مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

وقفة المرأة المسلمة في جبل عامل: انتصار للأصالة

وقفة المرأة المسلمة في جبل عامل: انتصار للأصالة

  
         

  قد يوحي العنوان بأن هذه محاولة تستهدف اعطاء الدروس في كيفية الجهاد أو المقاومة، ولكنني أود التأكيد منذ البداية أنها ليست سوى محاولة فهم لظاهرة قائمة فعلاً ومحاولة تعلّم متواضعة من الواقع الذي تخطى التنظير بمسافة بعيدة، وهذا ما يحصل في كل مرة يحدث فيها تغيرات جذرية وعميقة فتصبح عندها الفئات الشعبية هي التي تنير الطريق أمام مثقفيها، وكما يقول الامام الخميني: "إننا في عصر، ينبغي أن تضيء الشعوب الطريق فيه لمثقفيها، وأن تنقذهم من الانهيار والضعف أمام الشرق و الغرب، فاليوم حركة الشعوب وهي التي ينبغي أن توجه من كان يوجهها من قبل".
فما المقصود بالمقاومة والجهاد، هل المقصود المقاومة المسلحة العسكرية أم المدنية أم ماذا؟

   هنا لا بدّ من العودة إلى أهم شعار طرح في بدايات المقاومة وكان بمثابة الشرارة التي أشعلتها بكل أشكالها، ألا وهو شعار الشيخ الشهيد راغب حرب:
"الموقف سلاح والمصفحة اعتراف".
 من الملاحظ أن هذا الشعار هو تعبير دقيق وشامل لنوعية المقاومة الجنوبية ولمعناها ومقصدها والتي النساء من أهم المشاركات فيها، فمن التظاهرة إلى الاعتصام إلى التصدي للعدو بالهتاف والغضب والحجارة والزيت المغلي إلى قطع الطرق وإشعال الدواليب على مشاركتهن المسلحة... وكان الغطاء لذلك كله موقفاً فقهياً هاماً يستجيب للمرحلة وهو أن "التعامل مع اسرائيل حرام".
  إن هذه المشاركة النسائية الواسعة والعضوية أربكت العدو وأدهشت قطاعات واسعة من الناس، خاصة أنها صدرت عن فئة سكانية عادة ما تعرف على أنها فئة  [...] مقهورة، محجورة، محتجبة خلف قضبان العادات والتقاليد المتحجرة وباختصار حبيسة المنزل مما يعني غيابها عن أية مشاركة سياسية أو اجتماعية فعالة، أي غيابها باختصار عن المشاركة فيما يسمى الحياة العامة.
ومن الطبيعي أن امرأة من المفروض هذه مواصفاتها تثير الدهشة والاستغراب عندما تدافع بهذا الحزم وهذه الصلابة عن ممتلكات لاتخصها (حسب الأدب النسائي الشائع)، إذ أنها تخص الرجل، وعن أرض لا ترثها (حسب الممارسات الاجتماعية اللاإسلامية)، وعن أسرة ورجال هم سبب وضعيتها الدونية!
فهل هذه هي حال المرأة العاملية المجاهدة! وما سبب مقاومتها وجهادها!
هناك من يفسّر هذه المقاومة من منطلقات مادية، فيجد في الفقر سبباً للمقاومة والصمود. ذلك أن الفقراء يحاربون إذ لا شيء لديهم يخسرونه، ولكن متى كان الفقر فعلاً سبباً كافياً للثورة!
وهل تشكو دول العالم الثالث، ناهيك عن الدول الغنية من ندرة الفقراء!... لمَ لا يثورون إذاً؟!!
  لمَ هذه المشاهد المتكررة على شاشات التلفزيون لأطفال يموتون جوعاً، تنتفخ بطونهم بالماء وتضمر عضلاتهم وتتقرح عيونهم وتنتفخ ألسنتهم ويصبح الذباب جزءاً من اجسادهم الضعيفة ونرى الأمهات ينظرن إليهم بصمت غريب وعميق، أليس هذا فقراً، لمَ لا يثورون إذاً، لمَ لا يحطمون أنظمتهم التابعة التي تشتري الكماليات وتتركهم يموتون جوعاً، لمَ لا تثور شعوب العالم الثالث على الحكومات الغربية التي ترمي بفائض انتاجها في البحر أو تتكلف أضعاف سعره لتخزنه في البرادات أو تحرقه حفاظاً على السعر العالمي المرتفع للسلعة!!!
الانسان يتحرك ويثور من أجل فكرة، من أجل الايمان من أجل عقائد وليس بسبب الفقر والجوع، ذلك أن الفقر والجوع يسحقان الانسان ويقضيان على انسانيته فيتحول إلى كمّ لا يثير الخوف...
إن المؤمن هو الذي يثير الخوف أكان جائعاً أو شبعاناً، وطبعاً تزداد ثورته عندما يكون جائعاً ومؤمناً، ويقولون في بلادنا "الفقير هو فقير الدين وليس فقير المال"، وكما ورد في القرآن الكريم  «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد 11)
وتبرهن الأحداث يومياً بأن الايمان هو من أمضى الأسلحة المستعملة في هذه المعركة، الإيمان بالله، الإيمان بالحق.
 
