مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

من حياة الشهيدة أم ياسر الموسوي.. المهمة الجليلة

من حياة الشهيدة أم ياسر الموسوي.. المهمة الجليلة (الشهيدة أم ياسر وتبليغ الرسالة)

يضيق الوقت لكثرة المطلوب منه، وتعيد أم ياسر تنظيمه ليتسع، وما إن استقرت في وضع المتابعة للدروس، حتى بدأ التفكير في ذلك الذي أرادته لنفسها وأقرته عملاً ومهمة جليلة لن تتخلى عنها، أو تقصّر فيها، وهي الاهتمام بالناس، الاهتمام بعيال الله وأقرب الطرق إليه، تحرّضها كلمات السيّد وذكريات بنت الهدى، لتسارع دون انتظار، في مجتمع جديد لا تعرف عنه إلا القليل. عيال الله أينما كانوا هم عياله وأحباؤه، ليس عليها سوى أن تبدأ، والذي تحتاجه لتلك المهمة الجليلة موجود لديها، إنه حبها الصادق لهم، ابتسامتها، طيبتها، والخلق الكريم، ما تعرفه، جمعت كل ذلك وانطلقت.
منذ الأيام الأولى وهي تنفتح على المحيط، وتتفتح الأبواب لها، وما عندها هو منحة من الله، ما كانت تقوله بنت الهدى، وما يقوله معارفها ويردده السيّد عن قدرتها على التأثير. هم يرونه ميزة فيها، وهي تراه أمراً طبيعياً لا تتعمده، إن كان كذلك فهي سعيدة به، تعينها تلك القدرة التي يتحدثون عنها، لتكون وسيلتها لخدمة عيال الله في تبليغهم رسالة فيها الخير كله، مستغلّه ما عندها من علوم ومعرفة، ومن هذا الكم الكبير من الحب والمبالاة، فالناس هنا أحوج ما يكون، وترى النقص هائلاً وعميماً، في معرفة الإسلام، أخلاقه وعلومه الدينية، نقص حتى في إدارة المتوافر من الإمكانات، في التنظيم وفي استثمار الوقت، وإدارة الذات أيضاً. هي لا تلوم من هم في مثل هذا،  ولا تجدهم مقصرين، وتجد لهم الأعذار، وتراهم قاصرين تضافرت عليهم الظروف، ولكنها لن تغفر لنفسها تركهم، ستلوم نفسها إن لم تمنحهم كل ما تستطيع وإن شقّ عليها ذلك.
هكذا يفعل الرجال، من السيّد عباس إلى طلابه، فهم يقومون بما عليهم من إرشاد ورعاية ومتابعة، والنساء أولى وأكثر حاجة، المرأة في رأيها أهم وأولى، فهي المربية، هي الأم، صانعة الجيل، والمؤثرة الأولى، لكونها في أهم المواقع، فالمنزل هو الموقع الأوّل والنواة، هذا ما كانت تردده أم ياسر على نفسها وعلى سواها، وتلك قناعتها التي تعمل عليها، وما عملها في السنوات الأخيرة على التنوع في الثقافة إلا من أجل ذلك.
السيّد وطلابه يحاضرون في الجوامع والحسينيات، يستغلون كل مناسبة، هي ورفيقتها ستقومان بذلك فلديهما من التحصيل العلمي ما يكفي، ومن علوم ومعارف أخرى يحتاجها الناس.
وانتظم الأمر، بمساعدة السيّد عباس وبتشجيعٍ منه، كان يوزع طلابه على القرى، في مواعيد يقوم بإعدادها مسبقاً، ومعهم كانت أم ياسر ورفيقتها.
أوصلتهم السيارة المستأجرة، أم زهراء كان موعدها في "حارة الفيكاني" وأم ياسر إلى مقام في قرية "علي النهري".
لديها الكثير من الكلام لتقوله أم ياسر، لديها الكثير من الحب لتعطيه، تريد لهن أفضل ما عندها، تريد أن يرين ما تراه، في تلك العلاقة مع الله، في ذلك التواصل المؤثر، الذي تطيب معه الأوقات، وتأنس به الأرواح، في التوجه الكلي ومتعة العبادة، في الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، في الأحكام التي فيها خير الدنيا مضافاً إلى خير الآخرة، في العقيدة، في سيرة الرسول وأهل بيته، في كل ذاك الحب والعظمة الباهرة في سيرة الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها.
تريد أن تحدثهن كم تستطيع المرأة أن تفعل، وهي المتربعة على عرش أهم الأماكن وأساس المجتمعات، حيث الصلاح منها ينتشر كما ينتشر الطيب، تريد لهن أن يعرفن الإسلام كما تعرفه هي، تريد أن تحدثهن في الأخلاق، في السياسة حتى الإدارة والاجتماع. قرأت كثيراً، وتعلمت كثيراً، سمعت واختبرت، وهي الآن تتدفق حماساً وحباً لتكون مبلغه. تريد بكل إخلاص أن تكون مفيدة، قادرة على أن تترك أثراً يساهم في التغيير الجذري العميق، يُزهق كل هذا الذي تراه من باطل هنا وهناك، أن يقترب الناس أكثر باتجاه الحق، أن يتركوا الكثير من هذا السوء الذي تزخر به المجتمعات، وتلك العادات الغريبة عن الدين، تريد أن تفتح نافذة، ثقباً في هذا الجدار.
