مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الشباب ومعالجة مشكلة الجفاف الروحي

الشباب ومعالجة مشكلة الجفاف الروحي

الشباب ومشكلة الجفاف الروحي

عوداً على بدء وعطفا ًعلى ما سبق، فإنّ حالة اليقظة الروحيّة والعلاقة مع الله تعالى والتي يطمح إليها كلُّ إنسان مؤمن، تعترضها عقبات وصعابٌ، ويقف في طريقها بعض اللصوص الذين يصدّون عن سبيل الله كما أسلفنا، فيُبتلى المرء بمشكلة التصحّر الروحي والتلّوث الأخلاقي. والشباب ربما كانوا هم أكثر عرضة للتلوّث الروحي، بسبب كثرة المغريات التي تلاحقهم وتكاد تحاصرهم وتضغط على غرائزهم، ولذا لا يمكننا ونحن نتحدث عن الشباب وعلاقتهم بالله سبحانه أن نغضَّ الطرف عن كيفية معالجة مشكلة التصحّر المذكورة. ومن المؤمَّل أن يكون إبعاد الشباب عن هذه الحالة المَرضيّة هو أكثر أملاً من إبعاد الشيوخ. والمعالجة تحتاج إلى منهج متكامل، ولكن قد يكون لزاماً علينا في البداية أن نسلّط الضوء على بعض مظاهر وأعراض حالة الجفاف الروحي، ثم نتطرق إلى أسبابها، ونعرّج بعد ذلك على كيفية معالجتها:

1- من مظاهر الفراغ الروحي
إنّ لمشكلة الجفاف الروحي هذه عدة مظاهر تتبدّى في سلوكنا وحياتنا:
أولاً: الصلاة الميتة، فترانا نقوم للصلاة كسالى، ونصلي وقلوبنا لاهية عن ذكر الله تعالى، وهذه الحالة  في بعض مستوياتها قد تشكّل علامة نفاق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ١٤٢].
ثانياً: اللامبالاة تُجاه المواعظ المُذَكِّرة بالله تعالى، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ  مُعْرِضُونَ  مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ  لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء: ١–٣].
ثالثاً: أدعيتنا الفارغة من الروح، وتلاوتنا الجامدة لآيات القرآن والتي تنطق بها شفاهنا دون أن تلين لها  القلوب ولا تقّشعر لها الجلود، فكأنّما يقرأ أحدنا القرآن وفي أذنيه وقرٌ وصَمَمٌ، كما حدثنا الله تعالى عن بعض الناس، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: ٧]، بينما المؤمن الذي يعيش الله تعالى في قلبه تراه يخشع لذكر الله تعالى، وتلاوة آياته، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: ٢].
رابعاً: قساوة قلوبنا تجاه أحداث ينبغي أن تهزّ -بحسب طبيعتها- وجدان الإنسان من الأعماق وتحرّك  مشاعره، وذلك من قبيل مناسبات الموت والمصائب المفجعة، ولكننا مع ذلك قد لا نتأثّر بها ولا نهتزّ لها! حيث ترى بعض الناس يمشون في جنازة إنسان أو يمرّون عليها وهم يضحكون ويمزحون، أو يدخلون المقابر وهم يتحدّثون بأحاديث المال والتجارة والدنيا، وكأنّ الموت على غيرهم قد كُتب، أو كأنّهم مخلّدون في هذه الدنيا ولن يُودَعُوا -كما أُودِعَ أسلافهُم- في تلك الحفر والتي مهما "زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسدّ فرجها التراب المتراكم"، كما يقول الإمام علي(ع)[1].

