مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حوار مع زوجة شهيد

حوار مع زوجة شهيد

نحمل أقلامنا وأسئلة تتكرر عن الشهداء، ننكز جُرح أحبته ليحدثونا عن أكثر ذكرياتهم ألمًا، نوقظ تلك الصور في خلدهم، ونعود متخمين بالحروف والحكايا، وهم بعدها من يحمل عنهم السؤال. 
الشهيد، يُحكى عن تميزه بعمله الجهادي، الذي لم يعرف عنه الكثيرون إلا بعد استشهاده، وهذا حال معظم الشهداء. هو الذي كان متميّزًا في بيئته لناحية الخُلق والطيبة والإخلاص. ليس وحيدًا هو في هذا الوصف "لأن من ينال مرتبة الشهادة لا بدّ أن يكون متميّزًا قي سلوكه وأخلاقه". كما قالت زوجة الشهيد.
مع زوجة الشهيد، غادة، استقبلنا ابنه علي (12 سنة) وابنته زهراء (10 سنوات). كنت قد عزمت على أن أتحدث معهم جميعًا عن الشهيد، ولكن أن تجلس أمام طفل طفحت ذاكرته بالمربّتين والماسحين على رأسه، والسائلين عن أخبار أبيه الراحل، ليس بالأمر السهل، بل من الصعب أن تلقي سؤالك من دون أن ترصف عاطفته للعابرين. 
"كان عمر علي ثلاث سنوات، وزهراء سنة وثلاثة أشهر، عندما استشهد أبوهم. كان علي يجلس أحيانًا أمام صورة والده، يطالبه بوعده أن يأخذه في نزهة عندما يعود من غيبته. كان الشهيد حنونًا جدًا مع أبنائه، وفي الوقت الذي يخصصه للبيت يكون لنا أبًا مثاليًا، يحاول أن يسدّ فترة غيابه بكل التفاصيل، اجتماعيًا وعمليًا ومع أبنائه.، كان لي أبًا وأمًا وأخًا وصديقًا، وعندما رحل، خسرت كل أحبتي، وبقيت وحدي ومسؤولياتي". 
زوجة المجاهد مجاهدة
- كيف كنتِ وهو يحمل أغراضه ويمضي في غيبته؟
- الرجل في المنزل بالنسبة إلى المرأة هو كل شيء: حبيبها وعماد بيتها والسند الذي يشعرها بالأمن من كل قلق. حتى عندما كانت ترتفع الطائرات في السماء، كنت أشعر بالأمان لأن لي هناك على الحدود من يدفع عني. ففي حرب تموز، مع تهجيرنا عن قرانا، إلا أننا جميعًا كنا ندعو لهؤلاء المجاهدين، لأنهم الذُّخر الذي يدفع عنا المخاطر. وكنت مع قلقي عليه وهو غائب، إلا أنني أشعر بفخر مشاركة زوجي في عملية الدفاع عن أهلنا في هذا الوطن. 
- ألم يخطر ببالك أن تمانعي عمله؟
- زوجة المجاهد لا بد أن تملك الذهنية نفسها والعقيدة نفسها، لكي تتعايش مع طريقة عيشه ومصيره، بأن يكون دومًا على أهبّة الاستعداد للمُضي، وكلّ مرّة يعود فيها كمن عاد من الموت. وأنا أؤمن بأن الموت قدر، أما اختيار الشهيد لنهج الجهاد فهو فوز، و قد ربح بذلك كل شيء، وأورثنا فخرًا لي ولأولادي ولكل من آمن به. أنا فعلا وبصدق مسرورة لأجله، لأنه كان يتمنى ذلك من صميم قلبه، وكان مخلصًا في العمل، ولذا استحق أن ينال الشهادة. وهذا قد يخفف عنا، نحن عائلته، صدمة رحيله، فللشهيد كرامة، لا شك، تبعث الصبر في أهله. كلنا تأذينا من فقدانه، لأننا فقدنا ذاك الإنسان الطيب والصادق والمُحب والسند الفعلي لنا، وكان علينا أن نبدأ من جديد من دونه، وهذا صعب جدًا. 
- ما هو أصعب ما عايشته كزوجة شهيد؟
- كزوجة شهيد ربما أسهل من الأرملة العادية، فمؤسسة الشهيد تعيننا بشكل جدي، وتخفف عنا مسألة الانشغال بالدخل خاصة للأبناء، ولكن عندما يرحل الزوج الحبيب والأب، وهذا يحصل لكل العائلات لا لأهل الشهيد فقط، يحمل الزمن الأحباء بعيدًا، لتتأجج فينا ذكرى الرحيل، لا سيما إن كانوا بمرتبة شهيد، سبق منه ذاك اللطف والمحبة التي تليق بشهيد.
