مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الباب لم يقفل(3)

الباب لم يقفل(3)

21 تموز 2006 ألمانيا
... كان دوام عمل زوجها مسائياً. وحيدةً جلست تحت جنح الليل على منضدة خلف النافذة المطلّة على الشارع.
أسندت رأسها بيدها كزنبقة ذابلة تتكىء على أوراقها، تنظر ما حولها نظرات سجين يائس يريد خرق جدران حبسه.
مرّت الساعات مرور أشباح الظلمة وهي مستأمنة بلوعتها، مستأنسة بدموعها، حتى إذا ما اشتدت على قلبها وطأة عواطفها، مسّدت دموعُها وجنتيها وبملامستها لشفتيها أخرجت آهةً مزّقت ضلوعها.
آآآآه بعلبك!!!....
لا. لن تموتي، قولي لهم إنّ الزهور تمضي لكن البذور تبقى، فافعلوا ما تشاؤون.
وكانت الغفوة أقوى، نبّهها منها صوت القطار الآتي من بعيد فانتفضت باكيةً.
أيّها القطار!!!.... خذني معك........
ضاق قلبها، تقرّحت أجفانها من حرارة الدموع، لم تجد غير المناجاة.
آه يا ربّ.........!!
إلهي كيف السبيل إليها؟!....
وبدأت تبثّ شكواها إليه علّه يرقّ لحزنها وألمها فيأخذها إليهم، تستشهد معهم ولا تموت ضحية الحزن والبعد.
خذني يا قطار، خذني إليهم، أتوسل إليك.
.... خيَّم الليل الناظر بعيون السماء، متوجاً بالقمر، يفتح الأبصار أمام اللانهاية، فيه تأنس الأرواح، صمته شفوق يغمض بأصابعه أجفان المظلومين الصابرين، يحمل قلوبهم إلى عالم الآمال والأحلام.
لكنّه تبدّل تلك الليلة، غطّت عيونه غشاوةً سوداء، جفا أجفان الصابرين، الخائفين، لكن أرواحهم لجأت إلى أنيس الذاكرين.
إلهي هَبْ لي كمال الإنقطاع إليك.
عبارة لطالما ردداها على مسامع أولادهم.
إجتمعت العائلة في غرفة صغيرة وسط المنزل، لا تزيد مساحتها على الثلاثة أمتار مربعة، لا هاتف، لا كهرباء، بلغ عددهم إثني عشر فرداً، بينهم رضيع لم يبلغ الثلاثة أشهر وطفلان دون الثامنة.
إفترش الجميع الأرض، اتخذت الحاجة الجهة المقابلة للشرفة، الجميع يدعون ويقرأون القرآن، أما سارة فقد حضنت رضيعها تنظر إليه بعين دامعة، ما ذنبك يا ولدي؟!
لاذ الجميع في تلك الغرفة إلا الحاج، فبعد إصرار الجميع دخل إلى المنزل وجلس خلف الباب المطلّ للشرفة.
كانت ليلة جمعة قضوها بالقراءة والذكر إلى أن بزغ الفجر، أدُّوا صلاة الفجر، وقرأوا دعاء الجوشن الصغير كما أوصى السيد ودعاء الندبة.
خرجوا إلى الشرفة الشرقية لزيارة الإمام الحسين عليه السلام وقفوا خلف الحاج. سمعوا منادياً: "صبّحك الله بألف خير، لا تنسونا من الدعاء"، إنه الحاج خليل جارهم.
توسّطت الشمس كبد السماء، كان هدوء ذلك اليوم موحشاً ينذر بعاصفة جديدة.
خرج الشبان إلى البيت. لا تنسوا الياسمينة والورود، اسقوها.قالت الحاجة.
وإذا طالت الهدنة، إذهب يا علي تفقّد أخواتك إذا كنّ يحتجن شيئاً.
عاد الشبان، ومع تلك العودة كانت العاصفة، وكان وجودهم مصدر اطمئنان للجميع، فكانت كلماتهم تبث الثبات في النفوس وتطرد الخوف: "إذا سمعتم صوت الطيران لا تخافوا فالقصف بعيد، فلا حول ولا قوة إلا بالله".
لم يوقف صراخ النساء إلا أصوات الإنفجارات التي كانت تهزّ الأرض تحتهم. وصل الشبان بإحصاء عدد الإنفجارات إلى الرقم ستة ولم تمضِ العشرون دقيقة منذ أول انفجار، بعد ذلك الرقم اختفى صوت الطيران ليزلزل الحيّ صاروخٌ غطّى المكان بالدخان، والمخلّفات.
هدأت الأصوات، وبدأ بعضهم يتفقّد بعضاً والغبار يحجب رؤياهم.
في تلك الأثناء رنّ جرس الهاتف في بهو البيت، الحاج من الخارج: "حاجة ساجدة أجيبي".
عند ذاك وضعت الحاجة يدها على كتف ولدها محمد حسن، حمدت الله "والدك بخير يا أمي!!" وخرجت من الغرفة.
رفعت السماعة.
كانت تصرخ: أمي! ماذا أصابكم أخبروني.
- لا شيء، يا فاطمة.
- كيف تقولين لا شيء والحيّ مغطّى بالدخان والغبار.
- كان القصف قريباً جداً منّا، لكن لم نصب بأي مكروه بحمد الله.
- أمي أرجوك. إحملوا متاعكم وتعالوا، فالقصف على حيّنا متباعد حتى الآن.
- لا يا فاطمة، لقد استقرينا هنا.