2- أسباب هذه الظاهرة
إنّ لحالة الجفاف الروحي التي تعتري الإنسان أسباباً عديدة إذا ما وقفنا عليها نكون قد أمسكنا بطرف الخيط لحلّ هذه المشكلة، ومن هذه الأسباب:
أولاً: الانغماس في الدنيا ومحرّماتها
وهذا دون شكّ يُعدّ سبباً أساسياً للغفلة عن وجود الله تعالى، وإليك ذكر بعض المصاديق لهذا العنوان:
أ‌- المعاصي والذنوب:
إنّ كل ذنب يقترفه العبد -من حيث يشعر أو لا يشعر- هو كسهم أو طلقة يوجّهها إلى قلبه، ما يؤدي مع الوقت إلى شلل القلب وموته وتحوّله إلى كتلة سوداء قاتمة لا تنبض بالحياة أو الروح، ولا تلين أو تخشع لذكر الله، وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه؛ وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرّان الذي ذكره الله".  {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: ١٤][2]. إنّ ذنوبنا ومعاصينا هي التي تتسبب في طردنا من باب الحبيب، وتُفقدنا لذّة مناجاته، وكما قال أمير المؤمنين(ع) في دعاء الصباح المروي عنه: "باعدتني ذنوبي عن دار الوصال"[3].
وهذا المضمون مروي عن الإمامين الباقر والصادق(ع)، فعن أبي جعفر(ع) قال: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة (نقطة) بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا [ت‍] غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين 14]"[4]
ب‌-الإسراف في الأكل والشرب:
قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف 31]، فإنّ الإسراف في الأكل والشرب يُميت -أيضاً- القلوب، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "لا تميتوا قلوبكم بكثرة الطعام والشراب، فإنّ القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليه الماء"[5]، وعن أمير المؤمنين(ع): "إياكم والبطنة فإنّها مقساة للقلب مكسلة عن الصلاة"[6]. وفي وصايا لقمان الحكيم: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة"[7].
هذا لو كان الطعام والشراب محلّلاً، أمّا لو كان محرّماً، كما لو تناول لحم الخنزير أو الميتة أو أكل المال المسروق أو المُقامَر عليه، أو شرب الكحول وغيرها ممّا حرّمه الله تعالى، فإنّ هذا دون شك سيترك أثره السلبي على روحيّة الإنسان ويورثه قسوة في القلب، وقد يكون له آثار أخرى.

ثانياً: الانحرافات الفكريّة والوساوس النفسيّة
فإنّ هذه الانحرافات والوساوس تعدّ صوارف ذهنيّة تعيق الإنسان عن التوجه الروحي المطلوب وتجعله يغفل عن نفسه وعن واجباته تجاه ربه، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: ١٩]. والغفلة عن ذكر الله لها أسبابها المختلفة، ومن هذه الأسباب ارتكاب الذنوب والمعاصي، والابتعاد عن جادة الشريعة بترك الأعمال العبادية كالصلاة والصيام والدعاء ونحوها.

3- الملينات للقلب
هذا كلّه في توصيف مشكلة الجفاف الروحي وبيان أسبابها، فماذا عن العلاج؟  
والجواب: إنّ الإسلام قد أعدّ برنامجاً روحياً متكاملاً يحفظ للروح صفاءها، ويبعث الحياة في القلب، فما هي معالم هذا البرنامج التي تنتشلنا من تحجّر القلب وجفاف الروح؟
هناك ثلاث خطوات أساسية على هذا الصعيد:
الأولى: المساءلة والمحاسبة
الثانية: إيقاظ النفس (مهمة التخلية).
الثالثة: البرنامج الإسلامي للتعبئة الروحيّة (مهمة التحلية).

