مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

موضع قبر السيدة خديجة عليها السلام وخصائصه

موضع قبر السيدة خديجة عليها السلام وخصائصه


يقع إلى جوار الحجون في مكّة المكرّمة شعب يُعرف بشعب أبي دبّ، وأبو دبّ رجل من بني سواءة بن عامر سكنه فسمّي به.
وقال ياقوت الحموي عن هذا الشعب ما يلي:
شِعْبُ أبي دُبّ: بمكة... قال الفاكهي أبو عبد الله محمد بن إسحاق في كتاب مكّة من تصنيفه: أبو دُبّ هذا رجل من بني سُواءة بن عامر بن صَعصَعة.
ويُسمّى هذا الشعب الواقع إلى الشمال الشرقي من مكّة أيضاً، بشعب الجزّارين ويُسَمّيه بعض آخر، باسم «شعب المقبرة» وسبب هذه التسمية أن أهل الجاهلية كانوا يدفنون موتى أهل مكّة في هذا المكان.
وذكر الأزرقي:
كان أهل الجاهلية وفي صدر الإسلام يدفنون موتاهم في شعب أبي دبّ من الحجون إلى شعب الصفي، صفي السباب، وفي الشعب اللاصق بثنية المدنيين الذي هو مقبرة أهل مكّة اليوم، ثم تمضي المقبرة مصعدة لاصقة بالجبل إلى ثنية أذاخر بحايط خرمان.
وقال في موضع آخر:
كان أهل مكّة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشامة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ثم حول الناس جميعاً قبورهم في الشعب الأيسر لما جاء من الرواية فيه، ولقول رسول الله(ص) نعم الشعب، ونعم المقبرة. ففيه اليوم قبور أهل مكّة إلاّ آل عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وآل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فهم يدفنون في المقبرة العليا بحايط خرمان.
تُعرف هذه المقبرة فيما مضى بمقبرة المعلاّة، ويسمّيها بعض آخر بالمُعلّى وبين أهل مكّة تعرف بجنّة المعلاة ولمّا كان جبل الحجون مشرفاً على هذه المقبرة، فقد سمّاها البعض بمقبرة الحجون.

المدفونون في هذه المقبرة:

دُفن في هذه المقبرة الكثير من الشخصيات البارزة في تاريخ الإسلام نذكر فيما يلي أسماء بعضهم:
قصي بن كلاب، وهو أوّل شخص دفن في الحجون، توفّي في مكّة، ومن بعد دفنه في الحجون، اعتاد الناس على دفن موتاهم فيهـا.
عبد مناف.
3 و4ـ عبد المطّلب وهاشم أجداد النبيِّ(ص).
أبو طالب، توفي في السّنة العاشرة للبعثة بعد أن مضى من عمره نيّفٌ وثمانون عاماً، ودفن في مقبرة الحجون34.
خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله(ص) وأُمّ المؤمنين، توفيت بعد انتهاء المقاطعة، والخروج من الشعب، عن عمر يبلغ 65 عاماً ودفنت في مقبرة الحجون، فجع الرسول بوفاتها وحزن عليها أشدّ الحزن.
القاسم بن رسول الله(ص).
الطيب (عبد الله) بن رسول الله(ص).
أبناء رسول الله(ص) الّذين ولدوا بمكّة هم:
القاسم الطيب (عبد الله) الطاهر زينب رقيّة أُمّ كلثوم فاطمة(ع).
قال ابن هشام: كان أكبرهم القاسم ومن بعده الطيب والطاهر ولد القاسم قبل البعثة، إلّا أن عبد الله واسمه الآخر الطيب، وكذلك الطاهر ولدا في عهد الإسلام وبعد البعثة.
سميّة أُمّ عمار بن ياسر أوّل شهيدة في الإسلام واسمها سميّة بنت الخبّاط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله.
10ـ عبد الله بن ياسر، أخو عمّار.
11- حذامة بنت خويلد اخت خديجة الكبرى(ع).
12- أسماء بنت أبي بكر.
13- زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب أُخت عثمان بن مظعون زوجة عمر بن الخطاب.
14- عبد الله بن شهاب بن عبد الحرث جدّ محمد بن شهاب الزهري.
15- عبد الله بن عمر بن الخطّاب وأُمّه زينب بنت مظعون، مات بمكة في سنة أربع وسبعين، وقد أتت له أربع وثمانون وكان نازلا على عبد الله بن خالد بن أسيد في داره، وكان صديقاً له، فلما حضرته الوفاة أوصاه أن لا يصلّي عليه الحجاج، وكان الحجاج بمكة والياً بعد مقتل ابن الزبير فصلّى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلا على ردم آل عبد الله عند دارهم، ودفنه في مقبرته.
16- عبد الله بن الزبير بن العوّام.
ظنّ بعض المؤرخين أن قبر آمنة بنت وهب أُمّ رسول الله(ص) في هذه المقبرة، وهذا ليس بصحيح إذ ذكر ابن هشام في سيرته، وابن سعد في طبقاته بأنّ وفاة آمنة كان بالأبواء بين مكّة والمدينة، ودفنت هناك.
وقال الأزرقي: قد زعم بعض المكيين أن في هذا الشعب قبر آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أُمّ رسول الله. ومن هذه العبارة -قد زعم- يظهر بأن هذا عنده ليس بصحيح.
وجاء في مرآة الحرمين:
... وبه أيضاً قبر زعموا أنه لآمنة أمّ الرسول(ص) وهذا افتراء، والحقيقة أنها مدفونة بالأبواء بين المدينة ومكّة على نحو 13 ميلا من رابغ.
وقع الأبواء في الجهة الشرقية للمدينة المنورة، ومن رابغ إلى الأبواء 43 كيلومتراً- وقد ذكر مجد الدّين أبو الطاهر محمد بن يعقوب الحافظ الفيروز آبادي في كتابه باسم- إثارة الحجون إلى زيارة الحجون -وكذلك محمد بن العلوي المالكي في مؤلفاته، أسماء بعض الصحابة والتابعين والعلماء والعرفاء المدفونين في هذه المقبرة.

