مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

قدس إيران.. زوجة الإمام الفاضلة

قدس إيران.. زوجة الإمام الفاضلة

کانت سیدة الثورة تتحلى بشخصیة ذکیة وصبورة. وإذا ما تأملنا فی مظاهر صبرها سوف یتضح لنا أن صبرها کان مقروناً بالفطنة والذکاء، بمعنى أن صبرها واستقامتها فی تحمّل الصعاب کان نابعاً من إدراکها الواعی للظروف.
ولدت زوجة الإمام الخمینی (قدس سره) السیدة الفاضلة خدیجة ثقفی عام 1229 شمسی فی طهران فی أسرة اشتهرت بالعلم والأدب. والدها المرحوم آیة الله المیرزا محمد ثقفی صاحب تفسیر (روان جاوید)، کان من علماء طهران المجددین ومن تلامذة المرحوم آیة الله العظمى الحائری الیزدی. فجدّها المیرزا أبو الفضل طهرانی مؤلف الکتاب الشهیر (شفاء الصدور فی شرح زیارة عاشوراء) کان من نوابغ عصره. ووالد المیرزا أبو الفضل طهرانی هو المرحوم المیرزا أبو القاسم کلانتر مؤلف کتاب(تقریرات الشیخ الأنصاري)، أحد فقهاء طهران.
کانت زوجة الإمام تتحلى بنعمة الذکاء ومؤهلات ذاتیة فذة ، وتمتلک حافظة غیر اعتیادیة، ورغبة کبیرة فی اکتساب العلوم. کانت قد درست العلوم الحدیثة فی المدارس الثانویة حدیثة التأسیس فی تلک الأیام. و قد درست اللغة الفرنسیة فی المدرسة وأتقنتها، کما تعلمت اللغة العربیة لدى سماحة الإمام وواصلت ذلک بعد الانتقال الى العراق. کانت تحیط بالشعر والأدب الفارسی مثل( دیوان حافظ) ومؤلفات سعدی و(کلیلة ودمنه) والکتب الادبیة الأخرى، وکانت تحفظ الکثیر من الأشعار حتى الأيام الأخيرة من حیاتها. بعد زواجها درست الدروس الحوزویة لدى سماحة الإمام طوال خمسة عشر عاماً، حیث کان سماحته یشید دائماً باستعدادها ومؤهلاتها ویشجعها على الدراسة والبحث.
في عام 1308 شمسي، وبعد محاولات متعددة لطلب یدها، عقد قران هذین الشخصین الخاصین، اللذین کانا حقاً کفواً لبعضهما، في شهر رمضان المبارك في حرم السید عبد العظیم الحسني، فکانت حصیلة هذا الزواج ثمانیة أبناء ثلاثة بنین وخمس بنات. ثلاثة من أبنائه توفوا في مرحلة الطفولة، والبقیة هم عبارة عن: الشهید آیة الله الحاج السید مصطفى (زوج السیدة معصومة الحائری)، والسیدة صدیقة مصطفوی (زوجة المرحوم آیة الله شهاب الدین اشراقی)، والسیدة الدکتورة فریدة مصطفوی (زوجة السید محمد حسن أعرابي فرد)، والسیدة الدکتورة زهراء مصطفوی (زوجة السید الدکتور محمود البروجردی) والمرحوم حجة الإسلام والمسلمین الحاج السید أحمد (زوج السیدة الدکتورة فاطمة طباطبائی).
کان أبناء الإمام طوال حیاته المبارکة، من المریدین له والمضحین فی السبیل الإسلام وفی خدمة سماحته وأهدافه بکل صدق وإخلاص، و أن الفضل فی ذلك یعود إلى التربیة السلیمة والأخلاقية التی عملت علیها زوجة الإمام الکریمة، إذ استطاعت على مدى سنوات متمادیة أن تکمل دور الإمام الفذ في أجواء نقیة طاهرة، بما یلیق بمنزلة سماحة الإمام وصیانة أبنائه بکل ما أوتیت من قوة.
