اجتماعيّة، وهي رعاية الطفولة وتنشئتها على نهج سوي، تُترك بدون راعٍ ولا مسؤول، إذ الرجل لا يقوى على النهوض بهذه المهمة بدلاً عنها. والمهم أن تعلم بأنّ أنوثة المرأة وذكورة الرجل ليس لأيّ منهما دخل في هذا الأمر، وإنما العامل الأساسي هو السبب الذي ذكرته لك.
وكذلك القول في وجوب الجهاد. فإنّ من أبرز شروط وجوبه أن لا يستلزم الخروج من أجله والتلبّس به ترك واجب آخر يفضله أو يساويه في الأهميّة، فإن استلزم الخروج للجهاد ذلك، سقط حكم وجوبه لهذا السبب، بقطع النظر عن كون المجاهد رجلاً أو امرأة.
ومن تطبيقات هذا الحكم على الرجال قول رسول الله(ص) لمن جاء يستأذنه في الخروج للجهاد: "أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد"(3).
وليس سقوط الجهاد عن المرأة إلا من تطبيقات هذا الحكم ذاته؛ إذ إنّ خروجها للجهاد مظنّة لتخليها عما هو أهم منه، من رعاية أولادها والقيام بشأنهم. والأنوثة والذكورة لا تلعب أي دور في ذلك قط.
وآية هذا الذي نقول، أنّ خطورة الجهاد إذا ارتفعت إلى مستوى النفير العام الذي يتسبب عن اقتحام أعداء المسلمين أرضاً للمسلمين أو العدوان على حقّ لهم، وجب الجهاد عندئذ على الجميع، لأن أهميته تسمو على المصالح الأخرى التي يتسبب عنها سقوط وجوب الجهاد الدوري، أي الذي يكون خارج المجتمع الإسلامي.
والكلام ذاته يُقال عن واجب الحضانة الذي أُنيط بالنساء دون غيرهن، وواجب ستر المفاتن الذي خوطبت به النساء دون الرجال.
فلو كُلّف الرجال بحضانة الأطفال، لتطلب ذلك إعراضهم عما هو أهم من ذلك بالنسبة إليهم، وهو واجب النهوض بمسؤوليّات اجتماعيّة واقتصاديّة شتى لا تقوى النساء على النهوض بها.
أما واجب ستر المفاتن، فلو كانت المرأة تُفتن من الرجل بمثل ما يُفتن الرجل منها به، لاتجه الواجب ذاته إلى الرجل كما اتجه إلى المرأة، ولكن الله الذي فطر عباده، رجالاً ونساءً، على ما شاء أن يفطرهم عليه من الصفات والطبائع، علم أنّ الذي يستهوي المرأة من مزايا الرجل وصفاته غير الذي يستهوي الرجل من المرأة من المزايا والصفات، فاختلف شرعه في ذلك تبعاً لاختلاف الطبائع والمحبّبات بينهما.
ومع ذلك فقد تساوى الحكم في القدر المشترك من هذا الأمر بين الرجل والمرأة؛ وهو وجوب ستر ما بين السرة والركبة منهما؛ ذلك لأنّ معنى الفتنة في هذا القدر من الجسم متساو بينهما، متحد في تأثيره عليهما.
ومجمل القول أنّ وصف الذكورة والأنوثة لا مدخل له بحدّ ذاته في اختلاف ما بين الرجل والمرأة من أحكام الواجبات، وإنّما مرد هذا الاختلاف، إن وجد، لى عوارض وأحوال خارجية كالتي ضربنا أمثلة بها. وقد رأينا أنّ من شأن هذه العوارض أن تسبب اختلافاً بين الرجال أنفسهم أو بين النساء أنفسهن، في توجه الأمر الإلهي إليهم بكثير من هذه الأحكام.
وبوسعك أن تلاحظ هذا الذي قلناه مفصّلاً، وأن تتأكد منه، في الخبر التالي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والنّسائي في سننه من حديث أم سلمة، أنها قالت لرسول الله(ص): ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟ فأنزل الله قوله: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(سورة الأحزاب، الآية: 35).
فأنت ترى كيف أنّ الله نظم النساء والرجال معاً في سلك واحد من الواجبات التي تشمل مجمل التكاليف التي شرعها الله تعالى لعباده، دون أن يقيم وزناً لصفة الذكورة أو الأنوثة في التفريق بين شيء من هذه الأحكام.
إذن، فمصدر الواجبات التي كلّف الله بها المرأة إنما هو واقع عبوديتها لله عز وجل.
أما مصدر الحقوق التي متع الله بها المرأة عن طريق دينه وشريعته فإنما هو إنسانيتها.
وكما أن تساوي الرجل مع المرأة في صفة العبوديّة لله، استوجب تساويهما في الواجبات كما رأينا، فإنّ تساوي الرجل مع المرأة في الإنسانيّة يستوجب تساويهما أيضاً في الحقوق، وهذا ما سيتضح لنا مفصّلاً في البحوث التالية إن شاء الله.
فإن رأيت أنّ اختلافاً يظهر بين الرجل والمرأة في شيء من الحقوق التي شرّعها الله تعالى لعباده، فإنّ مردّ ذلك ليس إلى عامل الأنوثة بحدّ ذاتها، بل إلى عوارض خارجيّة قد تقترن بالرجل آناً وقد تقترن بالمرأة آناً آخر، وربما ظلّت متلبسة بالمرأة لظرف وأسباب تفرضها الأوضاع الاجتماعيّة غالباً. وهذا ما سنبدأ الخوض في بيانه مفصّلاً، بعد هذا الفصل التمهيدي إن شاء الله.
الهوامش:
1- نص الحديث بكامله هكذا: قال رسول الله(ص): "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يُعبد الله ولا يُشرك به شيء، قال: أتدري ما حقّهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ فقال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذّبهم".
2- انظر: الهداية للمرغيناني، 1/59؛ الشرح الصغير للدردير، 1/494؛ مغني المحتاج بشرح المنهاج للشربيني؛ 1/ 277.
3- رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وفي رواية لمسلم: "أنّ رجلاً أقبل إلى رسول الله(ص) فقال: أُبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله. قال: فهل لك من والديك أحد حيّ؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".
المصدر: البوطي، د. محمد سعيد رمضان: المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني. ط1، دار الفكر، دمشق، 1996م.
اترك تعليق