تشير الروايات إلى أنّ النبي الأكرم(ص) حينما توفيت أم المؤمنين(ع) حملها إلى موضع من مواضع مكة ودفنها فيه بل الظاهر أنّ خديجة هي أول مَن دُفن في هذا المكان.


شرافة موضع قبرها:
ذكر ابن حجر، وابن عبد البر، والذهبي، وغيرهم: أنها دُفنت بالحجُون(1)، بفتح الحاء وضم الجيم وهو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد، وهناك مقبرة أهل مكة(2).
وقال الأصمعي: هو الجبل المشرف الذي بحذاء مسجد البيعة على شعب الجزارين(3).
وتدل أبيات مضاض بن عمرو الجرهمي وهو يتشوق إلى مكة لما أجلتهم عنها خزاعة إلى اشتهار هذا الموضع عند المكيين وتفضيله على غيره من الأماكن وأنهم لم يتخذوه مقبرة حتى دفنت كما سيمر في الأحاديث.
قال عمرو الجرهمي:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا        أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فآبادنا                    صروف الليالي والجدود العواثر
فأخرجنا منها المليك بقدرة                  كذلك يا للناس تجري المقادر
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة                      كذلك عضتنا السنون الغوابر
وبدّلنا كعب بها دار غربة                       بها الذئب يعوي والعدو المكاشر
فسحت دموع العين تجري لبلدة            بها حرم أمن وفيها المشاعر
(4)

