القرآن الكريم يمتدح مال خديجة(ع): إنّ الله تعالى أغنى النبي (ص) بمال خديجة عليها السلام
أولا: إنّ الله تعالى أغنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام
لم يكن القرآن الكريم بزاهد في بيان ما لخديجة عليها السلام من مقام وكرامة عند الله تعالى لا سيما وأنه تعالى قال في محكم كتابه الكريم:
«أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى»(١).
فكيف بمن صدق الله في نفسه وجاهد في سبيله ونصر رسوله (ص).
قال تعالى مخاطبا حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى*وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى*وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى»(٢).
فهذه الآيات الكريمة في تفسيرها الظاهري تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة النبي الأعظم (ص) وتظهر نعمة الله عليه في هذه المراحل، فهو اليتيم الذي هيأ الله له في بيت جده عبد المطلب وعمه أبي طالب خير مأوى، وهو الذي ضل عنه قومه فلم يهتدوا إليه وقد شبّ بين ظهرانيهم، وهو الفقير الذي أغناه الله تعالى (بمال خديجة بنت خويلد"ع")(٣).
ثانيا: رد شبهة (إن الغنى في الآية تنزيل على غنى النفس)
إلا أن البعض لم يسعهم استيعاب هذا الذكر ولم يَرُق لهم هذا الفضل الذي أحرزته أم المؤمنين خديجة (ع)، فقاموا بصياغة أخرى لمعنى الآية في محاولة واهية لصرف الأذهان عن دور هذا المال في نصرة الإسلام، فقالوا:
(والغنى الوارد في قوله:
«وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى»(٤).
تنزيل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان في النبي (ص) قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها)(٥).
ونقول:
أولاً: [...].
كيف يمكن حمل الغنى في الآية على غنى النفس والمخاطب هو سيد الأنبياء والمرسلين (ص) الذي أتم الله له الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحية، حتى شهد له-عزّ شأنه- بذلك في محكم كتابه فقال سبحانه:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(٦).
فحمل الآية على غنى النفس -كما قال ابن حجر العسقلاني- يستلزم التحول والانتقال كما يحتمل النقص والكمال، أي: إنه لم يكن غني النفس قبل نزول الآية ثم استحصل ذلك، وهذا عيب مشين فيمن وصف بالكمال ومجمع الفضائل في كل حال.
ثانيًا: لو كان تنزيل الآية على (غنى النفس) لا المال، -كما زعمتم- فهذا يستلزم استمرار الفقر مع النبي (ص) حتى آخر حياته المقدسة بعلة حصول الغنى النفسي فلا حاجة له للمال في حين أن الواقع الحياتي له يثبت عكس ذلك.
ثالثًا: لو كان الغنى، غنى النفس فلماذا بيبح الله له الخمس من الغنائم وما حاجته إليها ونفسه غنية.
رابعًا: سياق الآيات الثلاث يتحدث عن ضروريات الحياة البشرية التي لا غنى للإنسان عنها فشاء الله تعالى أن تجري حكمته في حياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصورة التي يعرضها القرآن، فقدر الله تعالى له أن يولد يتيمًا، ثم أنعم عليه بالمأوى ممثلا في جده عبد المطلب وعمه أبي طالب.
وأن ينشأ بين قومه فيؤيده الله بالآيات والدلائل على أنه نبي هذه الأمّة ليهتدي إليه الناس، إلا أن الله (وجدك ضالا بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك ودلهم عليك)(٧).
ووجدك عائلا، أي فقيرا لا مال لك تستعين به على أمرك فأغناك الله بهذا المال، وهو مال خديجة.
خامسا: أما أن الآية مكية فهذا أدعى لاختصاص الآية بالمال وليس بالنفس، إذ احتياجه (ص) إلى المال كان في مكة قبل الهجرة لينفق منه على أمر الرسالة، ويستعين به على قيام دينه، فيواجه به ظلم قريش وحصارهم الاقتصادي عليه وعلى أصحابه.
أما حالة بعد الهجرة فقد اختلف فقد نصره الله بالسيف، وخصه الله تعالى بالغنائم وعندها بدأت مرحلة جديدة من النهوض بهذه الرسالة ترتكز على الجهاد والحرب الذي نصر الله فيها دينه وفي جميع المواطن بسيف علي بن أبي طالب (ع)، ومن صدق الله في عهده، وما أقلهم!
إذن: كون الآية مكية فهذا دليل على اختصاصها بمال خديجة، وليس كما ذهب إليه ابن حجر العسقلاني الذي اعتقد خلو نفس رسول الله(ص) من الغنى في مرحلة من مراحل حياته والعياذ بالله.
سادسًا: إن النظر إلى الآيات الثلاث التي تحدثت عن نعم الله تعالى على رسوله (ص) في تلك الحقبة الزمنية يقابلها ثلاثة أوامر إلهية تبعت هذه النعم، وكأن السياق القرآني هنا يشير إلى مقابلة هذه النعم بما يقابلها من الشكر الذي حددته الآيات ضمن آليات خاصة.
فكانت نعمة الإيواء يقابلها قوله تعالى:
«فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»(٨) .
فيكون رعايته (ص) لليتيم منهاجا للشكر على ما أنعم الله عليه حينما كان يتيما فآواه.