ومن طرف آخر کان سماحة الإمام یتصرف بنحو یوحی إلى أبنائه کیفیة التعامل مع والدتهم و احترامها بما یلیق ، وقد أدى ذلک لأن یرى الأبناء وجمیع أفراد الأسرة أنفسهم دائماً على أتم الاستعداد وسبّاقین فی خدمة والدتهم.
إن زوجة الإمام المکرمة وفضلاً عن أنها کانت موضع احترام وتکریم سماحته، کان الإمام یودّها کثیراً وکان لا یکتم حبّه ومودّته لزوجته الحبیبة ویبوح لها بذلک مراراً، حیث کان ذلک واضحاً وملفتاً بالنسبة لأفراد الأسرة والأقارب.
کانت قرینة الإمام امرأة متدینة حقاً وتمقت کل أشکال التظاهر بالتدین. ولم تُسمع منها کلمة نابیة، وکأن الغیبة والنمیمة والاتهام غریبة عن طینتها.. کانت ممن یحرص على أداء المستحبات کالصیام وتلاوة القرآن والزیارة وصلاة جعفر الطیار وزیارة عاشوراء. وکانت حریصة على حفظ وصیانة حرمة الآخرین. و تحب مساعدة الآخرین ومراعاة حدود ذلك.
کانت سیدة الثورة تتحلى بشخصیة ذکیة وصبورة. وإذا ما تأملنا في مظاهر صبرها سوف یتضح لنا أن صبرها کان مقروناً بالفطنة والذکاء، بمعنى أن صبرها واستقامتها في تحمّل الصعاب کان نابعاً من إدراکها الواعي للظروف.
على الرغم من أنها کانت قد ولدت في بیت رجل دین، إلاّ أنها کانت قد أمضت فترة طفولتها وحداثتها في منزل جدّتها وفي رخاء تام. وبعد زواجها من سماحة الإمام أعدّت نفسها لحیاة طلبة العلوم الدینیة البسیطة ومراعاة کافة شؤون رجال الدین والمؤسسة العلمائیة، وکانت حساسة إزاء ذلک طوال حیاتها. وفي مختلف مراحل الحیاة الاجتماعیة لسماحة الإمام ابتداءً من حیاة الطلبة وأثناء اعتباره أستاذا من الطراز الأول في الحوزة العلمیة بقم، وخلال مرحلة المرجعیة والنفیي وقیادة الثورة، وبعد انتصار الثورة الإسلامية، کانت ترى من واجبها التصرف بما یتناسب مع تلک المراحل وما یتوقعه الناس من حیاة الإمام، وقد حرصت على الإبقاء على منزل سماحة الإمام في غایة البساطة والنظم والترتیب سواء بالنسبة لأثاث المنزل والمأکل والملبس.
خلال مرحلة انطلاق النهضة منذ عام 1962، حرصت باستمرار وبکل شجاعة على جعل المنزل مکاناً للهدوء والطمأنیة ومدعاة لحماس الإمام واندفاعه.
خلال اعتقال سماحة الإمام وسجنه عام 1963م، وعلی الرغم من وجود احتمال صدور حکم بالإعدام على سماحته، واجهت هذه المرحلة بکل شجاعة. لقد کان منزل الإمام موضع تفقد ودعم ومساندة کل الذین کانوا قلقین على أحوال الإمام وأوضاعه.
وبعد إطلاق سراح الإمام وفرض علیه الإقامة الجبریة في منطقة قیطریة، بدأت زوجة الإمام المحترمة مرحلة جدیدة من اختبار الصبر والتحمل. إذ إن الانتقال إلى طهران والحرص على وجودها إلى جوار الإمام وتحمل الحصار لفترة غیر معلومة، کان مؤثراً فی طمأنة الإمام وتقویة عزیمته.
وکان الإفراج عن الإمام بشکل نهائی وانتقاله إلى قم، کان قد جعل من منزل سماحته مهبطاً لتدفق سیل عشاقه ومحبیه، والمحافظة على شؤون بیت الإمام باستضافة النساء اللواتی کن یأتین للتعبیر عن مشاعرهن وإخلاصهن، ومراعاة الأعراف والتقالید بالنسبة لعامة الناس وکذلک أسر العلماء والوجهاء، کل ذلک کان یتطلب حنکة ودقة حظیت بإعجاب وتقدیر الجمیع بفضل الإدارة التی تحلت بها زوجة الإمام.
