مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام

إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام

إنّ جعل القرآن دار خديجة مسجداً يلزم أن تكون خديجة عليها السلام ممن طهرها الله تعالى كمريم بنت عمران، إذ العلة التي طُهرت بها مريم كانت لغرض مكوثها في بيت المقدس.
«وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّه اِصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ» (سورة آل عمران، الآية: 42).
وخديجة عليها السلام في المسجد الحرام الذي نصّ عليه القرآن وبذاك لزم أن تكون طاهرة بتولاً لا ترى ما تراه النساء؛ وإلّا للزم أن تسكن داراً أخرى غير هذه الدار التي هي: «المسجد الحرام».
فضلاً عن أنّ مكوثها في المسجد دون طهر يترتب عليه أحكام خاصة لا تجيز لها البقاء فيه.
وعليه: تدل الآية على أنها طاهرة من الدنس والرجس وأنها كمريم بنت عمران عليهما السلام في الطهارة، وهذا يتسق مع كونها الرحم الذي يحتضن بين جدرانه سيدة نساء العالمين، ومشكاة نور الله، رب العالمين، وأم الأئمة المعصومين الذين خصهم الله بسابق عنايته وقديم لطفه فقال عنهم في محكم كتابه:
«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا» (سورة الأحزاب، الآية: 33).
وفي ذلك يقول ابن حجر العسقلاني: "ومرجع أهل البيت هؤلاء خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها(1).
ولأن مرجع أهل البيت النبوي إلى خديجة عليها السلام دون غيرها، فقد جعلها الله كذلك طاهرة مطهرة كي تكون الأرض الصالحة التي تنبت فيها شجرة النبوة.
ومن هنا: نجد أنّ القرآن الكريم قد دلل على هذه الحقيقة في قوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
وعلى الرغم من أنّ كثيراً من المحدثين والفقهاء والمفسرين قالوا بأن الإسراء تمّ من بيت خديجة)(2).
إلّا أن البعض الآخر حاول دفع هذه الخصوصيّة بإطلاق الآية فجعل كل مكة هي المسجد الحرام(3).
في حين ذهب آخرون إلى أنّه أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت أم هانئ وقيل من شعب أبي طالب عليه السلام(4).
وقد أفاد العلامة الطباطبائي في بيان هذه الأقوال واختلاف العلماء فيها.
وأعني: اختلافهم في بيت أم هانئ، وشعب أبي طالب عليه السلام، والبيت الحرام، كما أنهم اختلفوا في الزمان ولم يتفقوا على أنّ الإسراء كان قبل الهجرة في مكة مما يدل على عدم ثبوت هذه الأقوال ورجحان أنه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من دار خديجة كما سيمر بعد إيراد قول العلامة؛ إذ قال رحمه الله: "وقد اتفقت أقوال من يُعتنى بقوله من علماء الإسلام على أنّ الإسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بذلك صبيحة ليلته وإنكارهم ذلك عليه، وإخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى، وما لقيه في الطريق من العبر، وغير ذلك. ثمّ اختلفوا في السنة التي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن علي عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: قبلها بستة أشهر.
ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذي وقع فيه الإسراء ولا مستند يصح التعويل عليه، لكن ينبغي أن يتنبه أن من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يصرح بوقوع الإسراء مرتين وهو المستفاد من آيات النجم حيث يقول سبحانه: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره. وعلى هذا فمن الجائز أن يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعاً إلى ما شاهده في الإسراء الأول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعاً إلى الإسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الإسراءين معاً.
ثمّ اختلفوا في المكان الذي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: أسري به من شعب أبي طالب.
وقيل: أسري به من بيت أم هانئ.
وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد أولوا قوله تعالى: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى أنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازاً فيشمل مكة.
وقيل: أسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة، ولا دليل على التأويل.
ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الإسراء مرتين أن يكون أحد الإسراءين من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هانئ، وأما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات أنّ أبا طالب كان يطلبه طول ليلته وأنه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشاً إن لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم وإخباره قريشاً بما رأى.
كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم جميعاً عليه من الشدة والبليّة أيام كانوا في الشعب. وعلى أي حال فالإسراء الذي تعطيه الآية: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
وهو الإسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه المسجد الحرام لكمال ظهور الآية ولا موجب للتأويل(5).
أقول: من الغريب أن لا يتناول السيد العلامة -أعلى الله مقامه- دار خديجة عليها السلام في هذه المسألة مع ما عرف عنه من التتبع الحثيث للأقوال، وكيف أنه لم يذكر في هذا البحث ما رواه الراوندي رحمه الله عن الإمام أبي جعفر عليه السلام في التصريح بإسراء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام فقال رحمه الله: (إنّ أبا جعفر عليه السلام قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لما أسري بي نزل جبرئيل عليه السلام بالبراق وهو أصغر من البغل، وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عيناه في حوافره، خطاه مد بصره، له جناحان يحفزانه من خلفه، عليه سرج من ياقوت، فيه من كل لون، أهدب العرف الأيمن، فوقفه على باب خديجة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله، فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل فقال: اسكن فإنما يركبك خير البشر، أحب خلق الله إليه، فسكن، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فركب ليلا وتوجه نحو بيت المقدس، فاستقبل شيخا فقال: هذا أبوك إبراهيم، فثنى رجله وهم بالنزول، فقال جبرئيل: كما أنت، فجمع ما شاء الله من أنبيائه ببيت المقدس فأذن جبرئيل، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى بهم.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام في قوله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك هؤلاء الأنبياء الذين جمعوا فلا تكونن من الممترين قال: فلم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يسأل(6).
فضلاً عن ذلك فإنّ كثيراً من الفقهاء والمفسرين سواء من مدرسة أهل البيت أو المدارس الأخرى قد أشاروا إلى أنّ الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام، وهم كالآتي نورد أسماءهم حسب التسلسل الزمني لحياتهم.
أولاً: شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 410هـ) فإنه قال في كتابه الخلاف: (وإنما أسري به من بيت خديجة)(7)
ثانياً: الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588 هـ) فقد روى عن: (السدي والواقدي –قولهما في أن- الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر بمكة في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت بعد العتمة من دار أم هانئ بنت أبي طالب وقيل من بيت خديجة..)(8).
ثالثاً: المفسر الكبير العلامة الفخر الرازي (المتوفى 606هـ) وقد نقل قول الشافعي في حكم دخول الكافر المسجد قائلاً:
(قد يكون المراد من المسجد الحرام لقوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». وإنما أسري به من بيت خديجة)(9).
رابعاً: الحافظ محي الدين النووي (المتوفى 676 هـ) قال في المجموع: (في مذهب العلماء في بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم وإجارتها ورهنها، مذهبنا –أي الشافعي- جوازه وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومن بعدهم؛ وهو مذهب أبي يوسف، وقال الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة لا يجوز شيء من ذلك، والخلاف في المسألة مبني على أنّ مكة فتحت صلحاً أم عنوة؟ فمذهبنا أنها فتحت صلحاً فتبقى على ملك أصحابها فتورث وتباع وتكرى وترهن. ومذهبهم أنها فتحت عنوة فلا يجوز شرع من ذلك واحتج هؤلاء بقوله تعالى: «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ».
قالوا والمراد بالمسجد جمع الحرم لقوله سبحانه وتعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». أي من بيت خديجة)(10)
خامساً: العلامة الحلي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 710 هـ) قائلاً: (مسألة: قال الشيخ –الطوسي- في الخلاف: لا يجوز بيع رباع مكة وبيوتها ولا إجارتها، وفيه نظر.
احتج الشيخ بقوله تعالى: «سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ». والمسجد اسم لجميع الحرم، لقوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». وإنما أسري به من بيت خديجة، وروي من شعب أبي طالب فسماه مسجداً، ولما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي(ص) قال:
"بيع مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها، وللإجماع من الفرقة والأخبار"(11).
سادساً: المحدث العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى 1111هـ) وقد نقل قول ابن شهر آشوب في (إن الإسراء كان من بيت خديجة)(12).
سابعاً: الشيخ الجواهري أعلى الله مقامه (المتوفى 1266هـ) نص على ذلك في كتابه الجواهر في: بيع بيوت مكة، فقال: (وكيف كان في التذكرة، وظاهر الدروس، ومحكي الحواشي، والإيضاح، (في بيع بيوت مكة تردد) من أنها مسجد لقوله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
إلى آخره والمفروض أنه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من بيت خديجة...)(13).
أقول: وهذا كله يدل على أنّ الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام وأنه هو المعني بقوله تعالى:
«سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
وهما خصوصيتان في آن واحد تكشفان عن شرافة الدار وأهلها وحرمتها. إلا أنّ هذه الحرمة والشرافة التي جعلها الله تعالى لهذا البيت وأهله لم تكن بمانعة الوهابيين الذين دنسوا المسجد الحرام فحولوه إلى حمامات ودورات مياه.
فـ «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» من مصيبة ما أعظمها على الإسلام!!


