مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

احتضار السيدة خديجة عليها السلام

احتضار السيدة خديجة عليها السلام

وجاءت اللحظات الأخيرة المتبقيّة لها في الحياة  الدنيا، فقد آن لها الانتقال إلى جوار ربها بعد هذا الجهد والجهاد والمثابرة في نصرة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إنّ الإنسان حينما يمر بهذه اللحظات فإنه يمر بأصعب ما يمكن أن يتحمله عاقل، وذلك؛ لشدة الأهوال وتعاظم المخاوف ولذا فهو محتاج إلى قشة يتمسك بها وينجو مما يراه، وليس لذاك إلا رحمة الله تعالى الواسعة والمتجسدة في حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو القائل جل شأنه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(سورة الأنبياء، الآية: 107).).
فكيف ستكون رحمته  صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة في هذه اللحظات، أيتركها مع أهوال المطّلع ومخاوف الموت وحضور ملك الموت وأعوانه.
أم يتركها جبرائيل عليه السلام وهو الذي خصها بالسلام والتحيّة والإكرام، أترى هل يدعها رسول الله مع ملك الموت وهو؛ "بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ"(سورة التوبة، الآية: 128)).
دون أن يكون واقفاً بقربها وكأنه يناديه: لطفاً بخديجة، مهلاً بأم العيال، لا تعجل بربة البيت، اللهم اجعله برداً وسلاماً على أم الزهراء، هكذا يتراءى لي حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع رفيقة دربه وسكنه في حياته، وناصرته في دعوته، ومصدقته في نبوته.
ولعل اللحظات الأخيرة التي لها في الحياة الدنيا، ولاسيما لحظات الاحتضار (وهي تجود بنفسها) –كما عبر عنها المؤرخون والمفسرون- تكشف عن خصوصيّة أخرى من خصائص خديجة عليها السلام، بل تفردت بها فلم تخص بها امرأة غيرها حسبما يروي لنا المؤرخون والمفسرون.
فقد روى اليعقوبي، والثعلبي، والقرطبي، والطبرسي، جميعاً عن معاذ ابن جبل: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: "أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيراً كثيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام".
قالت: يا رسول الله من هن؟
قال: "مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة –أو حليمة- أخت موسى".
قالت: بالرفاه والبنين"(3).
والحديث لا يختلف من حيث الدلالة وإن اختلف اللفظ عن الحديث السابق الذي أوردناه، إلا أننا نضيف هنا:
1- أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث مع خديجة عليها السلام وهي في هذه اللحظات الصعبة –على جميع ولد آدم- بأسلوب يكشف عن أنه يتحدث مع امرأة من أهل الجنة وليست من أهل الأرض؛ إذ إن السنن الطبيعيّة في هذه اللحظات تقتضي أن ينشغل الإنسان بنفسه وبما يراه من حوله من الملائكة التي قدمت لقبض روحه فضلاً عن بقية الأرواح وما تم ستره عن الإنسان في الحياة الدنيا فقد كشف للمحتضر عن بصره ورفع عنه الحجب فهو يرى الآن حقائق الأشياء، ولذلك يكون مذهولاً بما يرى فضلاً عن انشغاله بنفسه وما يؤول عليه أمره وينتهي به عمره.
إلا أن خديجة هي الآن حسبما يدل الحديث الشريف برتبة أهل الجنة فقد أخذت النتائج مبكرة في الحياة الدنيا قبل الانتقال الدار الآخرة.
ولذلك: لم يجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مانعاً من الحديث معها بهذا الأسلوب وأنها ذاهبة مباشرة إلى الجنة، وأن مكانها مع أولئك النساء، مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وحليمة أو حكيمة وهن ضرائر لها، وحيث إنّه لا تنازع في الجنة ولا تخاصم بين أهلها، وإن التحاسد والنزاعات من خواص أهل الدنيا فلذا، قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بالرفاه والبنين، أي: إنها وصلت إلى مرحلة من اليقين جعلتها بمستوى أهل الجنة وهي في الحياة الدنيا فضلاً عن أنها الآن في حالة الاحتضار وهي تجود بنفسها فكان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برتبة التبشير وإزالة الحزن عنها لما يرافق حالة نزع الروح.
2- إنّ هذا الحديث يكشف عن أن احتضار خديجة عليها السلام قد امتاز بخصوصيّة خاصة وهي أنها مرت بحالة من السكينة والطمأنينة جعلتها تتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنها في عزّ شبابها وفي أتمّ عافيتها حيث لا وجود للآلام وأثر للاضطراب والخوف وهي حالة خاصة بمن سبقت لهم من الله الحسنى.
قال تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي
جَنَّتِي"(سورة الفجر، الآيات: 27- 30).


الهوامش:
1- تاريخ اليعقوبي: ج2، ص 35؛ تفسير الثعلبي: ج9، ص 353؛ تفسير القرطبي: ج18، ص204؛ تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج10، ص66؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج5، ص377؛ مجمع البحرين للطريحي: ج2، ص 199.


المصدر: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، دراسة، وتحقيق السيد نبيل الحسني، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ج4، ط١، ٢٠١١م، كربلاء المقدسة العراق.


 

التعليقات (0)

اترك تعليق