  والمرأة العاملية لا تزال تعطينا الدروس الفعلية منذ الاجتياح الاسرائيلي، هذه المرأة التي قد لا تعرف شيئاً عن الثقافة الحديثة وقد لا تحب المرأة الحديثة أن ترى نفسها من خلالها، إنها امرأة متواضعة، بسيطة الملابس والهيئة، وقد تكون فقيرة أو غير غنية مادياً.
فلاحة أو حرفية ولكنها مؤمنة، مؤمنة بالله وبتاريخها وبثقافتها، لقد حافظت على هذا التاريخ بشكل دوري دون ملل، فحفظت القرآن، وقرأت واستمعت إلى السيرة الحسينية في المجالس المقامة دورياً لحفظ الذكرى واختزانها وإعادة إنتاجها.
عرفت أهمية هذه الشعائر وحافظت عليها، بالرغم من نعتها حسب تعابير المرحلة بالرجعية والتخلف والسلوك النكوصي والمازوشية، وبكت سنوياً على الزهراء عليها السلام وعلى السيدة زينب عليها السلام، واستذكرت مثالهما ونموذجهما وتماهت معهما مما حدا ببعض المثقفين لأن يرى فيه ضياعاً للمرأة الجنوبية وفقداناً لهويتها ومرجعيتها، إذ كيف تكون هذه الرموز مرجعية ممكنة في أذهانهم المستلبة بالغرب والقيم الغربية، وتراءى أن هذا السلوك يشكل بكاءاً على الأطلال وإلهاءً للجماهير وإبعاداً لها عن القضية القومية الكبرى قضية التحرير من العدو الصهيوني، لكننا رأينا جميعاً والدة الشهيد (الشيخ) راغب حرب تقف على أطلال منزلها المهدّم من قبل العدو الصهيوني بكل ثبات وعزم قائلةً: "دمّروا ما شئتم من المنازل والحجارة، فسوف ننصب فوق الركام خيمة نسكنها ونحتذي بالحسين الذي كان يسكن الخيم"، لقد عرفت أم الشهيد راغب حرب أن تعيد الاعتبار لهذا التاريخ ولهذا التراث لقد عرفت توظيف هذا التراث واستخدامه، أن حب المرأة العاملية للحسين عليها السلام والزهراء عليها السلام، الانسانة الحرة المدافعة عن حقها دفعها للاحتذاء بهما وللتضحية بأعز ما تملك دفاعاً عن الأفكار التي دافعت عنها الزهراء عليها السلام.
وما كان يمكن للمرأة الجنوبية أن تصمد وتجاهد وتقاوم لولا حفظها لهذا التاريخ ولهذا التراث وهو ما عرف ويُعرف بالتقاليد والتي أصمّت أصواتنا الآذان مطالبة  بتغييرها، وأقل نعت توصف به هذه "أنها بالية"...
   لقد تربت أجيال بكاملها في المدارس والجامعات تستمع إلى هذا المقال، مقال الحداثة المطالبة بالتمدن والتحضر، بالتغيير للحاق بركب الحضارة الغربية مع أن نظرة بعض اتجاهات علم النفس الحديث إلى هذا الموضوع، موضوع التقاليد والتربية التقليدية، ايجابية. وإنّ اتباع الطرق التربوية التقليدية في الثقافات التقليدية تساعد على نمو الاطفال بشكل ممتاز، حتى أن أحد الباحثين وجد أن أطفال بارلي (ساحل العاج) أظهروا تقدماً ملحوظاً في بعض فقرات الرائز النفسي عن الأطفال الغربيين أنفسهم، ويرجع السبب إلى العوامل الثقافية وإلى كيفية التعامل مع الطفل، كذلك الامر بالنسبة للهند والمناطق الأخرى. كما أن الأبحاث تؤكد كذلك على أن الطفل الذي ينمو في المنزل ينمو بشكل أفضل على المستوى الجسدي والنفسي من الطفل الذي يذهب إلى الحضانة خارج الأسرة.
وفي هذا مخالفة واضحة لبعض التيارات النفسية التي حاولت إطلاق النظريات التي تتماشى مع مصلحة أرباب الصناعة الغربية: "يجب عدم تدليل الطفل والاهتمام به، من الأفضل وضعه في أماكن تربية متخصصة وما شابه، وذلك لتشجيع عمل المرأة خارج المنزل والتخلي عن تربية الطفل لصالح الصناعة.
واعتقد أننا الآن بحاجة للتوجه إلى محاولة معرفة أكثر تعمقاً للأساليب والطرق التربوية التقليدية التي مارستها وتمارسها المرأة العاملية لكي نتعلّم منها الطرق التربوية الناجحة التي أنتجت أبطالاً كباراً ونماذج عالمية في الإيمان، والتضحية وحب الأرض والوطن والناس، امثال الشيخ راغب حرب، ومحمد سعد وخليل جرادي، وحسن قصير وأحمد قصير وغيرهم كثر...