الهوامش:
1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: ج7، ص 104.
2- الخلاف للشيخ الطوسي: ج3، ص189؛ مختلف الشيعة للعلامة الحلي: ج5، ص60؛ إيضاح الفوائد لابن العلامة الحلي: ج1، ص 427؛ جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج22، ص 352؛ المجموع للنووي: ج9، ص 248؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص153؛ البحار للمجلسي: ج18، ص380؛ تفسير الرازي: ج4، ص19؛ الأمثل لناصر مكارم الشيرازي: ج10، ص 318.
3- المجموع لمحي الدين النووي: ج19، ص 433.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج1، ص214؛ الدر المنثور للسيوطي: ج4، ص 149.
5- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج13، ص 30.
6- الخلاف للشيخ الطوسي: ج3، ص189.
7- المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص 153.
8- تفسير الرازي: ج4، ص19.
9- سورة الحج، الآية: 25.
10- المجموع للنووي: ج9، ص 248.
11- مختلف الشيعة: ج5، ص 60.
12- البحار للمجلسي: ج18، ص 380.
13- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج22، ص 352.



المصدر: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة: دراسة وتحقيق السيد نبيل الحسني، الطبعة الأولى، إصدار قسم الشؤون الفكريّة والثقافيّة في العتبة الحسينيّة المقدسة، كربلاء ،العراق، 1432- 2011م، ج3.

التعليقات (0)

اترك تعليق