وإليك تفصيل الكلام في هذه الخطوات:
أولاً: محاسبة النفس
إنّ من الطبيعي والمنطقي أن تكون الخطوة الأولى على هذا الصعيد هي العملُ على محاسبة النفس ومعاتبتها ومساءلتها، فالغفلة عن النفس ونسيانها يؤديان إلى تعريضها للمهالك، ويصاب الشخص بالأمراض الروحيّة والنفسيّة من دون أن يشعر بذلك، والأمراض التي لا يشعر بها صاحبها هي من أخطر الأمراض، في الحديث عن رسول الله(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر"[8]، وعن الإمام السجاد(ع): "ابنَ آدم! إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دثاراً، ابنَ آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل ومسؤول فأعدَّ جواباً"[9].
أ‌- ثمرة المحاسبة
وأهميّة المحاسبة أنّها تعلّم الإنسان أن يتواضع علمياً وجهادياً وتقوائياً، فلا يتعالى على الناس لكونه أعلم منهم، ولا يشمخ ويستهين بالآخرين لأنّه جاهد أو ضحّى أو أنفق ماله في سبيل الله تعالى، أو صلّى وصام وحجّ بيت الله الحرام.. فالمحاسبة تحصّن النفس من الغرور والتكبّر وتحصّنها من الانحراف، قال علي(ع) فيما روي عنه: "ثمرة المحاسبة صلاح النفس"[10]. وعنه(ع): "مَنْ حَاسَبَ نَفْسَه رَبِحَ ومَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، ومَنْ خَافَ أَمِنَ ومَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ، ومَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ ومَنْ فَهِمَ عَلِمَ"[11].
إنّ المحاسبة على مستوى الفرد أو الجماعة هي بداية الصلاح والإصلاح، حيث إنّها تُرِي الإنسان أمراضَ النفس ومعايبها، فيعمل على تهذيبها وإصلاحها، بل إنّ تطوّر الإنسان معنوياً وفكرياً وسلوكياً هو رهن إقدامه المستمر على عمليات مراجعة نقدية، يجريها مع نفسه فيحاسبها ويساءلها.
ب‌- نقد الغير ونقد الذات
والغريب في الإنسان، أنّه يستسهل نقد الآخرين ومحاسبتهم على الصغير والكبير، لكنّه يغفل عن نفسه ويغضّ الطرف عن عيوبه ولا يرى قبائحه. وإنّ من أخطر تسويلات النفس الأمّارة، أنّها تثير في الإنسان الإعجاب بنفسه وعمله وتُلهيه عن رؤية عيوبه وتُشغله بمعايب الآخرين، بل إنّها تمنّيه وتزيّن له أعماله، فيرى سيئاته حسنات، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: ٨]، وقال تعالى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
إنّ أصدق الناس هو من كان صادقاً مع نفسه، وأغشّ الناس من غشّ نفسه، في الرواية: "كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ (رَضِيَ اللَّه عَنْه): يَا أَبَا ذَرٍّ أَطْرِفْنِي بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَكَتَبَ إِلَيْه أَنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ ولَكِنْ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُسِيءَ إِلَى مَنْ تُحِبُّه فَافْعَلْ، قَالَ: فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: وهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً يُسِيءُ إِلَى مَنْ يُحِبُّه؟! فَقَالَ لَه: نَعَمْ نَفْسُكَ أَحَبُّ الأَنْفُسِ إِلَيْكَ فَإِذَا أَنْتَ عَصَيْتَ اللَّه فَقَدْ أَسَأْتَ إِلَيْهَا"[12].
ج- محكمة الضمير ومحكمة العدل
إنّ هذه المحاسبة الداخليّة من خلال محكمة الضمير الصاحي، هي الأساس لصلاح الإنسان فرداً ومجتمعاً، ومحالٌ أن ترجو العدل من إنسان وهو يمارس الظلم والغش مع نفسه، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولذا فمن رام إصلاح أسرته ومجتمعه، فعليه البدء بإصلاح نفسه.
وإذا سقط الإنسان في امتحان الضمير فَقَدَ إنسانيته، ولا يظنّ أولئك الذين سقطوا في محكمة الضمير، وأفلتوا من محاكم الدنيا من خلال الرشا والاحتيال وما إلى ذلك، أنهم سيفلتون من حكم العدل، فعليهم أن يتجهزوا لمحكمة العدل الإلهي التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.
وإنّ المسؤول الناجح في وطنه هو الذي يبدأ بإعداد منهج تربوي، ويهتم بوزارة التربية والتعليم قبل غيرها من الوزارات. ومن هنا نفهم لماذا كانت الوظيفة الإلهية الأسمى بالنسبة لأنبياء الله ورسله(ع) هي تهذيب النفوس وتربيتها وإصلاحها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: ٢]، فالأنبياء(ع) لم يبعثوا جباةً ولا طغاة، بل هداةً وأطباءً للنفوس.
د- كيفية المحاسبة
وعن كيفية المحاسبة يقول النبي(ص) -على ما ورد في الحديث-: "يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدَّ من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه؟ ومن أين مشربه؟ ومن أين ملبسه؟ أمن حلٍّ ذلك أم من حرام؟"[13].
وفي حديث آخر: سئل أمير المؤمنين(ع) كيف يحاسب الرجل نفسه؟
قال(ع): "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس إنّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته، فما الذي عملت فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتيه؟ أقضيت حقَّ أخ (حوائج) مؤمن؟ أنفّست عن كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟  أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ أأعنت مسلماً؟ ماذا الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه فإن ذكر أنه جرى منه خير، حمد الله عز وجل وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله عز وجل وعزم على ترك معاودته"[14].

