مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حول امبراطورية الشرق

حول امبراطورية الشرق

حول امبراطورية الشرق:
 
في الصباح، وبعد  إقامة صلاة الفجر، ذهبنا إلى القاعة لتناول وجبة الفطور فجلسنا على موائد كانوا قد أعدّوها حسب الطريقة والعرف الخاص بهم، ولكننا استطعنا أن نتناول البيض المسلوق فقط، ولم يأكل السيد (جوادي آملي) حتى البيض أيضاً.
بعد تناول الفطور، حملنا معنا حقائبنا وأغراضنا الشخصية وكل ما عندنا، لأنه كان من المقرر بعد إبلاغ الرسالة، أن نذهب مباشرة إلى المطار ونعود إلى إيران، لأنه لم يكن من ضمن البرنامج زيارة المناطق الممتعة والمناظر الجميلة في (موسكو) وبقية مدن (الاتحاد السوفياتي)، ولهذا سأل الأخوة في طهران الإمام أن نبقى ضيوفاً على السفارة في موسكو يوماً أو يومين فأجابهم الإمام: "في أي وقت أحبوا أن يذهبوا للسياحة فلا بأس إلا أن كونهم رسلاً لي هو فقط أن يسلموا الرسالة ويعودوا". ولهذا، كان وقتنا بلحاظ تأكيد الإمام في الأداء السريع للمهمة محدوداً جداً.
عندما تحركنا باتجاه قصر (الكرملين)، رافقنا عددٌ من الدبلوماسيين، لم يفتشونا في قصر(الكرملين)، فارتحت قليلاً من قضية تفتيش حقيبتي الكبيرة التي تحتوي على منشفة وفرشة أسنان وبعض الحاجيات الخاصة. نعم، كان هناك تفتيشاً سرياً وغير ظاهر من خلال الأجهزة الإلكترونية المنتشرة على المعابر والأبواب.
لقد بذل القائمون بأعمال السفارة والدبلوماسيون الإيرانيون جهداً كبيراً، ولاقوا معاناة في تسهيل هذا اللقاء، إلا أن بعض النقاط ظلّت بعيدة عن أذهانهم فلم يذكّروننا بها، ولعلّ السبب يعود إلى أنهم لم يواجهوا وفداً بهذا المستوى لحدّ الآن قادم من (إيران)، ففوجئوا بذلك، فقد تناسوا أن يعطوننا معلومات حول كيفية اللقاء مع (غورباتشوف) ونوع الزيارة، وحول من يدخل أولاً؟ وأين يجلس فلان؟ ومن الذي يتحدث بداية؟ و.....ولا أنسى أيضاً أنني سمعت أحد الدبلوماسيين يتكلم في الممرّ ونحن نسير باتجاه القاعة مع السيّد (لاريجاني): أن كيف يضع الحقيبة الدبلوماسية لديه على الطاولة، وبأي يد يقوم بفتحها، وأيّ الأوراق يبرزها، و... فضحكت لذلك، لأن مثله كما يقال كمن (يأخذ الكمون إلى كرمان)، فالسيد (لاريجاني) دبلوماسي وسياسي ماهر، من أهل الفن والخبرة، يعرف كل هذه الأمور، أصولها وفروعها، فأخذ السيد لاريجاني يصغي له ولا يرد.
مُنع دخول الدبلوماسيين إلى قصر (الكرملين). يوجد في داخل القصر بناية خاصة بــ(غورباتشوف)، فبعد أن عبرنا من أحد الأبواب، واجتزنا أحد الممرات والمنحنيات، صعدنا على ثلاث مدرجات، ووصلنا إلى غرفة رئيس الإتحاد السوفيتي، وقد كنت إلى هذه اللحظة قلقة من إمكان تفتيش حقيبتي، لكن والحمدلله لم أقع هنا أيضاً في مصيدة التفتيش.