كثير بن كثير -من مشاهير شعراء القرن الأوّل للهجرة- قال في هذه المقبرة:
عَيْنَيَّ جُودِي بِعِبْرَةٍ أَسْرَابِ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةِ التِّسْكَابِ إِنَّ أَهْلَ الْحِصَابِ قَدْ تَرَكُونِي مُوزِعًا مُولَعًا بِأَهْلِ الْخَرَابِ كَمْ بِذَاكَ الْحَجُونِ مِنْ حَيِّ صِدْقٍ مِنْ كُهُولٍ أَعِفَّةٍ وَشَبَابِ سَكَنُوا الْجَزْعَ جَزْعَ بَيْتِ أَبِي مُوسَى إِلَى النَّخْلِ مِنْ صُفِيِّ السِّبَابِ أَهْلُ دَارٍ تَتَابَعُوا لِلْمَنَايَا مَا عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَهُمْ مِنْ عِتَابِ فَارَقُونِي وَقَدْ عَلِمْتُ يَقِينًا مَا لِمَنْ ذَاقَ مَيْتَةً مِنْ إِيَابِ أَحْزَنَتْنِي حُمُولُهُمْ يَوْمَ وَلَّوْا مِنْ بِلادِي وَآذَنُوا بِالذِّهَابِ.
كانت هذه المقبرة ومنطقة الحجون معروفة في الماضي، ونظم فيها شعراء العرب الكثير من الأشعار، نذكر بعضها:
فلمّا التَقَيْنا بالحَجُونِ تَنَفَّسَت         تَنَفُّس محزونِ الفؤاد سقيم
تَنَفُّس محزونِ الفؤاد سقيم           تَنَفُّس محزونِ الفؤاد سقيم
وقال شاعر آخر:
وارداتِ الكديد مُجتَرعاتٍ               حُزن وادِى الحَجُون بِالاَثْقال
حُزن وادِى الحَجُون بِالاَثْقال           حُزن وادِى الحَجُون بِالاَثْقال
وقال آخر:
ليالي سّمار الحَجُونِ إِلَى الصَّفا    ولو نَطَقَتْ بَطْحاؤُها وحَجونُها    وخيفُ مِنىً واِلمأزِمان وزمزم
خُزاعة إذ خَلّت لها البيت جُرْهُم    وخيفُ مِنىً واِلمأزِمان وزمزم   وخيفُ مِنىً واِلمأزِمان وزمزم
وقال الأعْشي:
فَما أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الحَجُونِ ولاَ الصَّفا        ولا لَكَ حَقُّ الشِّرْبِ فى ماءِ زَمزَم
ولا لَكَ حَقُّ الشِّرْبِ فى ماءِ زَمزَم           ولا لَكَ حَقُّ الشِّرْبِ فى ماءِ زَمزَم
وقال عمرو بن الحرث بن مُضاض بن عمرو يَتأسَّف على البيت، وقيل هو للحرث الجُرْهُمي:

كَأَن لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفا بَلى نحن كُنّا أَهْلَها، فَأبادَنا صُروفُ الليالي والجُدُودُ الْعَواثِرُ
أنيسٌ ولم يسمُر بمكَّةَ سامِرُ صُروفُ الليالي والجُدُودُ الْعَواثِرُ صُروفُ الليالي والجُدُودُ الْعَواثِرُ
وروى الأزرقي عن ابن صيفي أنه قال: من قُبر في هذه المقبرة بُعث آمناً يوم القيامة ـيعني مقبرة مكّة.
وإنّ من مميزات هذه المقبرة وقوعها أمام جزء من الكعبة:
قال الأزرقي: قال جدّي: لا نعلم بمكّة شعباً يستقبل ناحية من الكعبة ليس فيه انحراف إلاّ شعب المقبرة فإنّه يستقبل وجه الكعبة كلّه مستقيماً وممّا ورد في فضل هذه المقبرة ما نقل عن عبد الله بن المرجاني في تاريخه للمدينة أنه قال: سمعت والدي يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الله الدلاصي يقول: سمعت الشيخ أبا محمد الدبشي يقول: كُشِف لي عن أهل المعلاة فقلت: أتجدون نفعاً بما يُهدى إليكم من قراءَة أو نحوها؟ فقالوا: لسنا محتاجين إلى ذلك، قال: فقلت لهم: ما منكم أحد واقف الحال؟ قالوا: ما يقف حال أحد في هذا المكان.
قال الفاسي في شفاء الغرام:
زيارة هذه المقبرة مستحبّة لِما حَوَتْه من سادات الصحابة والتابعين وكبار العلماء والصالحين.
قال الجوهري: الحَجون -بفتح الحاء- جبل بمكة وهي مَقْبُرة.
وقال ابن الأثير: الحَجُونُ الجَبَلُ المُشْرِف ممّا يَلي شِعْب الجَزَّارين بِمَكّة. وقال ابن منظور: والحَجُونُ موضِعٌ بمكّة ناحية من البيت.
وقال محمد حسين هيكل في وصف مقبرة المعلاّة:
ومقبرة المعلاة تقع في الشمال الشرقي من مكّة، وهي فضاء فسيح محصور بين الجبال من شماله وغربه، وتفصل بينه وبين الجبال من الشرق بعض المساجد والمساكن، ويتصل من الجنوب بمنازل أهل مكّة، وهذه المقبرة قديمة ترجع إلى عهد الجاهلية، وهي ما تزال مع ذلك مقبرة أهل مكّة في هذا الزمن الحاضر. ولعل بقاءها مقبرة حتى اليوم يرجع إلى تقديس المكيين للقبور القديمة الّتي بها أكثر مما يرجع إلى رغبتهم عن اتخاذ مقبرة لمدينتهم فيما وراء الجبال التي تحصرها.
والمسافة من باب بني شيبة إلى باب مقبرة المعلاة 2127 ذراعاً بذراع اليد أي 1042 متراً تقريباً. والمسافة بين باب المعلاة بمكة وأوّل منى 5407 أمتار.


