مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المرأة من هي؟ مقاربة في علم نفس الأعماق

المرأة من هي؟ مقاربة في علم نفس الأعماق

لو طلب إلي أحدهم: "عرّف المرأة، وتكلم عليها وأنت تحكم ترتيب الكلمات"، لأجبت:
- هل يمكن أن نشرح عالما منحنيًا بواسطة المستقيم؟
أو أن نحتفظ بالماء في أيدينا كيما نعطيه شكلا؟
وهل يمكن الإحاطة بإحساسات الحياة، والإحساسات الواسعة التي تتصف المرأة بأنها المؤتمن عليها، بفعل طبيعتها ذاتها؟ ذلك أن المتعذر أن نحصر المرأة في قوانين دقيقة، مثلما أننا لا نعرّف الدائرة بالمربع. فالمرأة شبيهة بمحيط الدائرة الذي تحسبه بواسطة القطر: ثمة دائما كسر عشري يفوتك إلى ما لا نهاية.

وأقول أيضا:
- المؤنث في المرأة لا متمايز، ولا صورة له. إنه يُجمل، ويحيط، ويتكيّف. إنه صبر. إنه يلاحظ، ويهتز، ويلتقط، ويصغي، ويتلقى رسائل الأشياء. إنه وضوح، ونفاذ بصيرة، وفطانة.
المرأة بحاجة إلى النظام في جميع الأمور: في الأفكار، وفي الطبيعة، وفي الناس، وفي إدارة المنزل. وهي قادرة على أن تصبر طوال قرون، دون أن تنبس بكلمة. ولكن لا شيء يفوتها. إنها تستشعر ما هو صحيح وعادل. وتصمت وتبتسم أمام حذلقة الرجال.