إن خطاب الإمام الشهیر احتجاجاً على منح الحصانة القضائیة للرعایا الأميرکیین، وهجوم القوات العسکریة المباغت لیلاً لاعتقال سماحته ونفیه، وفترة انقطاع أخبار الإمام، واعتقال ونفی الحاج السید مصطفى، کل ذلک کان من بین الأحداث التي لم یکن تحملها ممکناً بالنسبة لسیدة الثورة لولا الشجاعة والصبر والتوکل الذی کانت تتحلى به .
وعقب انتقال الإمام إلى العراق، تخلت زوجة الإمام عن کل ما یربطها بإيران، وإبتعدت عن الأبناء والأقارب والأصدقاء، وتوجهت إلى النجف لمرافقة الإمام والبقاء إلى جواره، وتحملت الغربة المرّة بکل قناعة وصبر. فی مرحلة النفی أیضاً استطاعت أن تضطلع بدور هام فی إقامة علاقات محترمة مع بیوت المراجع والعلماء فی مدینة النجف مثل بیت آیة الله السید الخوئی والشهید الصدر، بل وحتى أسر طلاب العلم أصحاب الفضیلة فی النجف الأشرف، وأن تحافظ على حرمة بیت سماحة الإمام فی أوساط الحوزة العلمیة.
لقد کان لمصیبة استشهاد نجلها العزیز العالم الفقید المرحوم الشهید الحاج السید مصطفى فی الغربة، حرقة فی قلب أمّ الثورة بقیت تتذکر مصابه الألیم حتى أیامها الأخیرة.. إن تحمل استشهاد السید مصطفى من جهة، ومشاهدة مرحلة حلاوة انتصار الثورة الإسلامية فی غیابه من جهة أخرى، کان یضاعف من حزنها. والأهم من کل ذلک أن سماحة الإمام لم یکن یسمح بذکر اسمه نجله فی وسائل إعلام الجمهوریة الإسلامية حتى لا یکون ثمة تمییز بین نجله وبین الشهداء الآخرین، احتراماً للأمة الإيرانية الغیورة والمضحیة، على الرغم من أن احتفالات کانت تقام کل عام لشهداء الثورة وعلماء الدین والمسؤولین.
وعند بلوغ الثورة الإسلامية ذروتها استطاعت زوجة الإمام المضحیة أن تتغلب مرة أخرى على المخاوف الناتجة عن محاصرة قوات الأمن العراقی للإمام وأسرته، والهجرة إلى باریس، والخطر المرافق لتوجه الإمام إلى إيران وأیام عشرة فجر الثورة الزاخرة بالأحداث، وتهدئة الأجواء والسیطرة علیها داخل بیت الإمام.
وغداة انتصار الثورة الإسلامية، فإن مراعاة التقالید التي تلیق ببیت الإمام في التعامل مع الجماهیر العاشقة، وصیانة الاحترام اللازم بالنسبة للأصدقاء والمقربین، والدفاع عن الثورة والإمام في القول والفعل، والحرص على البساطة بما یتناسب وشؤون القیادة، وتوفیر الطعام البسیط والمحبب للحافظین على سلامة الإمام، کل ذلک کان بأمس الحاجة إلى المزید من الدقة وسعة الصدر أخذته زوجة الإمام المحترمة على عاتقها بوحي من فطنتها وذکائها وتقدیرها السلیم للموقف.
وحیث حرصت في غایة الدقة على الاستقبال والترحیب بعامة الناس الذین کانوا یتوافدون للقاء أسرة الإمام والإعراب عن أحاسیسهم ومشاعرهم عن کثب، وکأنهم أصدقائها ومعارفها المقربین وکانت تعتبر إکرام الضیف من واجباتها المؤکدة. حتى أن ترحیبها بالضیف وإکرامه، کان مضرب المثل بالنسبة للأصدقاء والأقارب منذ الأيام الأولى أثناء وجودهم في قم والنجف وطهران.
