نذر امرأة عمران عليها السلام
«إِذْ قَالَتِ امرأتُ عِمْرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَّبلْ مِنِّي إنَّكَ أَنَتَ السَّميعُ العَليمُ»(1)، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب.
والتحرير هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقية، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر.
والتقبل هو القبول عن رغبة ورضا كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.
وفي قوله: «قَالَتِ امرأتُ عِمْرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي»، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأن حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حياً عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى: «وَمَا كُنتَ لَدَيْهِم إِذْ يُلْقُونَ أَقلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ»(2) على ما سيجيء من البيان.
ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريراً عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه، أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير، وقد قيل إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام، وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.
وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجى ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرراً من غير أن تقول مثلا إن كان ذكراً ونحو ذلك.
وليس تذكير قوله: «محرراً»، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو أنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزنا وتحسراً لما وضعتها رب إني وضعتها أنثى، ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: «والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى»(3).
وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن، والظن لا يغنى من الحق شيئاً، وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله، وقد قال تعالى: «اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدادُ»(4)، وقال تعالى: «عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزَّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ»(5)، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، وقال تعالى: «عَالمُ الغَيْبِ فَلَا يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلَّا منِ ارتَضَى»(6)، فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، ولذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: «وَإنِّي أُعيذُهَا بِكَ وَذُريَتَهَا مِنَ الشَيْطانِ الرجيمِ»(7) الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.
ومفعول قولها فتقبل مني، وإن كان محذوفاً محتملا لأن يكون هو.
نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى: «فَتَقَبَّلَها رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ»(8)، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.
قوله تعالى: «فَلَمَا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبِ إنِّي وَضَعْتُها أُنْثَى»(9)، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه أنثى قالت: رب إني وضعتها أنثى، وهو خبر أريد به التحسر والتحزن دون الإخبار وهو ظاهر.
قوله تعالى: «وَاللهُ أَعلمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى»، جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، ولا أن الثانية مقولة لها والأولى مقولة لله.
أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إني وضعتها أنثى، مسوقا لإظهار التحسر كان ظاهر قوله: «وَاللهُ أَعلمُ بِمَا وَضَعَتْ»، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق، ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذه الأنثى التي وهبناها لها، ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبياً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة الله وتلد ولدا بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى (عليهما السلام).
ومن هنا يظهر أن قوله: «وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى»، مقول له تعالى لا لامرأة عمران، ولو كان مقولاً لها لكان حق الكلام أن يقال وليس الأنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثم رزق ما هو أخس منه وأردأ إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة، وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والأنثى معاً أو في الأنثى فقط للعهد.
وقد أخذ أكثر المفسرين قوله: «وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى»، تتمة قول امرأة عمران، وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع إلى كتبهم.
قوله تعالى: «وَإنِّي سَمَيْتُها مَرْيَم وَإنِّي أُعيذُهَا بِكَ وَذُريَتَهَا مِنَ الشَيْطانِ الرجيمِ»، معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل، ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكراً محرراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة.
فقولها: «وَإنِّي سَمَيْتُها مَرْيَم» بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك، والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: «فَتَقَبَّلَها رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ وَأنْبَتَها نَبَاتاً حَسَناً» الآية.
ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.
والكلام في قولها: وذريتها، من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح التفوّه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، وسمتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.
قوله تعالى: «فَتَقَبَّلَها رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ وَأنْبَتَها نَبَاتاً حَسَناً»، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذى معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى قولنا: فتقبلها ربها تقبلاً فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: « فَتَقَبَّلَها » إلى قوله: «حَسَناً»، الجملتان في قولها: وإني سميتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: «فَتَقَبَّلَها رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ»، قبولاً لقولها وإني سميتها مريم، وقوله: «وَأنْبَتَها نَبَاتاً حَسَناً»، قبولاً وإجابة لقولها: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها، ومعنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه.
والمراد بإنباتها نباتاً حسناً إعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها، وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرية حياة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة(10).
وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير، هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: في ذيل هذه الآية: «وَإذْ قالتِ الملائكةُ يَا مَريَمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وَطَهَركِ»(11) الآية.
فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: «وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى».
الهوامش:
1- سورة آل عمران، الآية:35.
2- سورة آل عمران، الآية: 44.
3- سورة آل عمران، الآية: 36.
4- سورة الرعد، الآية: 8.
5- سورة لقمان، الآية: 34.
6- سورة الجن، الآية: 26-27.
7- سورة آل عمران، الآية: 36.
8- سورة آل عمران، الآية: 37.
9- سورة آل عمران، الآية: 36.
10- قال المظهري في تفسيره "قد صح أن رسول الله (ص) قال لفاطمة حين زوجها علياً اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وكذا قال لعلي حينئذٍ. رواه ابن حبان من حديث أنس ودعاء النبي (ص) أولى بالقبول من دعاء امرأة عمران فأرجو عصمتها وأولادها من الشيطان وعدم مسِّه إياهم –وحصر عدم المس في مريم وابنها الثابت بالحديث على هذا يكون حصراً إضافياً".
11- سورة آل عمران، الآية: 42.
المصدر:الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ط1، دار إحياء التراث العربي، 1427هـ-2006م، ج3، ص149-153.
اترك تعليق