وكانت نعمة الهداية يقابلها قوله تعالى:
«وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ»(٩).
والنسق الدلالي في الآية يشير إلى احتياج السائل إلى من يهديه إلى ما يعينه على مسألته، كأن يكون السائل لا يهتدي إلى الطريق، أو إلى أمر دينه، أو مال يعينه على حياته، فهو في هذه الحالات لا يهتدي الجهة التي تعينه على أمر نفسه.
ولذا: سير السياق النعمي في الموطنين يقتضي التماثل في الحاجة إلى الهداية ليتذكر حينها نِعَمَ المُنعم بالخيرات وهو الله تعالى.
أما ما يخص نعمة الغنى فقد قابلها قوله تعالى:
«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»(١٠).
وظاهر الآية والفعل النبوي يدلان على أن هذه النعمة أكبر النعم الثلاث السابقة بدلالة اختصاصها بلفظ (النعمة) ولم تطلق الآية على (المأوى والهداية) لفظ النعمة.
وبدلالة الأمر الإلهي بالتحدث بها، في حين كان الفعلان السابقان أي (قهر اليتيم)، و(نهر السائل) فعلين صامتين؛ بمعنى: لا يشتملان على استخدام جارحة اللسان في تحقيق شكر المنعم كما هو الحال بالنسبة لفعل (حدّث).
ولقد دلت السنة النبوية بنصوص صريحة وصحيحة على تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة زواجه من خديجة عليها السلام؛ بل لقد دأب على التحديث بنعمة ربه هذه حتى أثار ذلك غيرة عائشة، التي لم تجد صبرًا على السكوت والاعتراض على رسول الله (ص) لكثرة ذكره لخديجة (ع)، ولتصرّح للتاريخ عن حجم هذا التحديث؛ فقالت:
(ما غرت للنبي(ص) على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط) (١١).
وفي رواية أخرى كشاهد على تحديث رسول الله (ص) بنعمة ربه تعالى، أنها قالت:
(كان رسول الله(ص) إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها؛ فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. قالت: فرأيت النبي(ص) غضب غضبا شديدا وسقطت في يدي فقلت: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت.
قالت: فلما رأى رسول الله (ص) ما لقيت قال:
"كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد حيث حرمتموه"(١٢).
وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء"(١٣).
وغير ذلك من الروايات التي تكشف عن تحديث رسول الله (ص) لهذه النعمة نعمة اقترانه بأم المؤمنين خديجة (ع) التي كانت نِعمَ الزوجة الصالحة المناصرة له طيلة خمس وعشرين سنة لم يتزوج فيها النبي (ص) كرامة لها ودليلا قاطعا على حبه الكبير لها، وهو الذي صرح بذلك حينما امتعضت عائشة من كثرة ذكره لها فقال(ص):
"إني قد رزقت حبها"(١٤).
وعليه:
لم تكن الآية دالة على غنى النفس كما ذهب ابن حجر العسقلاني وغيره وإنما على نعمة غنى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام.
________________
(١)سورة آل عمران، الآية:١٩٥.
(٢)سورة الضحى، الآيات:٦،٧،٨.
(٣)أنظر في اختصاص هذه الآية بمال خديجة(ع) وأن الله تعالى أغناه بهذا المال: الإفصاح للشيخ المفيد: ص٢١٢؛ الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي:ج٣، ص١٠٤٥؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب:ج٣، ص٢٩٥؛ تفسير فرات الكوفي: ص٥٦٩؛ بحار الأنوار للمجلسي:ج٣٥، ص٤٢٥؛ مستدرك سفينة البحار:ج٧، ص٤٨٣؛ عمدة القارئ للعيني:ج١٩، ص٢٩٩؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري:ج٦، ص٤٩٢؛ تفسير السمرقندي: ج٣، ص٥٦٨؛ تفسير السمعاني:ج٣، ص٥٢٦؛ تفسير البغوي:ج٤، ص٤٩٩؛ تفسير القرطبي:ج٢٠، ص٩٩؛ تفسير الآلوسي:ج٠٣، ص١٦٢؛ أضواء البيان للشقنيطي: ج٨، ص٥٦١؛ المبسوط للسرخسي: ج٣، ص١١.
(٤)سورة الضحى، الآية:٨.
(٥)فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج١١، ص٢٣٣.
(٦)سورة القلم، الآية:٤.
(٧)تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج٢٠، ص٣١١.
(٨)سورة الضحى، الآية:٩.
(٩)سورة الضحى، الآية:١٠.
(١٠)سورة الضحى، الآية:١١.
(١١)صحيح مسلم: ج٧، ص١٣٤.
(١٢)الذرية الطاهرة للدولابي: ص٥٣؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج٣، ص١٩٥؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج٢، ص١١٢؛ امتاع الأسماع للمقريزي" ج٦، ص٢٤.
(١٣)الاستيعاب لابن عبد البر: ج٤، ص١٨٢٤.
(١٤)صحيح مسلم: ج٧، ص١٣٤؛ العمدة لابن البطريق: ص٣٩٣.
المصدر: خديجة بنت خويلد: أمة جمعت في امرأة، دراسة وتحقيق السيد نبيل الحسني، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ط١، ٢٠١١م، كربلاء المقدسة- العراق.
اترك تعليق