هل عَمِلَ النبيُّ(ص) أجيراً لخديجة(ع)؟
هنا لا بدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي:
هل عمل النبيّ(ص) أجيراً في أموال خديجة، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة، وذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في أرباح تلك التجارة؟
إنّ مكانة البيت الهاشميّ، وإباء النبيّ الأكرم(ص) ومناعة طبعه، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة(ع) قد تمَّ بالصُورة الثانية (أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة)، وتؤيّد هذا المطلب أمور هي:
أولا: أنه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته (أعمام النبيّ) في هذه المسألة من قبل وقال: «امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها أن تعطي محمَّداً ما لا يتجربه»(1).
ثانياً: أن المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه: أن النبي ما كان أجيراً لأحد قط(2).
ثالثاً: أن الجنابذي صرّح في كتابه «معالم العترة» بأن خديجة(ع) كانت تضاربُ الرجال في مالها، بشيء تجعله لهم منه (أي من ذلك المال أو من ربحه)(3).
تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام، وفيها أموال «خديجة» أيضاً، في هذه الاثناء جعلت خديجة بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها (أي النبيّ(ص)) وأمرت غلاميها (ميسرة وناصح) اللذين قررت أن يرافقاه(ص) بأن يمتثلا أوامراه، ويطيعاه، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة، ولا يخالفاه في شيء(4).
وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً، إلا أن النبي(ص) ربح اكثر من الجميع، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق تهامة.
ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى مكة بعد ذلك المكسب الكبير، والحصول على الربح الوفير.
ولقد تسنيّ لفتى قريش محمَّد أن يمرّ -للمرة الثانية في هذه السفرة- على ديار عاد وثمود.
وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار وأطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى العوالم الاُخرى أكثر فأكثر، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الاُولى، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه أبي طالب هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها، وما كان يحظى فيها من عمه من الحدب والعناية.
وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى مكة، وصارت عند مشارفها، التفت ميسرة غلامُ خديجة، إلى النبيّ(ص) وقال: «يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في أربعين سنة، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا» فأخذ النبي باقتراح ميسرة، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة، وتوجه نحو بيت خديجة بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها، فلما رأت النبي مقبلا عليها، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته، وأدخلته في غرفتها، فخبّرها رسول اللّه(ص) بما ربحوا، ببيان جميل، وكلام بليغ، فسرت خديجة بذلك سروراً عظيماً، ثم قدم ميسرة في الأثر، ودخل عليها، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّ(ص) في تلك السفرة من الكرامة والخير، والخُلق العظيم، والخصال الكريمة، ومن الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته(ص)، وسمو خصاله(5)، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ(ص) وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل: إحلف باللات والعُزى، فقال رسول اللّه(ص): ما حلفتُ بهما قط، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما(6).
وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ» سأل عن اسمه، فأخبره ميسرة باسمه فقال: «هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة»(7).
__________________
1ـ بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٢٢.
2 ـ تاريخ اليعقوبي: ج ٢، ص ٢١.
3ـ بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٩ نقلا عن معالم العترة.
4 ـ قالت خديجة لهما: إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي وأنّه أمير قريش وسيّدها، فلا يدٌ على يده، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. (بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٢٩).
5 ـ الخرايج : ص ١٨٦، بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٥.
6 ـ الطبقات الكبرى: ج ١، ص ١٣٠ وفي بحار الأنوار: ج ١٦، ص ١٨: أنه(ص) قال: إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.
7 ـ بحار الأنوار: ج ١٦، ص ١٨، الطبقات الكبرى: ج ١، ص ١٣٠، الكامل لابن الأثير: ج ٢، ص ٢٤ و ٢٥.
المصدر: كتاب سيد المرسلين: الشيخ جعفر السبحاني، ج1.
اترك تعليق