ثانياً: المواعظ المنعشة للروح
بعد أن يكتشف الإنسان نفسه وآفاتها من خلال عمليّة المساءلة والمحاسبة، تأتي الخطوة الثانية على صعيد إصلاح النفس، وهي خطوة ترمي إلى تخلية النفس من الملوثات، بإيقاظها من سباتها.
وأفضل ما يساعد على إيقاظ النفس وإنعاشها، هو المواعظ الروحيّة والتربوية التي تذكّرنا بالله واليوم الآخر، وتعلّمنا أنّ الإيمان الحقيقي ليس في الشكل ولا الذي يقف عند حدود اللسان، وإنّما هو الذي ينفذ إلى الروح والقلب، ليصبح هذا القلب حَرَماً ووطناً يسكنه الله، بحيث إذا ذكر الله باسمه أو بصفات جماله وجلاله أو بآياته اهتز القلب لذكره حباً وعشقاً، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: ٢]، وقال تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: ١٦].
والحقيقة، أنّ الإنسان مهما عصى وطغى وتجبّر، يظلّ لديه استعدادٌ داخلي كفيل بإيقاظه من كبوته.
والمواعظ المنعشة ليست بالضرورة أن تكون متمثلة بالاستماع إلى المحاضرات المطولة، فقد تكفي آية صغيرة أو كلمة مختصرة لتحرّك وجدان الإنسان التائه أو العبد الضال وتوقظه من سباته. يُحكى عن الفضيل بن عياض "أنّه كان يقطع الطريق.. وكان سبب توبته أنّه عشق جارية، فبينما كان يرتقي الجدران إليها سمع سامعاً تالياً يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، فقال: يا رب قد آن، فرجع وآوى إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتّى نصبح، فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمّنهم، وجاور الحرم حتّى مات"[15].
ورُوي أنّ الإمام الكاظم(ع) مرّ ذات يوم على باب شخص معروف اسمه بِشْر، فسمع من البيت صوت الملاهي والأغاني والرقص، وخرجت جارية من البيت تحمل القمامة فرمتها في الطريق، فقال لها الإمام(ع): "يا جارية هل صاحب هذا الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حرٌّ، فقال: صدقتِ لو كان عبداً لخاف من مولاه، فلمّا دخلت قال مولاها: وهو على مائدة السّكر: ما أبطأك علينا؟! فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي مولانا الكاظم (ع) فتاب على يده"[16].
وقد لا تكون المواعظ من جنس الكلام أصلاً، فربَّ موقف بليغ ومعبّر يؤثّر في النفس أكثر من كل الكلمات والمطولات.
ومن هنا تعرف فلسفة هذه الآداب الإسلامية المشجعة على زيارة المرضى وعيادتهم، وحضور الجنائز وتشييعها، فإنّ ذلك يشكّل واعظاً للإنسان وموقظاً له، وفي هذا السياق تأتي وصية النبي(ص) التي تدعو إلى استحضار الموت واستذكاره، ففي كتاب أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر قال: "وأكثِروا ذكر الموت عندما تنازعكم أنفسكم إلى الشهوات، وكفى بالموت واعظاً، وكان رسول الله(ص) يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثِروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات"[17].

