مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

 خديجة(ع) الأم الثانية لأمير المؤمنين علي(ع)

خديجة(ع) الأم الثانية لأمير المؤمنين علي(ع)

حينما نقرأ حياة السيدة خديجة عليها السلام أو حياة الإمام علي(ع) فإننا لا بد أن نتوقف في هذه السيرة مع محطة اشترك في تكوينها كلّ منهما.
بل: يلمس القارئ -وإن مرّ على هذه السيرة مرورا سريعا- أن خديجة(ع) كانت الأم الثانية لعلي بن أبي طالب عليهما السلام فقد اتخذه رسول الله(ص) منذ كان صغيرا في حجره وهو في السادسة من عمره يغدو عليه بخلقه وكماله فنشأ في بيت رسول الله(ص) وخديجة(ع)، مما ترك لخديجة رصيدا ضخما في قلب أمير المؤمنين(ع)، هذا فضلا عن مقامها الإيماني الذي مرّ بيانه سابقا.
وعليه:
يمكن لنا بيان منزلتها عند أمير المؤمنين(ع) من خلال الأحاديث الآتية:

ألف: منزلة الأمومة
١- روى ابن شهر آشوب رحمه الله: (كان أبو طالب وفاطمة بنت أسد ربيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربى النبي(ص)، وخديجة لعلي صلوات الله عليه)(١).
٢- روى ابن هاشم الحميري وابن جرير الطبري، والحاكم النيسابوري، والثعلبي، وابن عبد البر، والحافظ بن شهر آشوب، وغيرهم عن مجاهد أنه قال:
(كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما صنع الله له وأراد به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم؛
"يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله، فآخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه".
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب.
فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.
فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما عقيلا فاصنعا ما شئتما.
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا، فاتبعه علي عليه السلام وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه)(٢).
٣- روى ابن الدمشقي عن ابن المظفر في كتابه نجباء الأبناء(٣): (إن أبا طالب قال لزوجته فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهم:
يا فاطمة ما لي لا أرى عليا يحضر طعامنا؟
فقالت: إن خديجة بنت خويلد قد تألفته.
فقال أبو طالب: والله لا أحضر طعاما لا يحضره علي.
فأرسلت أمه جعفرا أخاه وقالت: جئني به وحدثته بما قال أبوه.
قال، قال: فانطلق جعفر إلى خديجة فأعلمها وأخذ عليا فانطلق به أهله وأبو طالب على غدائه فلما رآه هش إليه وبش وأجلسه على فخذه ووضع كفه على رأسه وجعل لقمة في فمه فلاكها وبكى فقال أبو طالب: يا فاطمة خذيه إليك فانظري ما به؟ فأخذته أمه ولاطفته وسكنته وسألته عن حاله فقال:
"يا أمة تكتمين علي"؟
قالت: نعم. قال:
"يا أماه إني لأجد لكف محمد بردا ولطعامه مذاقا، وغني وجدت لكف أبي حرا ولعامه وخامة"!!!
فقالت له أمه: مه لا تفه بهذا أبدا وإن سألك أبوك فقل: إني مغصت!
قال: فلما فرغ أبو طالب من غذائه قال: يا فاطمة ما شانه؟ قالت: إنه مغص ثم شفي، قال: كلا ولكنه يأبى إلا محمدا وإيثاره علينا فألحقيه به ولا تتعرضين له أبدا فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش)(٤).
وظاهر الرواية يدل على جملة من الأمور:
ألف: إنّ انصراف الإمام علي(ع) إلى بيت خديجة(ع) كان قبل أن يبلغ السادسة من عمره؛ لأن النبي الأكرم(ص) قد اتخذه في حجره وهو في السادسة من عمره، وإلا لما كان أبو طالب يستفقده ويسأل عنه وتبعث أمه فاطمة بنت أسد خلفه جعفرا كي يأتي به.
باء: كما تدل الرواية على تعلق خديجة به عليهما السلام بدليل قول فاطمة بنت أسد لأبي طالب (قد تألفته خديجة بنت خويلد) وتعلقه بها.
فمن الحقائق التي أكدها علماء نفس الطفل: أن الطفل في هذه السنوات الأول كي يستطيع أن يحول مشاعره وغريزته الاحتياجية لوجود الأم في حياته، إلى امرأة أخرى فعليها أن تهيّئ له من الأجواء ما قد تفوق حنان الأم التي أولدته.
وبهذا تكون مشاعر علي عليه السلام اتجاه خديجة التي تألفته، مشاعر ارتكزت على عواطف أمومية متسامية، ومشاعر من الحنان قل نظيرها لدرجة أنه يبكي ولا يأنس إلا بوجود رسول الله(ص) وخديجة من حوله فكان نعم الأبوان لعلي عليه السلام، هذا فضلا عن دور الاصطفاء الإلهي في مسألة العصمة والإمامة.
جيم: تنبّأ أبو طالب رضوان الله تعالى عليه بمستقبل الرسالة المحمدية ودور ولده علي فيها وإن هذه العلاقة التي نشأت منذ اللحظة الأولى لولادة علي عليه السلام هي إنما نشأت بتدبير إلهي لحكمة بالغة أظهرها القرآن والسنة المحمدية، ولذا قال عليه السلام: (فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش). 
٤- قال ابن حجر العسقلاني: (وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها)(٥).
٥- قال المؤرخ المسعودي: (لما تزوج صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السلام فكانت تستزيره وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولايدها فيقلن هذ أخو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إليه وقرة عين خديجة ومن ينزل السكينة عليه)(٦).
فهذه الشواهد كلها تؤكد على حقيقة منزلة الأمومة التي نالتها خديجة عليها السلام بكل ما تحمل الكلمة من معان سامية أحسها الإمام علي عليه السلام وتعايش معها ونشأ عليها فكانت لها عليه حق الأم.

