مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

«العنوسة» تطاردني.. فهل أقبل بأول عريس يتقدم لي؟

«العنوسة» تطاردني.. فهل أقبل بأول عريس يتقدم لي؟

«العنوسة» تطاردني.. فهل أقبل بأول عريس يتقدم لي؟

أستاذي، أكتب إليك وأنا أعلم أن مشكلتي ليس لها حل! فاسمح لي أن تصحبني في رحلة إلى أعماق نفسي، وتأكد أن مشكلتي تتشابه في كثير مع أخريات، بل وأؤكد ذلك من واقع علاقاتي العديدة مع قريباتي وصديقاتي وجيراني وممن تتوافق حالتهن مع حالتي، لكن القليل فقط من يعانين مثل ما أعاني بسبب قيود وضوابط الالتزام، أما من غلبها هوى رغباتها فهي تعيش حياتها ولا تعاني مما تعانيه الفتاة الملتزمة.
ولعلك تتساءل: ما دمت أعاني من مشكلة ليس لها حل؛ فلماذا أكتب إليك؟ لعلي من خلال بابكم الموقر أوجه رسالة لمن يؤلمونني ويفكرونني بمشكلتي إذا نسيتها ويزيدون من همومي إذا ألفتها، ويعيرونني بحالتي إذا ما تجاوزتها؛ مثل نظرات الشفقة والخوف عليّ في عيون والديّ، والدعاء التكراري من جدتي التي تعيش معنا كلما رأتني ومواساتها لي وكأنني أذكرها بمأساة إنسانية، أما مشاعر أختي التي تصغرني بخمس سنوات، التي يعتذر أبي لمن يتقدم إليها مبرراً ذلك: «كيف نزوج الصغيرة قبل الكبيرة؟»، فقد عبرت عنها صراحة لوالدتي ولم تراعِ أن صوتها سيصل غرفتي: «إلى متى ترفضون من يتقدمون إليَّ؟ حتى أُصبح مثلها!».
أنا فتاة أبلغ من العمر 35 عاماً، جميلة، من أسرة متوسطة، تتمتع بسمعة طيبة ومكانة من الاحترام والتقدير، حكايتي حكاية كل بنت ملتزمة بما يفرضه عليها دينها من خُلق الالتزام والعفة في ردائها وزينتها وقولها ونظراتها، حتى لا يطمع فيها من في قلبه مرض.
أهتم بعقلي كما أهتم بشكلي، صداقاتي مع فتيات محترمات، وحيث إنني بنت متربية، فلم أعش مراهقتي كبعض الفتيات العابثات، كذلك فرغم نصيحة صديقاتي بالجامعة بألا أترفع عن عمل صداقات مع الشباب مثلهن، عسى أن أفوز بزوج منهم، ولكنني وبفضل الله لم أسمح بأي علاقة مع أي زميل خارج ما تقتضيه متطلبات الزمالة الدراسية، مما أكسبني تقديراً واحتراماً كنت ألمسهما في طريقة تعاملهم معي المختلفة لحد كبير عن تعاملهم مع زميلاتي.
تخرجت بتفوق وكان ذلك سبباً بفضل الله أن أجد وظيفة مرموقة، وانتظرت، وفعلاً بدأ من يطلبون خطبتي، ولكن للأسف لم يكن فيهم من يمكن أن أقبله، حتى من كان مقبولاً من الناحية الاجتماعية والعلمية والمالية لم يكن مقبولاً شكلاً أو خُلقاً أو نفسياً أو توافقاً، ومن كان مقبولاً وفرحنا به للأسف كان إما يعتذر أو يحدث خلاف وينتهي الموضوع، بدأت الأيام تسرع والسنون تجري، ويقل عدد من يتقدمون وتقل مواصفاتهم وشبح العنوسة بدأ يطاردني.
انتظرت وطال انتظاري، الآن وشبح عيد ميلادي الخامس والثلاثين يؤرقني، كابوس تتصارع معه عقارب ساعتي التي لا تتوقف، وأكاد أصرخ بها: مهلاً، فأشباح 36 و37، 38.. وأخواتهن تطاردني وكأنها مدفعة من الأربعينيات.
وازدادت معاناتي التي لم أبُح بها لأحد؛ بل على العكس كنت أتعمد أن أبدو مرحة منطلقة قوية وكأنني مستغنية، ولكن في داخلي فتاة نفسها تفرح، تتمنى أن يريدها ويخطب ودها رجل، تحلم بالفستان الأبيض، نفسها تقول: «زوجي» في جملة حتى ولو حكت عن بُخله أو قسوته، تتخيل نفسها تتألم بآلام الحمل، يتردد صدى «ماما» في وجدانها قبل أذنيها.
كل هذه الأحلام التي كادت تتلاشى وتصبح سراباً، ولكن المشكلة الأكبر في نظرات الشفقة من أهلي التي تقتلني، أريد أن أنهي هذه المرحلة المملة من حياتي، إلى متى سأظل أنتظر من يتقدم وأحتار ماذا ألبس وكيف أتحدث، وكيف أقدم له التحية؟! ثم أنتظر متوجسة وكأنني طالبة في الثانوية العامة!
أكاد أصرخ: أنا موافقة مهما كان به من عيوب، لقد تعبت وقررت الزواج من أول من يتقدم لي.

