مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأمومة: الوظيفة الأرقى

الأمومة: الوظيفة الأرقى

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
   
   في السنوات الأولى من عمر الإنسان تتشكل ملامح شخصيته، وتنغرس بذور صفاتها الأساسية، لذلك يسميها خبراء التربية بالسنوات التأسيسية، وفي تلك السنوات لا أحد أقرب إلى الطفل وأشد التصاقاً به من الأم، وبذلك تكون هي الجهة الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصيته و صناعتها.
   ويتيح لها الارتباط العضوي والنفسي بينها وبين الطفل أكبر فرصة للتأثير، فهو في الأساس جزء منها، تكّون في أحشائها، وتغذّى من دمها، ثم ينشأ في حضنها، وينمو جسمه من لبنها، فمن الطبيعي أن تتعلق به، وأن ينشدّ إليها، هذه العلقة الخاصة،والانشداد الوثيق، هي التي تجعل بيد الأم أدوات الرسم والتشكيل لشخصية الولد.
     ولا تستطيع أي جهة أخرى أن تأخذ نفس مكانة الأم وتأثيرها، حتى وإن مارست وظائف الأم العملية، كالإرضاع والحضانة،
لأنها لا تملك آليات التفاعل والارتباط النفسي والعاطفي الموجود لدى الأم، بل يمكن القول إن هناك برمجة غريزية، أودعها الخالق جلّ وعلا للاستجابة والتفاعل بين الأم ووليدها، ليس في عالم الإنسان فقط، بل في عوالم سائر الحيوانات أيضاً، فحتى عند الثدييات الدنيا مثلاً يبدأ التعلق مباشرة بعد الولادة، فالصغير يتعرف على أمه ويبقى إلى جانبها دون غيرها، والأم بدورها ترعى وتغذي وتحمي وليدها دون غيره.

   لقد حاولت بعض النظريات في مجالات التربية وعلم النفس، أن تقصر تفسير ظاهرة التعلق والانشداد، بين الطفل والأم، على أساس تلبية الأم للحاجات البيولوجية للطفل، حيث توفرله متطلباته الأساسية. لكن هذه النظريات لم تصمد أمام النقد العلمي، والملاحظة التجريبية، ويرى "بولبي" ومجموعة من العلماء المتخصصين: أن هذه النظريات ليست مقنعة في تفسيرها لظاهرة التعلّق عند الإنسان، ويستند "بولبي" إلى نتائج البحوث والدراسات، التي تبين أن التعلق يمكن أن ينمو ويتطور تجاه أفراد غير معنيين بالعناية الجسدية للطفل وتطور العلاقة بين الأم والطفل يتجاوز تلبية الحاجات البيولوجية،
ويعتمد إلى حد كبير على طبيعة التفاعل بين الجانبين، فإرضاء حاجات الطفل الأساسية عملية ضرورية، ولكنها غير كافية لنمو التعلق بين الأم والطفل، وغالباً مايكون إرضاء هذه الحاجات فرصة للتفاعل المتبادل بكل أشكاله. فعندما ترضع الأم طفلها، تشعره بحرارة جسدها، و بحنو لمساتها، وبرقة عباراتها ومناغاتها، ويظهر الطفل بدوره علامات الرضى و الارتياح، مما يشجعها على الاستمرار في التفاعل معه.[1]

