حزن رسول الله(ص) على فقد خديجة حتى خشي عليه من الهلاك
ليس من الغريب أن يكون فقد خديجة(ع) أثر كبير في نفس رسول الله(ص)، فلقد دخل عليه من الحزن الشديد والأسى البالغ، والوحشة الكبيرة ما لا نظير له (حتى خشي عليه)(1) من الحزن.
ولقد دخلت عليه خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية امرأة عثمان بن مظعون فقالت له: كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة قال: "أجل كانت أم العيال وربة البيت"(2).
ويدل دخول خولة بنت حكيم عليه إلى اشتهار حاله(ص) في أوساط مكة حتى تحدثوا بذلك في محافلهم وأنديتهم ومجالسهم ودورهم فقالو: (ما رأينا رجلاً حزن على امرأة مثل محمد –(ص)-)(3).
وقال بعضهم: (يحق له أن يحزن عليها للخصال التي ركّبت من عقلها، وعفتها، وطهارتها، وأدبها، وحسن ودادها، فقال رجل منهم يقال له (أبو عزيزة) يرثي خديجة –عليها السلام- وينشده شعراً، فيقول:
ذرفت دموعك يابن عبد مناف زين الرجال وسيد الأشراف
يا ابن الأكابر من ذؤابة هاشم وابن المعد لرحلة الإيلاف
المعمون الطير في أوكارها والقائلون هلم للأضياف
رزي النبي بفقده لخديجة حتى تتابع دمعه بوكاف
ما في الأنام محافظ لقرينه إلا الأمين وصاحب الإنصاف
يبكي خديجة دهره زين النسا الطاهرات جميلة الأوصاف
قال: فبلغت إلى رسول الله(ص) فأعجبه ذلك وبعث إليه ببردة كرامة له على أبياته، وتحدثوا أهل مكة بحديثه)(4).
وذكر أصحاب السير: أنّ النبي الأكرم(ص) قد سمى هذا العام الذي توفيت فيه خديجة وعمه أبو طالب (بعام الحزن)(5).
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ لنفسه أسلوباً خاصاً في التعامل مع هذه الأحزان "فقد لزم بيته وأقل الخروج"(6)؛ فقد توالت عليه في هذا العام مصيبتان(7).
فهكذا كان حزنه على رحيل خديجة عليها السلام بعد أن عاشت معه ما يقارب الخمس والعشرين سنة، وقفت معه فيها على تبليغ رسالة ربه، وناصرته، وآزرته في دعوته، وبذلت في ذلك الغالي والنفيس، فضلاً عن مواساتها له(ص) في تحمّل أعباء الرسالة ومواجهة أعداء الله حتى كانت تقف أمام الحجارة التي يرمونه بها فتحميه بجسدها، بل وأكلت معه ورق الأشجار، وصبرت على ظلم قريش لهما حتى وافتها المنيّة صابرة محتسبة على ما نزل بها في سبيل الله ونصرة دينه، وإيماناً وتصديقاً برسوله محمد(ص).
ولذلك:
كان لها من القدر عند رسول الله(ص) ما جعله ينظر إليها كنفسه المقدسة لاسيما وقد نص على ذلك بقوله حينما دخل عليه الصحابي الجليل سلمان المحمدي (الفارسي) وعنده جماعة من أصحابه وأهل بيته فقال(ص):
"من عرف قدر خديجة فقد عرف قدري، ومن أهان قدرها، أهان قدري"(8).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(ص): "من أراد هوان خديجة فقد أهان الله تعالى"(9).
ولعل ما في بطون المخطوطات ما هو أكثر مما عثرت عليه في هذه العجالة مع ما تفرضه قوانين حصائن المخطوطات التي فيها ما هو أبين في الدلالة وألزم في الحجة على الذين نافقوا لأهل السلطة والتمسوا منهم الفتات من موائدهم المنصوبة على ضلوع الأيامى والأيتام والجياع.
ولولا ارتكاس البعض في وحل التعصب لكان ما في بطون المخزون من المخطوطات خير معلم للخلف بسيرة نبيهم وأوضح دليل على شرفهم الذي غيبته دراهم بيت المال.
الهوامش:
1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8، ص 60؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج2، ص 116؛ الإصابة لابن حجر: ج8، ص 102.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8، ص 58؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج3، ص 172؛ الإصابة لابن شهر: ج8، ص 102؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج6، ص33.
3- "مخطوط" الجزء الثاني من سيرة النبي(ص) لأبي الحسن البكري، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق الشام، ويحمل الرقم (12442).
4- المصدر السابق.
5- السيرة الحلبية: ج2، ص 42؛ المناقب لابن شهر: ج1، ص 151؛ البحار للمجلسي: ج19، ص 15؛ الرسالة المحمدية للثعالبي: ص 76؛ عمدة القاريء في شرح صحيح البخاري للعيني: ج8، ص180؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ص 45؛ كشف الغمة لأربلي: ج1، ص16.
6- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج1، ص 211؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج3، ص 165؛ سبل الهدى للشامي: ج2، ص 435.
7- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 63؛ المنتخب من كتاب أزواج النبي للزبير بن بكار: ص 33؛ سمط النجوم العوالي للصنعاني: ج7، ص 492، ح 14003؛ القوانين الفقهيّة لابن الكلبي: ص 408، ط دار الكتاب العربي؛ وسيلة الإسلام لابن منقذ: ص 54.
8- "مخطوط" كتاب فضائل العشرة لابن العباس الكنكشي، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم (12990).
9- نفس المصدر السابق.
المصدر: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، دراسة، وتحقيق السيد نبيل الحسني، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ج4، ط١، ٢٠١١م، كربلاء المقدسة العراق.
اترك تعليق