الحل
ابنتي الكريمة، شكراً لك على هذه الرحلة التي سمحتِ لي فيها بالتعرف على مشاعرك، وفي البداية دعيني أقدر صراحتك، بل وشجاعتك في التعبير البليغ عما يجول بخاطرك، ومع كل تقديري لحقك في ممارسة الحياة بكل تجاربها، ومشاعرك ورغبات النفسية والعاطفية والجنسية، وهي احتياجات فطرية شرع الخالق منظومة الزواج لتلبيتها، لتستمر الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومع كل تقديري لأحلامك كزوجة وأمّ وأن تجدي ذاتك في مملكتك الخاصة بك، تمارسين فيها كل أنواع التفاعل العائلي، لكن لله الحكمة البالغة في قضائه، فالزواج ليس مفتاح الحياة، وليس سر السعادة وليس هو النجاح، لذا فليس من المنطق أن من لم تتزوج فقد فشلت في أن تجذب رجلاً ليتزوجها، وعليها أن تقضي حياتها تعض أصابعها حسرة!
أيضاً عامل التبكير في الزواج ليس هو المؤثر في حياة زوجية تسودها المودة والرحمة، فكم من تزوجن في مقتبل العمر وقاسين أو لم تنجب، وكم من تزوجن في الأربعينيات من عمرها وتمتعن بالمودة والرحمة والذرية، وكم من أزواج أو أولاد كانوا سبب شقاء، الحياة كلها ابتلاءات سواء أكانت ابتلاءات بالعطاء أو المنع، المهم كيف نتعامل معها ونرى بها.
كيف تحكمين على من تحللت أو كسرت ضوابط الالتزام بأنها تعيش حياتها ولا تعاني؟! إنها للأسف لم تتحصن بمعية الله فقوي عليها شيطانها وزيّن لها هذا التجاوز وهانت عليها نفسها فسرعان ما تقع في محذور علاقة تتعدى حدود زمالة عمل أو التعارف من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مبررة ذلك بالتسلية أو أن أجد من يناسبني، ولكن طريق الغواية منزلق، فسرعان ما تقع في علاقة غير شرعية -أياً كانت درجة الخوض في هذا الوحل- رغم أنه من المؤكد أنها لم تنوِ بل ولم يكن لها أن تتخيل ما وقعت فيه، كانت فقط تتسلى بالحديث مع الشباب، ثم كان ما كان!
ومع تقديري لمشاعر الأهل في الاطمئنان على بناتهم بزواج صالح طيب، إلا أنه يجب عليهم أن يغمروا بناتهم بالرعاية الوجدانية -دون مبالغة- حتى وإن ضعفوا وتغلبت عليهم مشاعر الخوف من عدم التوفيق للزواج، فعليهم عدم إظهار ذلك كلية لهن، بل يجب عليهم الاطمئنان والثقة في وعد الله؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً {30}) (الكهف)، فإن كانوا قد أحسنوا في تربية بناتهم؛ فقد ثبت بفضل الله الأجر، وعليهم اليقين أنه جل شأنه لن يضيعهن.. فلِمَ التوجس؟
كذلك من الخطأ الإصرار على زواج الكبرى أولاً! فمن يأتي من يتوافق معها، فليتوكلوا على الله ويزوجوها، حتى لا يوغلوا صدر الصغرى على الكبرى لأنها بعدم زواجها تقف حجر عثرة في زواجها.