الإشباع العاطفي:
أصبح من الواضح علمياً كما هو ملحوظ وجدانياً، مدى حاجة الطفل إلى الحنان والعطف الذي تفيضه عليه الأم، بشكل خاص، والذي لا يعوضّ عنه أي بديل، وإن توفير الاحتياجات الجسدية للطفل، لايمكن أن يغنيه عن حب أمه وحنانها،ذلك الحب والحنان المميّز الذي لا يصطنع ولا يستبدل.
حتى أن أبحاثاً علمية حديثة تشير إلى خطأ دارج من قبل المستشفيات التي يتم فيها التوليد بإشراف طبي، حيث يفصل الصغير عن الأم مباشرة بعد الولادة، لأسباب العناية الصحية، لكن نتائج هذه الأبحاث تخلص إلى القول: بوجوب وضع الوليد على تماس حسّي مع الأم بعد الولادة مباشرة، وذلك لأهمية هذه اللحظات في العلاقات اللاحقة بين الطفل والأم، وأهمية توفير الفرصة للأم لرؤية الطفل وملامسته بعد الولادة مباشرة، فهي في أشد الحاجة لتحسه وتتلمسه وتشمه، لذا يجب المزيد من الحذر قبل التفكير بفصل الطفل عن الأم بعد الولادة مباشرة.[2]
إن الطفل يحتاج إلى الغذاء، ويمكن توفير حاجته الغذائية من أي مصدر، لكن أي تغذية للطفل، لا يمكن أن تكون بمستوى لبن الأم، لا من حيث القيمة الغذائية فقط، بل لما يوفره من فرصة للإشباع العاطفي، ولإفاضة الحنان والحب على المولود، إضافة إلى ماتشعر به الأم من سعادة وسرور.
لذلك ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: "ليس للصبي لبن خير من لبن أمه"[3] وعن علي : "ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه"[4] فحليب الأم تتناسب مركباته وحاجات الطفل خاصة في الأشهر الأولى، فهو قد صمم وركب ليفي بحاجات الطفل يوماً بيوم، ويعتبر رابطة فيزيولوجية محسوسة بين الطفل والأم، وامتداداً لحبل الولادة. وفوق ذلك كله، فإن قطرات حليب الأم التي يجتذبها الطفل، تصحبها دفقات عظيمة من العطف والحنان، تغذي نفسه إلى جانب تغذيته الجسدية.
ونفس الشيء يقال عن الحضانة، فقد يتوفر من يقوم بشؤون الطفل غير الأم، لكن لا أحد يوفّر له ماتغدقه عليه الأم من حب وشفقة، وعطف وحنان.
لذلك قرر الإسلام أولوية الأم بإرضاع طفلها، وأحقيتها بحضانته في السنوات الأولى من عمره، على خلاف بين المذاهب و الفقهاء في تحديد تلك السنوات.
إن إنفصال الطفل عن الأم، وحرمانه من فيض حبها وعطفها، يحدث آثاراً سلبية عميقة في نفسه، تنعكس على تشكيل شخصيته، و مستقبل سلوكه، وسيرته في الحياة.
وكان العرب حينما تعجبهم متانة شخصية إنسان وقوتها، يصفونه بأنه "شبعان من حليب أمه" للتعبير عن ارتواء نفسيته، عطفاً وحناناً في صغره، مما جعله قوي الشخصية والجنان في ما بعد.
وتناقش دراسات تربوية واجتماعية حديثة، تأثير ابتعاد الأم العاملة عن وليدها عند ذهابها للعمل، و خاصة قبل إكمال السنة الأولى، وأن ذلك يعود بآثار سلبية على الأم والطفل، ومن الأفضل أن تمدد إجازة الأمومة إلى سنة كاملة. وفي تقريره إلى منظمة الصحة العالمية قدم "بولبي" براهين عدة، تبيّن أن اضطراب الشخصية والعصاب، تكونان غالباً نتيجة الحرمان من عناية الأم، أو نتيجة لعلاقة متقطعة زمنيا،ً وغير دائمة بين الطفل والأم، وأن انقطاع العلاقة بينهما يعود بالنتائج السلبية على الطفل.[5]
إن فيض حنان الأم يمنح نفس الطفل الأمن والاستقرار، ويغذّي مشاعره بالطمأنينة والاستقامة، ويصلّب شخصيته تجاه ما يستقبله في الحياة من مشاكل وأزمات.