ثالثاً: البرنامج الإسلامي للتعبئة الروحية
وأما الخطوة التالية (الثالثة) بعد خطوة التخلية، فهي تحلية النفس وشَحْنُها روحياً، فمن يبذل الجهد لتطهير نفسه وتخليتها من كل الملوثات لا بدّ أن يبادر على الفور إلى تحليتها بالفضائل وشحنها بكل عناصر المناعة الروحيّة، والحقيقة أنّ مَهمّة التحلية لا بدّ أن تترافق مع مَهمّة التخلية حتى لا يعيش الإنسان حالة فراغ روحي. وهذه المهمة –أعني التحلية- قد أعدَّ لها الإسلام برنامجاً تفصيلياً متكاملاً لا حاجة لنا معه لابتكار طرق أو أساليب من بنات أفكارنا، وهذا البرنامج -كما أسلفنا- هو عبارة عن منظومة العبادات الواجبة والمستحبة التي شرّعها الإسلام.
أ‌- محطات متنوعة وهدف واحد والملاحظ في هذا السياق أنّ الإسلام أعدّ لنا محطات متعددة ومتنوعة للتعبئة الروحية:
- فهناك محطّات يومية (الفرائض والنوافل اليومية).
- محطّات أسبوعية (صلاة الجمعة).
- محطّات شهرية (استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، واستحباب العمرة المفردة في كل شهر قمري).
- محطّات سنوية (شهر رمضان، ليلة القدر، الحج).
إلى ذلك، فهناك جملة من الأنشطة العبادية أرادها الله تعالى أن تبقى مفتوحة، فمع أنّها قد تكون مستحبّة ومرغوبة في حالات معيّنة أو أوقات أو أزمنة محددة، ولكن لا مانع شرعياً من الإتيان بها في أيّ زمان أو مكان أو في أي حال، وذلك من قبيل الدعاء، فإنّ بابه مفتوح أمام العبد، وهكذا الصوم أو الصلاة. فصحيح أنّ هناك أزمنة رغّبت الشريعة في اتّخاذها أوقاتاً للعبادة، لكنْ ثمّة مجالٌ للإنسان أن يصوم في أيّ يوم أراد، باستثناء أيام مخصوصة نصّت الشريعة على حرمة الصوم فيها كالأعياد، وله أن يصلي في أيّ ساعة شاء وأحبّ، فالصلاة –كما جاء في الأحاديث الشريفة– "خير موضوع، من شاء استقلّ ومن شاء استكثر"[18]، نعم، عليه أن يلتزم بالطريقة المشروعة والمنصوصة للصلاة، فلا يبتكر صلاة خاصّة به ويعتبر أنّ لهذه الكيفيّة التي اخترعها خصوصيّة يواظب عليها، فهذا يوقعه في محذور الابتداع في الدين. وقد ذكرنا سابقاً، أنّ الله تعالى في الوقت الذي يريدنا أن نعبده، فإنّه يريدنا أن نعبده بالكيفية التي يريدها، ولهذا لا يحقّ للإنسان أن يبتكر صوماً خاصّاً به كصوم يومين متتالين -مثلاً- وهو ما يعرف بصوم الوصال، أو ما إلى ذلك.
ويبقى الباب الأوسع المفتوح أمام العبد والأبعد عن القيود هو باب الدعاء، فالله تعالى يحبُّ أن يرى العبد وهو يدعوه ويناجيه في أي زمان أو مكان، وعلى كل حال، وبأي لغة أو لسان، وإن كان للأدعية المأثورة خصوصيةٌ وميزة لا تبلغها الأدعية التي يخترعها سائر الناس، فالأدعية المأثورة قد صدرت عمّن يعرف أكثر من غيره كيف يخاطب ربّه ويناجيه.
ومن الأنشطة الروحية الهامة: زيارة مراقد الأنبياء(ع) والأئمة(ع) والأولياء، فهي تشكّل فرصةً مثالية للشحن الروحي المعنوي، كما هي مناسبة للتربية والتهذيب من خلال استحضار مواقف الشخصية المزورة وتراثها، واستلهام عطائها الفكري والروحي والرسالي.
ب– دور المسجد في التربية الدينية:
وكما أنّ ثمة أزمنة مختلفة أرادها الله أن تشكّل محطات للقائه تعالى، فإنّ ثمّة أمكنة أيضاً تمثّل فرصةً للقاء. صحيح أنّ بإمكان المؤمن أن يعبد الله تعالى في أيّ مكان أحبّ وأراد، لكن ثمّة أمكنة خاصة جعلها الله محفوفة بأجواء روحيّة خاصّة، ومن أبرز هذه الأماكن المساجد، حيث يشكّل المسجد المنطلق والأساس لبناء الشاب المسلم بناءً روحياً وفكرياً متوازناً، فالحضور في المسجد مغمورٌ بألطاف إلهية جمّة، وهو ذو فوائد روحية واجتماعية ورساليّة عديدة، ففي الحديث عن علي(ع)، أنّه كان يقول: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياء"[19].
