السيدة خديجة عليها السلام.. رفيقة الدرب
رفيقة الدرب
سارت الحياة الزوجية موفقة هادئة، يملؤها الحب والاخلاص، فجمعت بين راحة البال، واطمئنان النفس. وكان رسول الله(ص) قبل البعثة يقسم وقته بين بيته وتجارته وعبادة ربه. كان يذهب الى غار حراء للتعبد و التأمل والتفكير على دين إبراهيم عليه السلام.. ورزق من خديجة جميع أولاده، ماعدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.
ظلت خديجة، رضي الله عنها. طوال حياتها مع الرسول عليه الصلاة والسلام. وكانت فترة ما قبل الوحي من أشق الأيام في حياة الرسول حيث يستعد للقاء لم يألفه الإنسان، وليس للإنسان العادي قدرة على تحمل أعباء ما يكلف به، وأمر الرسالة ليس هينا.
ولما شرّف الله محمداً برسالته الخالدة، كانت خديجة أول من آمن به، وكان إيمانها عن عقيدة وفكر وتدبر.. وقد قامت. رضي الله عنها، بدور خطير، وتحملت أقسى ما يصادفه إنسان منعم في حياته، كانت تدفع عنه سادة قريش وهم يكيلون له الإساءة بأنواعها، وكانت تشد من أزره، وتقوي عزيمته وتصبره.
ولعل أقوى ما صادف خديجة هو المقاطعة التي تعرض لها بنو هاشم وبنو عبد المطلب، بسبب ما يدعو إليه الرسول الكريم(ص)، لقد خرجت خديجة من بيتها لتنضم إلى بني هاشم، وقد جاوزت الستين من عمرها، وحاصر المشركون الجميع، وقد كتب الصحيفة البغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف، وقطعوا على أنفسهم عهداً بمحاصرة بني هاشم، وألاّ يقبلوا صلحاً ما لم يسلموا محمداً ليقتل، وصار المحاصرون لا يخرجون إلاّ من الموسم إلى الموسم، فقاسوا بذلك مشقة وبلاءً مكثوا فيه ثلاث سنين، مع ضيق العيش والجوع والألم، ولم تكن خديجة بأقل من هؤلاء الصبية وقد أصابها المرض ودبّت الشيخوخة إلى جسدها. ثم ثار رجال من المشركين على المقاطعة. ومزقت الصحيفة، ورجعت خديجة إلى دارها.
وكان الإعياء والتعب قد نالا منها فلزمت فراشها، وكان الزوج الوفي يمرضها بنفسه، لا يفارقها ليلاً ونهاراً، ينظر إليها فيتمثل في خاطره صورة الأم والأخت والزوجة. حتى حم القضاء فأسلمت روحها الطاهرة إلى خالقها في العام الذي خرجت فيه من حصار شعب (أبي طالب) وقيل إنها ماتت بعد ثلاثة أيام من موت أبي طالب، وكانت وفاة أبي طالب بعد ثمانية أشهر وواحد وعشرين يوماً من الخروج من الشعب، وذلك في السنة العاشرة من المبعث الشريف، وقبل الهجرة بثلاث سنين. قال حليم بن حزام: ((ودفناها بالحجون، ونزل رسول الله(ص) في حفرتها، ولم يكن يومئذ صلاة جنازة حيث لم تكن قد فرضت.
وبوفاة خديجة(رض) خلت الدار من الأنيس، وأوحش المكان.. ولقد شعر رسول الله بالحزن والأسى، وأحس بالفراق والوحشة. وأنه فقد الحبيب والعون والمواسي، فقد خديجة؛ زوجته، وحبيبته وعونه، وفقد عمه. الحامي المدافع عنه.. فسمي ذلك العام بعام الحزن. حقاً أنه عام الأحزان.. عام فقَدَ فيه رسول الله(ص) أحب الناس إلى قلبه وأكثرهم عطفاً عليه.
وليس رسول الله(ص) وحده هو الذي رزء في ذلك العام، بل وفاطمة الصبية الصغيرة التي لم تشبع من حنان الأمومة، وعطف الوالدة بعد.. فقد شاطرته هذه المأساة، ورزئت هي الأخرى، فشملتها المحنة في ذلك العام الحزين.. عام الألم والمأساة، وشعرت بغمامة الحزن واليتم تخيم على حياتها الطاهرة.