حملت كل ذلك أم ياسر وخرجت به إلى الناس، كان الحضور قليلاً، عشرون امرأة تقريباً، أغلبهن جئن حباً للاستطلاع، لمشاهدة المرأة الشيخة، المرأة التي خرجت عن المألوف، وبعضهن جئن ضاحكات، وبهدف السخرية وإضاعة الوقت، لكن أم ياسر جاءت مشرّعة القلب، تحدثت بما لديها، وبعد الكلمات الأولى، صمت الحضور وأنصت، وقالت أم ياسر ما تريد قوله في تلك القرية، بكل إخلاصها والود قالت ما تريد، خرجت راضية سعيدة وإن قل الحضور.
وجاءت السيارة المستأجرة لتأخذهم إلى النبي شيت، إلى منزل ذويها ذهب الجميع، وتلك كانت خاتمة العمل، بعد إنجاز مهام التبليغ، يقضون ساعة من نهار في ذلك الترحاب والضيافة الكريمة، ويلح الأهل على استضافة هذا الجمع الكريم من المبلغين ومعهم السيّد عباس. سعيدة بما قدمت هي وأم زهراء، كل في قرية، يتحدثون عن تلك التجربة وما اعتراها. كانوا جميعاً سعداء رغم المشاق وقلة الحضور وعلى رأسهم السيّد عباس الذي شجع وأكثر من الثناء الجميل.
شعرت أم ياسر، إنها أكثرهم سعادة وأنساً، مشقة في عين الله وخاتمة في منزل حبيب، عند خير أهل وأجمل ناس، أهل أحسنوا استقبال الوافدين كما أحسنوا الأبوة والأخوة والأمومة من قبل. كما كانوا لها كانوا للضيوف. أما السيّد عباس فهو الأقرب لهم والأحب إليهم بين كل خلق الله، حتى أقرب لهم من فلذة أكبادهم، وقد خبر هذا الحب حتى اعتاد، منذ القديم كان وما يزال ابن كبير لهم، ينافسون أبواه في قلبه مذ كان صغيراً، يظهر ذلك في حركته وكلامه، ويترك ذلك أثراً جميلاً في وجدان أم ياسر.
تحدثت هي ورفيقها عن التجربة الأولى، تحاولان الاستفادة منها قدر المستطاع، واستعدتا للخطوة التالية، كانت أم ياسر أكثر حماساً وتوقداً من المرة السابقة، والحضور أكثر تفاعلاً. وأكثر عدداً، والذي أسعدها أنّ أغلب النساء اللواتي كنّ في المرة السابقة، حضرن أيضاً، تكبدن عناء المجيء مرة أخرى، ليكن حاضرات معها للمرة الثانية، وبصحبتهن عدد جديد ووجوه جديدة، عدد أكبر بكثير من المرة السابقة، كان هذا مؤشراً جميلاً، غاية في اللطف، تلك كانت شهادة عزيزة وحافزاً إضافيّاً بالنسبة لأم ياسر.
نظرت إلى الوجوه، لكم هي أليفة وحميمة هذه الوجوه، ببسم الله والصلاة على محمد وآل محمد ابتسمت، وتدفقت حباً وصدقاً، تدفقت وكأن قلبها هو الذي يتحدث. حدثتهن عن عظمة الإسلام، عن مكانهن ودورهن، وعن ربهن الرؤوف الذي يرى ويسمع، عن حبه لهن، وعن أثر الاقتراب منه، وعن.. وعن.. كان حباً يتدفق صدقاً، وكأنها لم تكن كلمات، بل فعل حياة جعل الحضور ينصت، والنساء كأن بهن ذهول من هذا الجديد الذي يسمعنه للمرة الأولى، أصغين وتأثرن حتى ترقرق الدمع في بعض العيون.
وتحلقن حولها حين أنهت حديثها، يسألنها ولديهن الكثير، لكم هي تحب هذا الجمع، كانت لهن بكلها حتى نسيت الوقت، نظرت إلى ساعتها:
- أف.. تأخرت...
- اعتذرت منهن، ومن الذين ينتظرونها في سيارة الأجرة. وأقرت أنّ عليها منحهن المزيد من الوقت.
وتوالت الأيام وازداد عدد النسوة، وتفاعل الحضور، وبعد المحاضرة صارت تجتمع النسوة بين سؤال وإعراب عن محبة، وبعضهن يسألن عن إمكانية اللقاء في زمن أقرب، يردن للقاء أن يصبح أكثر من مرة في الأسبوع الواحد، وأم ياسر بينهن تزداد تفاعلاً، وتزداد مودة.
وتزدحم المجالس، في كل قرية تأتي النساء من القرى المجاورة، ويطالبنها البعيدات بزيارة، تختار النساء أوسع البيوت لاستقبال أم ياسر، إذ لم تكن النوادي الحسينية موجودة في كل القرى، والعدد يتضاعف، كل هذا جعل أم ياسر تزداد تأثراً، فهؤلاء النسوة عطشات، لم يكنّ مقصرات، إنما هو قصور في مجتمعات قلّ فيها التبليغ والتعليم، فالتوجيه والعلم نادر هنا، وهو على ندرته كان مخصصاً للرجال، وحرمت منا أبسط النساء، بقين بعيدات كل البعد عنه، فتمسكن بالقشور وتوافه الأمور، في وقت قلّ استثمار فراغه، جهل مفروض في واقع لم يكن فيه المقصرات.

المصدر: قصة الوصول: مشاهد من حياة امرأة مثال (سلسلة المرأة المقاومة) (تروي قصة وحياة الشهيدة أم ياسر زوجة الشهيد السيد عباس الموسوي): عبد القدوس الأمين، إعداد مركز دراسات المرأة والأسرة والطفل في جمعيّة الرابطة اللبنانيّة الثقافيّة، ط1، دار الولاء، بيروت، لبنان.  

التعليقات (0)

اترك تعليق