ولأجل هذه الأهمية التي يحتلّها المسجد في البناء الروحي والثقافي كانت انطلاقة النبي الأكرم (ص) من المسجد في بناء وإعداد وتربية الجيل الإسلاميّ الأول الذي قاد الرسالة وحمل الإسلام إلى العالم، وعلى هَدْيِ النبي(ص) لا بدّ أن تسير كلّ الحركات الإسلامية وكلّ الدعاة والعلماء الرساليين الذين يعملون على تربية جيل إسلامي يفقه الإسلام ويحمله إلى العالم، ولا يمكننا أن نتصوّر وجود جماعة إسلامية لا يكون المسجد هو أساس انطلاقها وحركتها.
عزوف الشباب عن المساجد وإنّه لأمر يثير الاستغراب والقلق حقّاً، ما نلحظه ونشاهده من عزوف الكثير من الشباب المسلم عن ارتياد المساجد! وهذا أمرٌ لا بدّ أن يحرّك الرساليين ويستنفرهم لدرس هذه الظاهرة والتعرّف على أسبابها، فهل المشكلة هي في ضعف البرنامج الروحي في المساجد؟ أو في عدم جاذبية الخطاب الديني لأئمّة المساجد بل ومنفريته أحياناً، كما نلاحظ في تلك المطوّلات الخطابية التي يلقيها بعض أئمة المساجد على المصلّين الذين قد يغلبهم النعاس أو يغطّ بعضهم في نوم عميق؟! أو أنّ المشكلة تكمن في تحويل المساجد إلى مراكز حزبية ذات لون سياسي معيّن، ما قد يجعل الآخرين ممّن لا يلتقون مع هذا الخطّ السياسيّ يعزفون عن ارتيادها؟
قد تكون المشكلة كامنة في كلّ ما تقدّم، الأمر الذي يفرض علينا المبادرة إلى رفع الموانع وطرح البدائل والمحفِّزات؛ ومِنْ أهمِّ هذه المحفزات، أن نعمل على تثقيف الناس بأهميّة ارتياد المساجد وفوائد ذلك وآثاره الإيجابية، وأن ننزل من بُروجنا العاجية ونتخلّى –نحن طلاب العلوم الدينية- عن فكرة "أنّ العالم كالكعبة يُزار ولا يزور"، فإنّها فكرة خاطئة ومنفّرة، ولا أساس لها في الدين؛ والصحيح هو ما كان عليه رسول الله(ص) حيث كان يبادر إلى الناس في أسواقهم وبيوتهم ويدعوهم إلى الله تعالى وإلى ارتياد بيوت الله، ولنعم ما وصفه به تلميذُه أمير المؤمنين(ع) عندما قال: "طبيب دوّار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُمي، وآذان صم، وألسنة بكم. متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة"[20].
ولا يقلّ غرابة عن ذلك ما نلحظه أيضاً من تعالي بعض الأشخاص الذين كانوا ذات يوم في عداد الرساليّين عن الحضور الى المساجد، وذلك بمجرد تسلّم أحدهم لمسؤولية معينة في البرلمان أو الوزارة أو غير ذلك، وكأنّهم يتّخذون المسجد سُلّماً أو مطيّة للوصول إلى تحقيق رغباتهم وأغراضهم! إنّ الإنسان الرسالي هو إنسان مسجدي، وتسلّمه لمسؤولية معينة يفرض عليه أكثر من أي وقت مضى أن يكون بين الناس ومعهم في المساجد وغيرها، وعليه أن يتذكّر على الدوام قول الله تعالى في مخاطبة نبيه الأكرم(ص){وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨].
إنّ التزام المؤمن بهذا البرنامج الروحي وفق المنهج الشرعي المذكور كفيل بأن يعمر قلوبنا بحبّ الله تعالى ويجعل حياتنا عامرة بذكر الله، وكما قال أمير المؤمنين(ع) في دعائه: "أسألك بحقّك وقُدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة.."[21].
والسؤال الكبير هل نستفيد من هذه الفيوضات والعطاءات؟ هل تنفذ الصلاة إلى قلوبنا وأرواحنا أم أنّها تحوّلت إلى طقوس جوفاء تعوّدنا الإتيان بها وأدمنّاها حتى لو تركناها استوحشنا؟ هل نستحضر الله في كلّ أفعالنا وفي كل حالاتنا وأوقاتنا؟ هل نشعر برقابة الله تعالى ونتحسس وجوده أم أنه أهون الناظرين إلينا؟!
وما أبلغ الموعظة المروية عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، حيث "جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال عليه السلام: افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك: لا تأكل زرق الله وأذنب ما شئت، والثاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء مَلَكُ الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت"[22].
 