وقد ورد في السنة المطهرة على صاحبها وآله صلاة الرحمن وسلامه ما يدل على منزلة هذا المكان وتفضيله على كثير من بقاع مكة وغيرها من الأراضي، فمنها:
1- قال(ص): "الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينشران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة"(5).
2- وجاء في معجم الطبراني أن ابن عباس قال: لما أشرف النبيُّ(ص) على المقبرة وهو على طريقها الأول، أشار بيده وراء الضفيرة أو الظهيرة فقال: «نِعْمَ المقبرة هذه» قلت للذي يخبرني: خصّ الشعب؟ قال: هكذا كنا نسمع أن النبيَّ(ص) خصّ الشعب المقابل بالبيت.
عبد الله بن مسعود قال: وقف رسول الله(ص) على الثنيّة، ثنيّة المقبرة، وليس بها يومئذ مقبرة فقال: يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كلّه سبعين ألفاً، يدخلون الجنّة بغير حساب، يشفع كلّ واحد منهم في سبعين ألف، وجوههم كالقمر ليلة البدر، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله من هم؟ قال: الغرباء. انتهى.
3- وعن النبي(ص)، أنه قال: "إنّ الله تعالى يأمر يوم القيامة أن يأخذوا بأطراف الحجون والبقيع، وهما مقبرتان بمكة والمدينة فيطرحان في الجنة"(6).
والظاهر هنا أنّ النبي(ص) قد أرشد المسلمين إلى اتخاذ الحجون والبقيع محلاً لدفن موتاهم لما لهما من خصوصيّة في الآخرة(7)، وإلا فهما لم يكونا قبل ذلك محلاً لدفن المؤمنين.
ومما يدل عليه الحديث الآتي:
3- وعن عبدالله بن مسعود، قال: وقف رسول الله(ص) على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال:
يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر(8).
4- روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله(ص): مَن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل مع الآمنين"(9).
5- وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة أنّ الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم: إذهبوا إلى البيت الحرام فزمّوه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذه ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري. فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي.
فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي.
فتقول الكعبة: يا رب شفعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين.
فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أُعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي، فتقول الكعبة: يا رب عبادك المؤمنين الذين وفدوا إلي من كل فجّ عميق شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقاً إلي زائرين مسلمين طائعين، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفعني فيهم وتجمعهم حولي، فينادي الملك: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصر على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول الله: قد شفعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادٍ من جو السماء: ألا مَن زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون، ثم ينادى ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري. فتقول الكعبة: لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم (يمدونها) إلى المحشر(10).
وهذه الأحاديث تدل على خصوصيّة الموضع الذي دفنت فيه خديجة عليها السلام؛ وأنّ النبي الأكرم(ص) إنما دفن أم المؤمنين خديجة(ع) في هذا الموضع لمعرفته بفضيلته عند الله تعالى، مما جعل المكيين يدفنون موتاهم فيه؛ فضلاً عن أنّ النبي(ص) أراد حفظ قبر خديجة(ع) من أيدي الأعراب حينما يتخذه أهل مكة، أي الحجون محلاً لدفن موتاهم.
كما تكشف هذه الأحاديث أهمية أن يحمل الميت إلى الأماكن التي فضلها الله على غيرها من الأرض لاسيما أرض الحرمين، وأرض كربلاء، والنجف الأشرف، كما دلت عليه أحاديث أهل البيت(ع) الكاشفة عن اختصاص هذه الأماكن باللطف الإلهي والكرامة الخاصة.

