الشهيد مصطفى بدر الدين هو «الطفل الشديد التعلق بوالدته… القائد العسكري الذي ترك الجبهة المشتعلة عندما علم بم
في ذلك المنزل في منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت كان اللقاء الأخير بين الحاجة أم عدنان ونجلها القائد العسكري في حزب الله الشهيد مصطفى بدر الدين. وقتها، وعلى خلاف العادة، جاء باكراً، «إذ اعتدت على قدومه ليلاً» تقول. «كان يريد رؤية الجميع، لأن ذلك اليوم كان يوم اجتماع العائلة لتناول طعام الغداء». صادف أن «ذهبوا يومها لتأدية واجب عزاء، فتناولت معه الغداء لوحدنا هنا، في غرفتي، أطعمني بيديه، كان شديد التعلق بي»، تضيف «ثم ودّعني وقال بخاطرك يا إمي».
بعد اثني عشر يوماً، عاد السيد «ذو الفقار» شهيداً إلى الحي الذي ترعرع فيه طفلاً، ثم فتى حاد الذكاء، فشاباً ثائراً على زمن الاستسلام. مرّ قرب «جامع عواد» الذي شهد بعضاً من اجتماعاته الأولى بالحاج الشهيد عماد مغنية. «هناك ولدت المقاومة» تؤكد أم عدنان، «كانوا قلة، تخطط وتفعل، وكان الهدف واضحاً ودقيقاً: القضاء على إسرائيل».
«لقد ذاب والدي في تلك القضية… ذاب بها سجيناً في الكويت، حيث كتب في إحدى رسائله إلى عمتي قصيدة لفلسطين» تقول سارة ابنة «السيد». تردد كلماتها عالياً: «غضبٌ غضب، نارٌ لهب، يا ابن المخيم والنقب، احمل حجارك يا فتى، ارم النيازك والشهب». تكمل «ثم ذاب بها عند مثلث خلدة، حيث أصيب إصابة بالغة في قدمه، ثم جنوباً، حيث الانتصار الكبير، ومقاتلاً الإرهاب في سوريا: الذوبان الأخير».
قيد.. وحرية
«كانت عيناي شاخصتان، تنظران إلى الباب. كان انتظاره ثقيلاً، مرّ الوقت ببطئ، ومن ثم فُتح الباب، ليطل كعادته، مرفوع الرأس جميلاً، أنيقاً، رغم أعوام السجن الستة»، تقول الحاجة أم عدنان. كان ذلك في أحد سجون الكويت، قبل ستة وعشرين عاماً. وقتها، زارت الأم نجلها للمرة الأولى منذ اعتقاله عام 1983 بتهمة تفجير السفارة الأميركية في الكويت. تروي الوالدة تفاصيل تلك الزيارة كأنها الآن، تتفاعل ملامح وجهها الثمانيني مع كل كلمة، إنها الذكريات، كل ما تبقى لها من «السيد ذو الفقار».
«لحظة دخوله إلى الغرفة التي كنا ننتظره فيها أنا وزوجته، سارعنا إلى احتضانه، كل واحدة من جهة»، تقول الحاجة، مشيرة إلى أنها لم تستطع منع نفسها من البكاء، عندها سارع «السيد» الى تهدئتها، قائلاً «ليش عم تبكي يا إمي، نحنا ما منبكي، نحنا منبكّي، بدي اياكي تكوني قوية». هنا تؤكد الوالدة أنها كانت وبقيت على يقين أنها أنجبت بطلاً مقاوماً، لكن «الفقد صعب»، تقول، وعيناها شاخصتان في صورة لابنها وضعتها قرب سريرها. ساعات ثلاث دام لقاء الوالدة بابنها. سألها عن العائلة والأصدقاء والجيران، «فلقد كان حنوناً كثير الاهتمام بمحيطه، منذ صغره»، تضيف أم عدنان، «لكن في الوقت عينه كان لا يهاب شيئاً، حتى الموت وحتى سجانه». هنا يعلو وجه الأم ابتسامة فخر، تروي كيف قام «السيد» الفقار ووقف متحدياً السجان الذي كان جالساً معهم في الغرفة أثناء الزيارة، قائلاً له بجرأته المعهودة «لماذا تنظر الى الساعة؟ مضى على جلوسي مع عائلتي ثلاث ساعات، لقد مضى ست سنوات قبل أن تسمحوا لي برؤيتهم». في اليوم التالي كانت مدة الزيارة ساعتان، «ودّعته بعدها وعدت إلى لبنان، لكن قلبي بقي في الكويت مع مصطفى».
قبل هذه الزيارة، كانت الكتابة وسيلة التواصل الوحيدة بين «السيد» وعائلته. الرسالة الأولى أرسلت سراً، لأنه في السنوات الثلاث الأولى كان التواصل ممنوعاً، تشرح الوالدة. «أذكر مضمونها جيداً، كانت ممتلئة عنفواناً، وحباً لي ولكل أفراد أسرته» تحدثنا، مشيرة إلى أنه أرسلها مع أحد العاملين في السجن، وقد كان ذاهباً لتأدية فريضة الحج، ليسلمها إلى أحدهم هناك. بعد مضي عام ونصف العام على رؤية الوالدة لابنها، اجتاح الرئيس العراقي صدام حسين الكويت، فاستطاع الخروج من السجن. تحدثنا أم عدنان عن اللقاء الأول في العاصمة الإيرانية طهران: «كان نائماً عندما وصلنا أنا وزوجته، رميت بنفسي عليه، واحتضنته». قبل ذلك كانت الحاجة في زيارة دينية إلى مشهد، ليأتيها اتصال من الحاج عماد مغنية مبشراً إياها، «مبروك، هيّاهن عالطريق».
المصدر: قناة المنار.
اترك تعليق