- أقبّل يديك لا تدعي الشبان يخرجون كعادتهم.
توالت الاتصالات، كلّها من أصحاب وأقرباء من خارج بعلبك، أو خرجوا بعد القصف، يسألونهم الخروج.
كان آخر الاتصالات من ألمانيا. حوراء: السلام عليكم، ماما أخبريني ماذا أصابكم؟
- لا تشغلي بالك يا حوراء جميعنا بخير، أعصابنا قوية، فالسيد كلما وجّه إلينا رسالة متلفزة يزرع في قلوبنا الطمأنينة والقوة. ادعي له بطول العمر والسلامة. أخبريني يا حوارء لماذا تأخرت ولادتك؟ ألم تزوري الطبيبة!؟
- نعم يا أمي، قالت لي إنّ الضغط النفسي له أكبر تأثير على ذلك، لكن حتى العاشر من شهر آب إذا لم تحصل أي بوادر فإنها ستضطر لإجراء عملية قيصرية، أسألك الدعاء يا أمي. وأخبرك بأنني الآن ممنوعة من مشاهدة التلفاز، ومعرفة أيّ خبر والخروج إلى المسجد.
- أوصيك يا حوراء، كوني قوية، كوني صخرةً صمّاء أمام كلّ الأخبار، كما أوصيك بأن لا تنسي السيد والمقاومين أثناء ولادتك. فتلك لحظات تكونين فيها بين يدي الرحمان الرحيم ودعاؤك مستجاب.
ساد الأجواء هدوء، اخترقته في بعض الأحيان غارات على السيارات المتنقلة على الطريق العام، حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر تموز، إذ كان ذلك اليوم يوم إستهلاكية الهدى كما أسْمَوه.
قرروا الخروج ثانيةً من الحيّ، لكن إلى أين...؟ والحاج يرفض الخروج. كانت الوجهة هذه المرة مجمّع مبرة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في حي الشراونة حيث يعمل الحاج محسن.
وافق لكن كانت الموافقة قاسية مشروطة. اللجوء لن يكون إلى مبنى مبرة الأيتام ولا إلى المدرسة المهنية التابعة للمبرّة، كي لا يتسببوا لهم بأذى من العدو، ولا يستعملوا أثاث المبرة. حصر الخيار في البقاء فقط في مستودع دار العجزة في المجمّع، مع عدم إنارة المكان وعدم استعمال أي شيء خاص بالمؤسسة.
قبلوا لكن على مضض، فقط لأنّهم يريدون الخروج من الحيّ المنكوب.
عندها أشارت الحاجة ساجدة على ولدها علي بأن يترك زوجته ورضيعها عند أخته فاطمة، خوفاً على صحة الرضيع من الرطوبة هناك.
- إذاً جهّزوا أنفسكم ريثما أعود.
وصلوا، نزلوا مسرعين تركها وقفل راجعاً.
كان البقاء في حيّ "عمِشْكِة" أقل خطراً من حيّ الشيخ حبيب برغم استهداف بعض الأماكن.
جلست فاطمة مع أولادها، سارة الأخت مع أولادها، وسارة زوجة الأخ مع رضيعها، مع بعض مَنْ صمد من أهل زوج فاطمة.
بينما كانوا يتناولون أطراف الحديث، صراخ وولولة عمّ المنزل، أم صادق أم صادق، أين أنت؟!
- إنه صوت أم عبدو جارتك، ترى ماذا جرى لها؟!
- يا أم صادق إحملي أولادك وثيابكم وارحلوا بسرعة، سيقصف بيتي.
- بيتك!؟ ولماذا يقصف؟.
- قال لنا أحدهم بأنّ إسرائيل تقصف المراكز الجديدة والقديمة، وبيتي كان مركزاً قديماً.
دبّ الذعر في المنزل، هاتفت سارة زوجها ليعود ويأخذها، وبدأت تبكي وتقول: لو كنت أعلم لما قبلت المجيء.
عندها قالت لها فاطمة: ومن قال لك بأنّ حيّ الشراونة آمن.
وصلوا إلى مجمّع مبرة الإمام المهدي  عجل الله تعالى فرجه الشريف، المجمّع في أول حيّ الشراونة، إذا اتّجهت غرباً تصل إلى محطة توليد الكهرباء تليها إيعات، شمالاً محلّة تلّ الأبيض، وصولاً إلى مستشفى دار الحكمة تليها بلدة الجمّالية ومقنة، جنوباً بعلبك وشرقاً جُرُود بعلبك ــ نحلة.
مدخل المجمّع، بوابة حديدية كبيرة توصل إلى مدخل مبنى المبرة الأول، وإلى جهة اليمين مبنى المدرسة المهنية، وإذا اتجهت يساراً تصل إلى المسجد التابع للمبرة يليه دار ضيافة أصحاب العمر المديد.
دخل الحاج محسن إلى الدار، فتح خزانة صغيرة إلى جانب الحائط، فيها مفاتيح معلّقة، أمسك مفتاحاً كُتِبَ على تعليقته مستودع، وأشار إليهم بالتوجّه إلى أسفل الدرج.
نزلوا، لكن عندما وصلوا صُدِمُوا لما رَأَوْه، خزان المازوت في زاوية، أدوات خاصة بالعجزة، ومساحيق تنظيف، وهنا لا حاجة لوصف رائحة المكان.



--يتبع--

التعليقات (0)

اترك تعليق