قيام الأعراب بهدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام:
لمّا تزل أم المؤمنين خديجة عليها السلام تتلقى من الأعراب والمنافقين في حرمتها وحرمة رسول الله(ص). ولم تهدأ هذه الأعراب عن التعرض لأم المؤمنين خديجة ولم تفتأ تتعرض لحرمة رسول الله(ص) منذ أن بعثه الله فهؤلاء المنافقون لم يغمض لهم جفن حتى ينتقموا منه ومن أزواجه وأهل بيته وأصحابه.
فبالأمس كانوا يرمون رسول الله(ص) وهو في دار أم المؤمنين خديجة(ع) فتقف تتلقاها ببدنها وتنادي: (أترمى الحرة في دارها) فيكفون عنها، واليوم ترمى بالرصاص ويهدم قبرها مبتهجين بذلك وهم ينشدون:
طالما عبدت الناس نفسك          فالآن قومي وامنعينا
(11)
إلا أنّ الفارق بين أولئك الأعراب وهؤلاء هو أنّ أولئك كانوا يحتفظون في أنفسهم ببعض الحياء، ولذا كفوا عن رمي خديجة بالحجارة.
وأما هؤلاء المعاصرون فقد تجردوا من كل القيم الإنسانية والطباع البشرية فكانوا مسوخاً حيوانيّة لا يعرف لها هيئة حتى في المخلوقات المجهرية.
"ألم يعلموا أنه مَن يحادد الله ورسوله فأنّ له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم"(سورة التوبة، الآية: 63).


قال محمد حسين هيكل في كتابه -في منزل الوحي- ما يلي:
وقبور المعلاة مسوّاة بالأرض اليوم، وهي لم تكن كذلك قبل أن يدخل الوهابيون الحجاز. ويفصل بينها وبين الطريق منحدر من الأرض يسمو بها، وبما تحويه من ذكريات إلى سفح الجبل. وإنك لترى بها على رؤوس قبور شواهد نفشت عليها بالخطّ الكوفي أو بالخطّ الثلث الجميل آيات قرآنية في أغلب الأمر، وأسماء ساكني هذه القبور في بعض الأحيان، ولقد صحبنا حارس المقبرة في مسيرنا يهدينا أثناءها إلى مقابر بعض الصحابة والتابعين.
وتقدمنا غير بعيد، ثم وقف يشير بإصبعه إلى قبر ذكر أنّه قبر عبد الله بن الزبير... وإلى جانب قبر ابن الزبير أشار الحارس إلى قبر آخر ذكر أنه قبر أُمّه أسماء بنت أبي بكر. ومدّ الحارس بصره إلى ناحية الجبل من الشمال ومددنا البصر معه، فأشار الى جدار قائم في سفح الجبل يحجب ما وراءه ولم ينبِس ببنت شفة. أمّا الشيخ عبد الحميد حديدي فقد أخبرني أنّ الوهابيين شادوا هذا الجدار ليستروا به قبر خديجة أُمّ المؤمنين، وقبور بني هاشم من أجداد الرّسول عن الأعين، وليحولوا بين الحجاج وزيارتها للتبرّك بها; لأنّهم يرون في الزيارة والتبرك إثماً هو إثم الشرك بالله، أو اتخاذ هذه القبور زُلْفَى إليه.
وتقدّمنا الشيخ عبد الحميد إلى ناحية هذا الجدار متخطِّياً المقبرة التي كنّا بها إلى فضاء يعترض السبيل إليه عارض من خشب سُدَّ به الطريق... وبعد هنيهة أشار إلى قبر على يسار الداخل قال:
إنّه قبر خديجة بنت خويلد أُمّ المؤمنين وجدّة جميع المنتسبين إلى الرسول بأنهم من أبناء ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي طالب. ولقد سُوِّى هذا القبر بالأرض كما سويت سائر القبور بأمر الوهابيين. وتقدمنا خطوتين بعد ذلك إلى قبور، قال الحارس:
إنها قبور جَدّي الرسول: عبد المطلب وعبد مناف وعمه أبي طالب. ثم أشار إلى قبر ذكر أنه قبر أُمّه آمنة. ولم يدهشني ما ذكره عن قبر آمنة مع علمي أنها توفيت ودفنت بالأبواء بعد الذي ذكره أهل مكّة عن هذه الآثار وقيمة سندها من التاريخ. فالقول بوجود قبر آمنة في هذا المكان إنما كان يقْصَد به الى الاستزادة مما يدفعه الحجاج أثناء زيارتهم هذه القبور للتبرّك...
وآن لنا أن ننصرف من المقبرة، فاستوقفنا الحارس إذ مدّ يده ممسكاً بها قطعة من القاشاني الأخضر الجميل اللون زينت أطرافها بنقش فني دقيق وقال:
«هذه قطعة من جدار القبة التي كانت على قبر السيدة خديجة» فقد كان على قبر خديجة قبة شاهقة بارعة الجمال، يذكر المؤرخون أنها بنيت في السنة الخمسين والتسعمائة من الهجرة أثناء ولاية داود باشا بمصر، وأن الذي بناها أمير دفاتر هذا الوالي الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي. وقد أزال الوهابيون هذه القبة فيما أزالوا من القباب أوّل دخولهم مكّة إرضاء لهوى إيمانهم، ثم بقيت صورتها الشمسية تشهد بأنها كانت آية بارعة في فنّ العمارة براعةً تصدّ من يفهم هذا الفن عن أن يصيبها بسوء. وكانت إلى جوارها قباب لجدّي النبيّ عبد المطّلب وعبد مناف ولعمّه أبي طالب، بذلك كانت هذه المقبرة بِدْعاً يعشقه من يحبون جمال الفن، وكان الناس يزورونها إجلالا لهذه القِباب، وتبركاً بذكرى ساكنيها. أما اليوم فلا يفكر أحد في القباب وقد أزيلت، ولا يزور أحدٌ القبورَ وقد حيل بين الناس وبينها بهذا الجدار الذي يصدّهم عنها. على أنهم ما فتئوا يحضرون اليوم كما كانوا يحضرون من قبل فيقفون عند هذا الحاجز الذي تخطيناه قبل أن نصعد سفح الجبل فيقرأُون الفاتحة ويلتمسون البركة ثم ينصرفون.
قال «رفعت باشا»: قد زرنا هذه المقابر وقت مرورنا بها، ويحيط بالمقبرة سور قديم مَبْن بالحجارة وبها قبور كثير من الصحابة، وبالشق الأيسر قبة شاهقة على قبر السّيدة خديجة أُمّ المؤمنين ـرضي الله عنهاـ وبه أيضاً جملة قباب قيل لنا: إنها على مقابر عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم أجداد النبيِّ(ص) وكذلك قبة على قبر عمّه أبي طالب.