هذه إضاءات سريعة من حياة خديجة الكبرى، ويبقى الحديث عاجزاً عما أعطت هذه المرأة الكريمة للاسلام، والرسالة وموكب الإيمان، وقد أشار الكاتب اللبناني سليمان كتاني، إلى ذلك العطاء، إذ يقول: ((أعطت خديجة زوجها حباً وهي لا تشعر بأنها تعطي، بل تأخذ منه حباً، فيه كل السعادة، وأعطته ثروة وهي لا تشعر بأنها تعطي بل تأخذ منه هداية، تفوق كنوز الأرض، وهو بدوره أعطاها حباً وتقديراً. رفعاها إلى أعلى مرتبة، وهو لا يشعر بأنه أعطاها، بل يقول: ما قام الإسلام إلاّ بسيف علي، وثروة خديجة، وأعطاها عمره وزهرة شبابه، ولم يبدل بها امرأة حتى غابت عن الوجود، وهو لا يشعر بأنه أعطاها وهو يقول: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس)).
كان هذا كلام رجل غير مسلم، حول أم المؤمنين، ولا غرو فإن الحق والقيم العليا الرفيعة تشدّ إليها عشاق الإنسانية أياً كانت مشاربهم، لاسيما إذا كانت النماذج من نمط خديجة.. الباذلة بلا منّ، والواهبة بلا حدود، والمضحية حتى الشوط الأخير.
لقد كانت خديجة تنثر العطاء، في كل الاتجاهات، وتبذر القيم أنّى حلّت، وتواصل الدرب اللاحب، رغم فداحة الخطب، ووعورة المسلك.. كل بنكران مميز للذات، يبقى درساً عظيماً ماثلاً لكل السائرين والسائرات في خطى الإيمان والرسالة.
وللمرحوم الشيخ عبد الله العلايلي لفتات رائعة ضمنها كتابه الشهير: (مثلهن الأعلى، السيدة خديجة)، ففي الفصل الأخير (قارورة المعبد)، يقول: ((حتى الإيمان.. ليطيب، لينسكب انسكاب الملآن بالعبق والفوح، هو في حاجة إلى تخمير، إلى تعتيق.. ولعل ذلك، هو ما خالط النسّاك الذين اعتزلوا الحياة، وما إلى الحياة من أباطيل الزخرف وزخرف الأباطيل، وأخذ بهوى أفئدتهم أخذاً في الذروات حيث المغاور والكهوف، مغمضة الأعين نصف إغماض، لتتلقف إنساناً شاء له القدر أن يسكب فيه سره، وأن يجعل منه قلباً إنسانياً أنقى..
ما أدرانا أن يكون ذلك من تعليل القدر لهم، وأسلوب عمله فيهم، ثم ما أدرانا أن لا يكون قلب البشري، هذا القلب نفسه، وهو في شكل واحدة القوارير، إنه قارورة حقاً لمتحلب الإيمان.. وهو يعلل فيه تعليل الراح بالتعتيق. ويعالج معالجة العصير بالتقطير والتخمير.
ويمضي العلايلي بالقول: حتى إذا فض ختامه، انفض عن كوثر، عن ذات الإنسان المبدعة انفض عن مثل معنى الخلد: (إنا أعطيناك الكوثر).
وخديجة المقدسة كان لها ذلك الإيمان المعتق حقاً، أي كان لها ذلك الكوثر الروحي الذي تدفق به حقيقتها، كينبوع تمد ولاتنقطع، تفيض ولا تغيض. فأعطت للإسلام عطاءً كريماً.. فقد غذّت نبياً، وتعهدت وصياً.. لقد تعهدت علياً أيضاً، أي تعهدت للدعوة قطبها الآخر، يوم ضمه النبي إليه، ومد عليه ظل جناحه. فتركت فيه حظاً كما تركت في النبي حظاً، كانا لها تذكارين خالدين، ما بقي للغنسانية عرق تمشي فيه نبضة حس رفيع)).
المصدر: كتاب المرأة المسلمة: هموم وتحديات؛ حسن السعيد، بغداد 1427هـ - 2006م
اترك تعليق