باء: منزلة الحماة
من الألطاف الإلهية التي حفت بحياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن الله تعالى زوّجه من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت سيد الأنبياء والمرسلين(ص)، وجعل له أم أهل (حماة) خير نسائها الطاهرة خديجة الكبرى(ع)، لتكون أما وحماة وجدة لأولاده؛ وهي حقيقة نص عليها الحديث النبوي الشريف الذي رواه الحافظ ابن شهر آشوب، قائلا: (روى الثقات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"يا علي لك أشياء ليست لي منها: أن لك زوجة مثل فاطمة وليس لي مثلها، ولك ولدين من صلبك وليس لي مثلهما من صلبي، ولك مثل خديجة أم أهلك وليس لي مثلها حماة، ولك صهر مثلي وليس لي صهر مثلي، ولك أخ في النسب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك أم مثل فاطمة بنت أسد الهاشمية المهاجرة وليس لي مثلها"(٧).
فسبحان من أكرم محمدا وآله بما لم يكرم به أحدا من العالمين.
__________________
(١)مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب: ج٢، ص٢٧.
(٢)السيرة النبوية لابن هاشم: ج١، ص١٦٢؛ تاريخ الطبري: ج٢، ص٥٨؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج٣، ص٥٧٦؛ تفسير الثعلبي: ج٥، ص٨٤؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج١، ص٣٨؛ المناقب لابن شهر: ج٢، ص٢٧؛ علل الشرايع للشيخ الصدوق رحمه الله: ج١، ص١٦٩؛ الطرائف لابن طاووس: ص١٧؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج٣٨، ص٢٣٨.
(٣)همش الشيخ محمد باقر المحمودي في تحقيقه لكتاب ابن الدمشقي فقال: هو محمد بن عبد الله ابن محمد بن ظفر الصقلي المكي من أعلام القرن السادس المتوفى سنة ٥٦٧/أو ٥٩٨؛ المترجم في كتاب الأعلام: ص٢٣١؛ وفيات الأعيان: ج١، ص٥٢٣؛ لسان الميزان: ج٥، ص٣٧١؛ (جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج١، ص٢٩، الهامش).
(٤)جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن الدمشقي: ج١، ص٣٩ و ٤٠.
(٥)فتح الباري لابن حجر: ج٧، ص١٠٤.
(٦)الانوار الساطعة للشيخ السيلاوي نقلا عن إثبات الوصية للمسعودي: ص١٤٤، طبعة أنصاريان، قم.
(٧)مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب: ج١، ص١٩؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج٤، ص٦٨.


المصدر: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، دراسة، وتحقيق السيد نبيل الحسني، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ط١، ٢٠١١م، كربلاء المقدسة العراق.

التعليقات (0)

اترك تعليق