  علينا أن نعيد النظر في كل مقالنا الحديث حول الحرية والتربية والثقافة، أن نعيد النظر في النماذج التي نقدمها للطفل على أنها المثال والقدوة (سوبرمان، غراندايزر...) والتي يعجب بها البعض، ويراها نماذج جيدة تدخل التقنية إلى أذهان الطفل بعكس الأساطير الخرافية التي تعلمه على الوهم، وانتظار الغيب.
هذا الكلام لا يعني أن تقبل التقاليد على علاتها، فلا شك بأن هناك بعض العادات والتقاليد المجحفة بحق المرأة والتي تستعمل الاسلام غطاءً لها، لكن تقدمنا في هذا المجال يحصل عند العودة إلى الاسلام الحق وإلى النماذج النسائية المسلمة الرائدة، وليس برفض الذات والتاريخ والتقاليد، ومن المستغرب فعلاً أن يرفض المثقف العصري الحضارة الاسلامية والتقاليد الموروثة بهذه البساطة، فهل يقبل المثقف الغربي الذي يقلده مثقفاً أن تكون ثقافته وحضارته ألعوبة بهذا الشكل قابلة للتجريح والتغيير والهدم؟!
 
   [...] المرأة في مجتمعنا لم تنل حقوقها بعد ليس بسبب الاسلام بل بسبب ممارسات المسلمين، ولا تزال النظرة إليها فيها الكثير من الاجحاف وحب السيطرة ولا تزال في وضعية دونية في بعض القطاعات دون شك، لكنها في هذا المجال تشكل جزءاً من كل، إنها تابعة في مجتمع تابع [...]، وللخروج  من هذه الحالة عليها بالمساهمة في التغيير، التغيير الاجتماعي الكبير على مستوى الوطن العربي الاسلامي كله، وهذا لا يتم إلا عندما تتسلح بالاسلام وبالايمان وبالتاريخ والتقاليد الاسلامية الصحيحة، علينا بالعودة إلى التراث وبتتبع سير النساء المسلمات رائدات التحرر الانساني المشاركات في كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، علينا أن نعيد الاعتبار للتاريخ المنسي وللممارسات التي في طريقها إلى النسيان ومثالنا في ذلك المرأة العاملية المجاهدة.
فكيف لمجتمع تابع ومحتل أن يستقل ويتقدم وهو يحاول جاهداً تقليد مسبب هذه التبعية وهذا التخلف، كيف يمكن لنا أن نتقدم فعلاً ونحن نشعر بدونيتنا تجاه الغرب؟ كيف يمكن لنا أن نستقل، ونحن لا نملك ما نقاوم به الغرب الذي عمل طويلاً حتى اكتشف كيف يمكنه السيطرة علينا فوجد أن أفضل طريقة لاحكام هذه السيطرة هي في تحطيم  معتقداتنا الثقافية والدينية، صرنا نخجل من حضارتنا، صارت تشكل لنا عيباً، صار الإيمان تعصباً والمحافظة على التقاليد الاسلامية رجعية... وماذا كانت النتيجة الطبيعية لهذه الممارسات؟ لقد تحولنا إلى سوق: سوق للمنتجات الغربية، سوق للسلع الاستهلاكية، سوق للأفكار، سوق للقوانين، وسميت هذه السوق بالحداثة أي الحضارة حسب القواميس السائدة.
وعندما يصدق الانسان أنه بدون حضارة أو تاريخ او ثقافة يصبح عندها إنساناً أعزلاً بكل معنى الكلمة، هذا الانسان الأعزل لا يمكنه أن يقاوم ولو امتلك السلاح، إنه إنسان مهزوم...
لذلك لاحظنا أنه في خضم هذا الاجتياح، برز الجهاد وبرزت المقاومة الفعلية ممن لم يتخلوا عن التاريخ ولا عن الحضارة أو التقاليد، ومن هنا برزت جرأة المقاومة وجراة المرأة التقليدية الجنوبية، ذلك أنها عرفت ماذا تقاوم ولماذا ومن أجل ماذا، لقد قاومت من أجل معتقدها الديني وإيمانها ومثلها ونماذجها... إن أبسط شروط المقاومة الثقة بالنفس وبالتاريخ والارتباط بالأرض لا بما تمثله من تراب وحجارة، بل بما تحكيه من أحداث وبما تمثله من ذكرى وبما تختزنه في جوفها من آلام ودماء.
«قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون» (سورة الأنعام 135).

المأخذ: مأخوذ من مقال في مجلة المنطلق عدد  / وهو موضوع أُلقي في الجامعة الأميركية عن المرأة
        د. منى فياض كوثراني 

التعليقات (0)

اترك تعليق