کانت زوجة الإمام تحتفظ بعلاقات وثیقة مع عوائل کبار المسؤولین وقد حرصت على الإبقاء على علاقاتها بعیداً عن التکتلات السیاسیة التی کانت تتغیر باستمرار طوال العقود الثلاثة من عمر الثورة. کما وأن عوائل المسؤولین کانت تتردد على بیت الإمام باستمرار وفی مختلف المناسبات، حیث کانت تبادلهم الزیارات وتعتبر تفقدهم وزیارتهم ضمن برامجها الیومیة ومن الواجبات.
برحیل سماحة الإمام، وعلى الرغم من أنها فقدت مؤنساً وحامیاً عزیزاً کانت إلى جواره طوال ستین عاماً، إلا أنّه نظراً للشخصیة التي کانت تتحلى بها والروح الثابتة والمستقلة التي کانت تتصف بها، ونتیجة لوجود أبناء أوفیاء مخلصین لم یتخلوا عن والدتهم طوال مراحل حیاتها وکانوا دائماً فی خدمتها، استطاعت أن تحافظ على صبرها ورباطة جأشها وعلى مکانتها المتمیزة بکل عزّ واحترام.
بعد رحیل سماحة الإمام، حرص سماحة القائد المعظم ورؤساء السلطات الثلاثة وکبار المسؤولین على الحضور المستمر فی بیت الامام ولقاء زوجة الإمام والإعراب عن احترامهم وتقدیرهم لها. وهی بدورها کانت تعلن بکل ثقة واطمئنان عن دعمها ومساندتها لهم  وأحیاناً عن نقدها البنّاء، وکانت تؤمن بأن کل مسؤول في الجمهوریة الإسلامية، التي هي حصیلة الجهود الخالصة لسماحة الإمام والشعب المنجب للشهداء، یجب أن یحظى بدعم وتکریم بیت الإمام.
أن رحیل الحاج السید أحمد المفاجئ، الذی کان یحظى بمحبوبیة خاصة في أوساط العائلة وکان أحد الأرکان الرئیسیة لاجتماع أسرة الإمام، أحرق قلب سیدة الثورة وآلمها کثیراً، وکأن الخالق المتعال قد قدّر أن تتعایش سیدة الثورة مع الصبر، وأن الحزن على فقدان الأحبة کان أحد أشکال الامتحان الإلهي. حتى أنه وبعد استشهاد أول أبنائها، وبعد انتصار الثورة التي کان یفترض أن تکون بدایة مرحلة الاستقرار وانتهاء الکثیر من مخاوفها ومعاناتها، فجعت برحیل عشرة من أبرز المقربین لها، الأب والأم والزوج والابن والأخوات والأخ والصهر.
إن المنزلة الخاصة التي کانت تتمتع بها سیدة الثورة في أوساط الأسرة وبین الأبناء والتي مکّنتها من اتخاذ قرارها بیدها إلى أواخر عمرها الشریف حیث کان واضحاً تماماً أن إدارة المنزل واستقبال الضیوف ولقاء الأقارب کان بیدها وحدها وکان الآخرون مطیعین وتابعین لقرارها وکانوا ینسقون جمیع شؤون حیاتهم معها، على عکس التقلید السائد حیث یعیش الآباء والأمهات بعد تقدمهم بالسن تحت إشراف ورعایة أبنائهم وأسرهم.
کما أن فترة مرضها التي استغرقت أکثر من سبعة أشهر، شکّلت هي الأخرى مرحلة من مراحل صبرها حیث کانت طریحة الفراش تتجرع آلام ومعاناة أمراض عدیدة. وأخیراً وفي الأول من فروردین عام 1388 شمسي (آذار 2009) رحلت عن هذه الدنیا الفانیة، ودفن جثمانها إلى جوار مرقد الإمام الطاهر. لتقترن روحها الطاهرة  مع الإمام الراحل.


المصدر: موقع الإمام الخميني(قده).

التعليقات (0)

اترك تعليق