أثناء الدخول إلى غرفة الزيارات الرسمية (لغورباتشوف)، منعوا سفير بلدنا من الدخول، وقالوا: "عندنا أمرٌ باستقبال السفراء الثلاثة لآية الله (الخميني) فقط".
تصل مساحة غرفة الاستقبال (لغورباتشوف) ما يُقارب عشرين متراً مربعاً، تتوسطها طاولة تتسع لإثني عشر شخصاً، لكن لا يوجد فيها سوى ستة كراسي، وفي هذا دلالة إلى أننا نحن الثلاثة سنجلس في جهة بينما في الجهة المقابلة سيجلس (غورباتشوف) ومستشاره والمترجم، أما الستائر المعلقة على الشبابيك فقد كانت بسيطة جداً، وقد فرش بساطاً خال من النقوش والرسوم، قد مُدّ من جهة الطاولة إلى جهة الباب.
حضر عددُ محدودٌ من المصورين والمراسلين في الغرفة، جلسنا على الكراسي المعدّة لنا مسبقاً، مع المستشار الذي تعرفنا عليه في المطار أثناء مراسم الاستقبال.
عندما جلسنا، التقط الإعلاميون لنا مجموعة من الصور.
عندما دخولنا صافح (غورباتشوف) كل واحد منا، حتى اقترب منّي، فمدّ يده ليصافحني، لكنني سحبت يدي تحت العباءة بسرعة، لم يستسغ ذلك، (كان هذا التصرف في الأعراف الدبلوماسية يعد نوع من الإهانة والتحقير)، تبسّم (غورباتشوف) وقال جملة قصيرة ردّاً على هذا الفعل لم أفهمها، لكن ملامح وجهه لم تبدِ نوعاً من الرّضا على هذا التصرّف.
استطاع سفير بلدنا وبجهود مكثفة أن يدخل إلى الغرفة، وبما أن عدد الكراسي كان مُعدّاً لستة أشخاص فقط، بقي واقفاً لحظات حتى أتوا له بكرسي ليجلس عليه.
وبعد الترحيب جاء دور قراءة الرسالة.
قرأ سماحة الشيخ (جوادي آملي) الرسالة، وترجمها السيّد (لاريجاني) إلى الإنجيلزية. كان هناك مترجماً آخر هو أيضاً ترجمها إلى اللغة الروسية. كان (غورباتشوف) يعرف اللغة الأنجليزية، وكان بإمكانه الاكتفاء بها، ولكن بما أنه كان يريد أن يستوعب كافة النقاط المذكورة في الرسالة، فقد كان بحاجة إلى الترجمة الروسيّة.
عندما قُرِئت الرسالة، وبدأ في ترجمتها، لم يكن لي عمل خاص، ولهذا كنت أدقق وبفطنة -مستجمعة قواي- النظر إلى وجه (غورباتشوف)، وأتابع كل حالاته وتصرفاته، كان وجهه يتغير في بعض مقاطع الرسالة، وعندما كان يسند ظهره إلى الكرسي، كان يدوّن بعض النقاط، وقد خطّ بقلمه حول إحداها.
بعد انتهاء الترجمة، فكّر قليلاً، ثم قال: "إن لي كلام وأسئلة حول بعض مقاطع هذه الرسالة"، فقال آية الله (جوادي آملي): "تفضلوا رجاءً، نحن هنا يمكن أن نوضح أكثر". قال (غورباتشوف): "في هذا المقطع"، قال آية الله (الخميني): "نحن نعتقد أننا شركاء في تقرير مصير المسلمين في العالم" وهذا يعني التدخل في الشأن الداخلي للبلدان الأخرى، أعتقد أنّ آية الله (الخميني) قد أخطأ هما، فتبسم السيّد (جوادي آملي) بطمأنينة وهدوء خاص ذي معنى وكأنه يريد أن يُفهِم (غورباتشوف) أنك