 المرأة والعاطفة الشخصية
١- النساء لا يبالين بالمجردات
يبدو لنا، إذا أضغينا إلى الرجال العاديين، أنهم يجعلون حياتهم تدور حول ما قد تسميه النساء "الكلمات العظيمة": الشرف، والواجب، والعمل، والأخلاق، والمنطق، والعقل، إلخ.
وبالاختصار، يجعل الرجال العاديون حياتهم تدور حول سلسلة من المجردات. وهكذا ينظر العديد من الرجال إلى الوجود على أنه منصبّ في ضرب القالب العام، المفروض من الخارج. ثم يحاولون أن يمتثلوا له امتثالا ليس بالجيد ولا بالسيء. بل إنهم يمتثلون في أغلب الأحيان امتثالا أكثر سوءا مما هو جيد، ذلك أن المرء يمكن أن يكون على يقين بأن أي رجل يتكلم عن الشرف والواجب، فيقول "شرفي"، و "واجبي"، يحتفظ في رأسه بالعمومية المقنّنة.
ولن تستخدم أي امرأة على الإطلاق هذه التعبيرات العامة، الجاهزة، التي تتصف بأنها، بالنسبة إليها، فارغة من المعنى.
وتنظر المرأة مندهشة إلى الرجال الذين يستخدمون هذه الكلمات اللاشخصية، والمثلّجة بالتالي. وهي على العكس قريبة من الأشياء والواقع، لأنها هي هذا الواقع.
ولهذا السبب كانت المرأة شخصية أكثر من الرجل. إنها تقول: عملي أنا، بيتي أنا، وواجبي أنا، ومنطقي أنا، في حين يقول الرجل: "الوطن". وهو عاجز على الأغلب، عن أن يوظف في هذه الكلمة أي قيمة وجدانية. فيحاول عندئذ أن يحيطها بالعاطفية، والطبول والأبواق. ولكن "الوطن" يبقى بالنسبة إليه فكرة.
وستقول المرأة: "وطني أنا". والمقصود بالنسبة إليها أسرة ينبغي المحافظة عليها.
٢- كيف ترى المرأة العالم؟
الرجل يرى العالم، على الغالب، جملة وببرود، ودون أن تتدخل عواطفه الشخصية، وتلك هي السياسة المجردة واللاشخصية.
المرأة ترى العالم، على الغالب، على أنه مجموعة من الأسر، هي صديقتها أو على خلاف معها، تحبها أو لا تحبها، إنها سياسة العاطفة الشخصية.
ولا يعني هذا أن المرأة لا تبالي بأمور العالم، بل إنها لا "تتعاطى" الأحاديث العظيمة التي يسقطها الرجل في أغلب الأحيان على المستقبل.
قالت إحدى النساء لي:
نحن، معشر النساء، نبحث دائما عن الماهية خلف المظاهر.
هنا، إنما نجد الهوة الكبيرة التي تفصل بين الجنسين؛ فالرجل يتوحد بما يصنع، لا بما هو عليه، والمرأة تقتضي أن يكون الرجل ما هو عليه.
المرأة جماعية وشيوعية، ولكن بمعنى أنها تتمنى لو تحول العالم برمته إلى أسرة. والمرأة محافظة: إنها يمينية بعمق، لأنها حافظت على جذورها.
وجذر هذه المواقف موجود في الطفولة:
فالصبي نزاع بطبيعته ذاتها إلى أن يهجر أسرته وأن يهرب منها لا بفعل الميل إلى الاكتشاف فحسب، بل لأن هذه الأسرة تذكره بعدمه الأصيل كذلك.
أما البنت فإنها نزّاعة، ولو أنها مولعة بالحرية، أن تبقى في الجو الأسري، أو أن تعود إليه: مكان مغلق ودافئ، أضيفت عليه الداخلية؛ فالمرأة على هذا النحو تنتمي إلى الجماعة.
ولا تبدي المرأة أي حماسة لأن تحترف السياسة، لأنها تتصف بأنها سياسية، أي حذرة، أمومية، تدير كل الأمور بوصفها أم أسرة.
٣- المرأة والعدالة:
والأمر ذاته يتعلق بالعدالة؛ فليس بعيدا على الرجل أن يتوحد بالقانون، إنه يطلب رأس مجرم من المجرمين باسم العدالة. ولن تقول ذلك امرأة أبدا، ولن تفكر فيه.
والمرأة أولا، تضع كل شيء بالجمع: القضاة، والقوانين، واللوائح، ولا تفعل كما يفعل الرجل: القانون واللائحة، إتها هنا أيضا بحاجة إلى أن تضفي الصفة الإنسانية على المجردات.
وبوسع أحد الرجال أن يدافع مخلصا دون أن يدرس موكله، في حين أن إحدى النساء السويات تكون عاجزة عن تطبيق عدالة ما دون أن تعرف الوجه الإنساني لمن هو موضوع الاتهام، لأنها ترفض اللاشخصية في الكلمات والأفكار.


٤- المرأة والعمل
قالت لي إحدى النساء:
- إنني مندهشة من أن أرى صديقات لي حزن على الشهادات، ولديهنّ إمكانية العمل الحر، الموجب للاهتمام، ينكفئن في بيوتهن بعد زمن معين من الاهتمامات الخارجية. فهل وقعن في شرك الزي القديم، زي المرأة في المنزل؟
ويبدو لي أن السؤال لا يكمن هنا، فإذا أحسّت امرأة أن عملها غير شخصي، ومجرد، فرّت في أول مناسبة تسنح لها. وحتى المرأة التي تجاوزت نزعتها الغريزية، فلا تخرج من ذاتها، ولا من بيتها، بحاجة إلى أن تضفي الصفة الشخصية على حياتها.
والمرأة تفصل بين شخصها وبين شغلها، وهي بحاجة إلى أن تعمل مع أناس تحبهم، لأن هذا الشغل يتحول إلى جمعية أسرية، ويصبح المشروع بيتها، والمكتب غرفة الجلوس لديها.

المصدر: المرأة؟ بحث في سيكولوجية الأعماق، بيير داكو، ترجمة وجيه أسعد، مؤسسة الرسالة، ط٣، ١٩٩١م.

التعليقات (0)

اترك تعليق