 


________________________________________
[1] نهج البلاغة ج3 ص71.
[2] سنن الترمذي ج 5 ص 105.
[3] نقله العلامة المجلسي عن الاختيار، انظر: بحار الأنوار ج84 ص340.
[4] الكافي ج2 ص273.
[5] مكارم الأخلاق ص 150 وعنه بحار الأنوار ج 63 ص 331، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج19 ص 1877.
[6] عيون الحكم والمواعظ ص 101.
[7] الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1 ص 86، وتنبيه الخواطر وتنزيه النواظر (مجموعة ورّام) ج1 ص 1000.
[8] وسائل الشيعة ج 16 ص 99، الباب 96 من أبواب جهاد النفس، الحديث 9.
[9] أمالي الشيخ المفيد ص 110، وأمالي الشيخ الطوسي ص 115، وتحف العقول ص 280.
[10] عيون الحكم والمواعظ ص 208.
[11] نهج البلاغة ج 4 ص 47.
[12] الكافي ج 2 ص 458.
[13] مكارم الأخلاق ص 468.
[14] التفسير المنسوب للإمام العسكري(ع) ص 38، وتنبيه الخواطر ونزهة النواظر ج 2 ص 414.
[15] تاريخ مدينة دمشق ج 48 ص 382.
[16] تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي ج 1 ص 571.
[17] وسائل الشيعة ج2 ص 437، الباب 23 من أبواب الاحتضار الحديث 9.
[18] بحار الأنوار ج79 ص309، نقلاً عن كتاب الإمامة والتبصرة.
[19] أمالي الشيخ الصدوق ص 474، ومن لا يحضره الفقيه ج 1 ص 237، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج 3 ص 294، وروي نحوه عن رسول الله(ص)، انظر: الخصال للصدوق 4100.
[20] نهج البلاغة ج1 ص207.
[21] مقطع من دعاء كميل بن زياد.
[22] انظر: بحار الأنوار ج 75 ص 126، وراجع حول هذا الموضوع كتاب: "الجفاف الروحي" للسيد عبد  الله الغريفي.
 



المصدر: من كتاب "مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم"
الشيخ حسين الخشن

التعليقات (0)

اترك تعليق