لم تفهم كلام الإمام، فقال: "المسألة بالنحو الذي فهمتموه هي ليست نظر ومقصود الإمام، فتراب روسيا لسبع طبقات أعلى وسبع طبقات أسفل هي لكم، ولا شغل لأحد بذلك، قصد الإمام: أن الإنسان المسلم أينما كان في العالم، في ضيق وعذاب، أو أنه يواجه مشكلة، فنحن وبحكم وظيفتنا الدينية وكوننا مسلمين نرى أنّ من حقه علينا أن ندافع عنه، فليس المياه والأرض مهمة لنا، بل إن هوية الإنسان المسلم هي المسألة المطروحة للنقاش".
كان مستشار (غورباتشوف) يُحدّق النظر، ولم يبدِ أيّ حركة، وبقي مبهوتاً لخطاب الإمام (الخميني)، وكلام سماحة الشيخ (جوادي آملي)، وهنا نطق بالكلام فقال: "قال آية الله (الخميني) ليذهب خبراء وعلماء الاتحاد السوفيتي إلى (قم)، ليتعلموا، ليكونوا على بصيرة، وبهذا أهانونا وأهانوا شعبنا وأهانوا السيّد (غورباتشوف)؟"، فقال سماحة الشيخ (جوادي آملي): "كلا، لقد شجعكم الإمام، هذا ما يعرفه الإمام عنكم، فهو لم يقل إن علمائكم وفلاسفتكم لا يفهمون، بل دعا إلى الحوار والمناظرة، كان مقصوده هو: أننا يمكننا أن نتعاون في المجالات العلمية والفلسفية".
يظهر أن (غورباتشوف) ومستشاره –ويظهر أنه من الدرجة الثانية في الحزب- قد اقتنعا بإجابة سماحة الشيخ (جوادي آملي)، وقبل أن نذهب، قال سماحة السيخ (جوادي آملي): "هل سننتظر جواب الرسالة منكم" فقال السيّد (غورباتشوف): "علينا أن نتشاور في ذلك، وسأُرسل الجواب فيما بعد". حانت لحظة الوداع، فسمحوا لنا بالتقاط بعض الصور، وأخذ السيد (غورباتشوف) يصافحنا واحداً واحداً كما في أول اللقاء، وعندما وصل إليّ، وبينما كان الشيخ (جوادي آملي) والآخرون يحدقّون النظر إليّ، ولم تُتح الفرصة لأسأل الشيخ (جوادي آملي) ماذا أفعل؟ رأيت إن تكدير لحظات السيّد (غورباتشوف) مرّة أخرى عمل غير لائق، ولهذا عندما مدّ يده ليصافحني، غطيت كفي بجانب من عباءتي وصافحته، كان هذا التصرف وهذا النوع من المصافحة لــ(غورباتشوف) الذي قاد إمبراطورية الشرق، أمراً صعباً جداً. حاول أن لا يظهر ذلك، وقال: "إنني لم أمدّ يدي للمصافحة، بل مددت يدي نحو (أم الثورة) هذه لنقول لها: إننا جيران طيّبون، نحن نمد أيدينا العُزّل عن السلاح إليكم، وأنتم أيضاً شجعوا رجالكم أن يمدوا لنا أيديهم العُزّل عن السلاح" فقال سماحة الشيخ (جوادي آملي) بهدوء: "نحن أيضاً محبو السلام، ونطالب بالهدوء والاستقرار"، ثم خرجنا من الغرفة.
لم يكن (غورباتشوف) قد أتى لاستقبالنا لكن عند الوداع رافقنا حتى السلَّم.
 
 
 
 
 
المصدر: 23عاماً.. وسط الطوفان (مذكرات المناضلة الإيرنية الحاجة مرضية (دباغ)، إعداد وتقديم: السيد محسن الكاظمي، ترجمة ونشر: دار الولاية للثقافة والإعلام، الطبعة الأولى، 2015م

التعليقات (0)

اترك تعليق