 


الهوامش:
1- تحفة الأحوذي: ج10، ص 264؛ أسد الغابة: ج5، ص 439؛ سير أعلام النبلاء: ج1، ص 112؛ الإصابة: ج8، ص 103؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 2؛ تاريخ الإسلام: ج1، ص 237؛ الاستيعاب: ج4، ص 1825.
2- فتح الباري لابن حجر: ج3، ص 323.
3- معجم البلدان للحموي: ج2، ص 225.
4- معجم البلدان للحموي: ج2، ص 225.
5- تخريج الأحاديث والآثار للزيعلي: ج1، ص199؛ الكشاف للزمخشري: ج1، ص448؛ تفسير الثعلبي: ج3، ص 151؛ تفسير النسفي: ج1، ص 168؛ تفسير أبي السعود: ج2، ص 61.
6- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج2، ص 309.
7- تخريج الأحاديث والآثار للزيعلي: ج1، ص 199؛ الكشاف للزمخشري: ج1، ص 448؛ تفسير الثعلبي: ج3، ص 151؛ مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج2، ص 309؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج10، ص 89؛ تفسير الثعلبي: ج3، ص 151.
8- الكشاف للزمخشري: ج1، ص 448. تفسير أبي السعود: ج2، ص 61.
9- تفسير الثعلبي: ج3، ص 151. تفسير النسقي: ج1، ص 168.
10- المصدر السابق: ج3، ص 151- 152.
11- شجرة طوبى للحائري: ج1، ص175؛ كما يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي على إقدام الأعراب على هدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام من خلال الشبكة العالميّة المعلوماتيّة (الأنترنت).





المصادر:
1- خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، دراسة، وتحقيق السيد نبيل الحسني، قسم الشؤون
الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ج4، ط١، ٢٠١١م، كربلاء المقدسة العراق.
2- جَنَّة المعلاة: علي قاضي عسكر.

التعليقات (0)

اترك تعليق