البناء الثقافي والمعرفي:
يبدو العالم غريباً على الطفل حينما يتفتق إحساسه، ويبدأ وعيه، وتكون الأم هي أقرب شيء إليه، ينظر إلى ما يحيط به، ويتعامل معه من خلالها، فمنها يتعلم اللغة والكلام، وبواسطتها يتفهم مايدور حوله.
وبإمكان الأم الواعية أن تقوم بدور كبير في تنمية معارف طفلها، وزرع حب المعرفة في نفسه، وتربيته على التفكير، وتقوية مداركه العلمية، عبر التحادث معه، وإثارة اهتماماته، وتشجيعه على الاستفهام والبحث.
إن حالة الفضول والسؤال عن كل شيء، حالة طبيعية، تحصل عند الطفل مبكراً، وفي العوائل المتخلفة، قد تقمع هذه الحالة الإيجابية عند الطفل، ويستثقل الوالدان كثرة تساؤلاته، وقد ينظر إليها باستخفاف، أو يجاب عليها بشكل خاطئ.
بينما يفترض أن يتيح فضول التساؤل عند الطفل فرصة مناسبة لتنمية معارفه، وتشجيع قدراته الذهنية.
والأم صاحبة الدور الأكبر في هذا المجال، ولا يصح أبداً أن تترك عقل ونفس طفلها ساحة مفتوحة أمام برامج التلفزيون، لتتشكل ثقافته ومعارفه وفق توجيهات قد لا تكون منسجمة مع نظام القيم الديني والاجتماعي.
كما لا ينبغي الاستهانة بقدرات الطفل على الفهم والاستيعاب، إن حقائق كثيرة، ومفاهيم مختلفة، يمكن تقديمها للطفل، عبر أساليب التوضيح والتبيين، وبواسطة التكرار والإعادة.
وكثيراً ما يكون نبوغ بعض الأطفال وتفوقهم الدراسي، ناتج عن التشجيع والاهتمام من قبل العائلة بالنمو المعرفي والبناء الثقافي.

التوجيه السلوكي:
كما يكتسب الطفل لغة الكلام من المحيط الذي يعيش فيه، كذلك يأخذ سلوكه وأسلوب تعامله وتعاطيه، من خلال ملاحظته وتقليده للقريبين منه، إنه يأتي للحياة صفحة بيضاء فارغة، ثم تبدأ رسوم العادات والتقاليد التي ينشأ في أجوائها، تنعكس وترتسم على صفحة نفسه وسلوكه.
يقول الإمام علي : "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته"[6]
ولأن الطفل يتأثر بالأقرب إليه، والأكثر التصاقاً به، فإن الأم هي المؤثر الأكبر في سلوكه في السنوات التأسيسية من عمره، تلك السنوات التي تتحكم في بناء شخصيته المستقبلية.
فالطفل شديد الملاحظة والتأمل في تصرفات أمه وحركاتها، ومن ثم يندفع لمحاكاتها وتقليدها، وتبقى في أعماق نفسه، وخبايا مشاعره، الكثير من الانطباعات عن مشاهداته ومعايشاته لسلوك المحيطين به فترة صغره، وخاصة الأم. هذه الانطباعات قد تصبح له مصدر توجيه وإلهام فيما يواجهه من مواقف وظروف.
وإذا كان بعض العظماء والمفكرين والأدباء، قد تحدثوا عن بعض ما علق بذاكرتهم من فترة طفولتهم، وعن تأثيرات تلك الفترة في تشكيل شخصياتهم، فإنما هم يتحدثون عن ظاهرة عامة، لكل أبناء البشر، وميزة هؤلاء تعبيرهم عن هذه الظاهرة.
انطلاقاً من هذه الحقيقة فإن الأم الواعية، ذات السلوك القويم، والتوجيه التربوي، تصنع شخصيات أبنائها في مستوى رفيع، وبكفائة عالية.
[1] قنطار: الدكتور فايز/ الأمومة نمو العلاقة بين الطفل والأم /ص37-41/عالم المعرفة/166 الكويت
[2] المصدر السابق ص72
[3] المجلسي: محمد باقر/ بحار الانوار ج100 ص323
[4] الكليني: محمد بن يعقوب/ الكافي ج6 ص40
[5] قنطار: الدكتور فايز/الأمومة ص204
[6] الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة - كتاب رقم 24

مجلة ريحانة-شبكة رافد
الشيخ حسن الصفار

التعليقات (0)

اترك تعليق