كان عندي ولدان، كبيرهم ثلاث سنوات، وتبين لنا بعد استشهاد والده بأن لديه مشكلة تآكل العظم في الورك. عانيت معه الكثير، وكنت في كل مرّة أذكر كيف كان الوضع ليكون لو كان الشهيد موجودًا معنا، فقد اعتدت أن أتابع طبابة أبنائي برفقته، وكان –رحمه الله- شديد الاهتمام بالأولاد، ويعد أن وجوده في البيت ليحمل عني أعباء الأولاد والحياة. عندما حان موعد دخول علي المدرسة، كنت هناك في اليوم الأول، حيث تعدّ المدرسة احتفال استقبالٍ  للأطفال، وكان هناك الكثير من الآباء، وقطعًا لو الشهيد كان موجودًا، لما تأخّر عن مثل هذه المناسبة، ليرى ولده ويشاركه مشاعر هذا اليوم. 
حتى الحنين لم يكُن مُتاحًا لي بشكل كبير، فولدي كان يفتقد والده وكان لا بد لي أن أكون الأم والأب. سبحان الله، كأن الشهيد كان يعينني على هذا من عليائه. ويقيني بأنه نال أفضل ما نتمناه نحن لأنفسنا. كان يخفف عني لوعة الفراق، يجعل الإرث الطيب لأولادي سندًا للمستقبل، ونهجاً يرسم مسلكهم الصالح معي. 
ما بعد الشهيد!
- عُدتِ وتزوجت مرة أخرى، أكان هذا قراركِ؟
- نعم، قراري. إن الله الذي نوكله كلّ حياتنا أخبرُ بصالحنا، لذا جعل الحلال حلالًا والحرام حرامًا، وأنا كنت في سن الرابعة والعشرين من عمري، وأمامي مسؤولية كبيرة في تربية أبنائي، ولا بد أن أقدّم لهم عاطفة الأم والأب، ولكي أنجح في دوري هذا، كان لا بد أن أستشعر إنسانيتي كاملة، أن أجد معينًا لي في حياتي، وهذا ما جعله الله حلالًا، بل واجبًا وسُنّة. [...]
فضلًا على كوني امرأة كنت أعتمد بكل شيء على زوجي، كل هذا جعل الحياة صعبة علي والمسؤوليات عظيمة. كان لا بد من وجود رجل أب في حياة ابني. في البداية كنت أرفض أي حديث عن الزواج، لا لأنه حرام، بل لأنني بالفعل كنت أرى إلى أنني نلت نصيبي من الحياة، ولا بد من التفرّغ لتربية أبنائي، إلا أن الصعوبات والوحدة التي كانت تحاصرنا، أنا وولديّ، جعلتني أفكّر في العرض الذي تقدّم به زوجي الحالي. عوامل الموافقة كانت أكبر من الموانع، فللحياة تتمّة، وهذا لا يعد خيانة للشهيد، بل حفظًا لعائلته وأبنائه، خاصّة لو كان خيار الأم مناسبًا لهم، فزوجي الحالي لم يكن متزوجًا سابقًا، وبالتالي لم أبنِ سعادتي على تعاسة أحد، وهو من الخلوقين والطيبين، وحتى اليوم معاملته لولدي تكاد تكون أفضل من معاملتي لهم، لأنه ممن يعرف قيمة الشهيد وأطفال الشهيد. 
خيار الزواج هذا كان جريئاً [...]، لكنه -قطعًا- أفضل من التلطّي بخيارات خاطئة ستكون الأسوأ لي ولأولادي. 
أين الشهيد اليوم منكم؟ 
الشهيد موجود في كل ذرّة منا، هو في النهج الصامد بي وبولديه، في صدقي وصراحتي مع نفسي والمجتمع. هو الغد الذي دائمًا ما نردّد -أنا وولديه- أننا نتمنى لو نُحشر معه. الشهيد عندما كان يجاهد، كان يجاهد في سبيل الله لإحقاق كلمة الحق ودحر الباطل، وللدفاع عن العدالة، وأنا اليوم في هذا المجتمع، مع كلّ تحدّيات الوضع، ما زلت مع ولديّ ننتصر لله وللحق والعدالة، ولا نخاف في الله لومة لائم. 
هذا الأمر يحتاج إلى صبر وصلابة، ولكن للنهج بكله. الحق نفسه يحتاج إلى تضحية وثبات، ولستُ نادمة على قراري، لأنه هو الخيار الأنسب لأستمر في عائلة سليمة ومتكاملة لولديّ ولي. 
لم أجد الكثير لأرويه عن الشهيد، فأنا أعجز من أن أقارب هؤلاء الصادقين قولًا وفعلًا. أولئك الذين لا يمكن لنا إلا أن نستذكر كل فضائلهم وعطرهم المتفشّي في الأرض نصرًا ومسلكًا طيبًا. وددتُ أن أُنصت معكم للهالة المحيطة بالشهيد، أهله، أبناؤه، لعلّني أُصغي. 



لنا العزير

المصدر: موقع المقاومة الإسلامية.

التعليقات (0)

اترك تعليق