أهم قرار
كما أود أن أنوه لنقطة مهمة جداً، وهي أن قرار الزواج هو أهم قرار يتخذه الإنسان في حياته، لذا يجب أن يأخذ العناية الكاملة، حتى لا نندم عليه، سواء بالتحسر على من كان مناسباً ورفضاه، أو بقبول من لا يتناسب معنا وعشنا مأساة الزواج الفاشل.
لقد أجبت في ثلاثة موضوعات سابقة بعنوان “كيف أختار شريك حياتي؟”، لكنني هنا سأركز على نقطة جوهرية تضيّع كثيراً من الفرص، وهي المبالغة في صفات من نقبله كزوج لنا؛ يجب أن تكون وظيفته.. ومن قبيلة أو عائلة لها مكانتها.. ومالياً.. وبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم عناصر الزوج الصالح: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه...”، “أقلهن مهوراً أكثرهن بركة”، لذا يجب ألا تقف الماديات عقبة ما دام الشاب نحسبه على دين وخلق وهناك كفاءة اجتماعية، ويمكنه الحد الأدنى للإنفاق على بيت الزوجية.
كذلك لا حرج بل أرى أنه يجب على الأهل أن يساعدوا مادياً إن أمكنهم ذلك، وطبعاً أولوية المساعدة على أهل الشاب ثم أهل الفتاة، أيضاً للأسف أجد بعض الفتيات يرفضن شاباً مناسباً؛ لأن دخله أقل من دخلها! متعللة في ذلك أنه لم يتقدم لذاتها بل لمالها، طبعاً النوايا لا يعلمها إلا الله، وبصفة عامة في معظم المجتمعات الإسلامية لا يستطيع شاب في أوائل العشرينيات من عمره أن يتحمل أعباء الزواج، لذا يمتد به العمر إلى الثلاثينيات حتى يفكر في الزواج، وما يترتب على ذلك من آثام أو سلبيات، أقلها صعوبة التأقلم.
لذا فإنني كثيراً ما أنصح أنه إذا ما كان الشاب مناسباً عفيف النفس غير طامع، فلا حرج بل يجب دعمه إن أمكن ذلك.
أما عن قرارك -يا ابنتي- قبول أول من يتقدم لك؛ فعليك أن تعلمي أن قرار الزواج ليس كقرار قبول وظيفة ما، إذا لم يتوافق معك استقلتِ، إنها تجربة حياتية تؤثر في النفس تأثيراً عميقاً، إنك تتحدثين وكأن الزواج ثوب أحاول ارتداءه، وإن لم يتوافق معي خلعته! إن قرارك بتقبل أول من يتقدم لك، حتى تخوضي التجربة، هذا ليس قراراً بالزواج، ولكنه قرار بالانتحار النفسي!
ومن قال: إنه يمكن الطلاق وينتهي الأمر؟ للأسف هناك دعاوى طلاق منذ سنين وما ينتج عنها من قضايا فرعية -حضانة ونفقة ونشوز وطاعة.. إلخ- كأنه سرك يتبارى فيه المحامون بآلام الزوجين، ناهيك عما قد يخلفه من أبناء ومسؤولياتنا تجاههم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول»، فما بالنا بمن ضيع نفسه قبل أن يضيع من يعول؟
إن كان من حق الزوجة -إن لم تحسن اختيار الزوج- أن تخلع زوجها، أو تطلب الطلاق للضرر، فهل من حق أبنائها أن يخلعوا أباهم السيئ الذي اختارته لهم؟ لقد جنت على أبنائها حينما ضيعتهم بقبول الزوج الذي لا يغلب عليه جانب الصلاح بدعوى إن لم تتوافق معه فالانفصال وحصولها على لقب مطلقة أفضل من لقب عانس، يأمرنا الله بالإحسان؛ (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {195}) (البقرة)، والإحسان هو بذل الجهد للوصول إلى أعلى درجات الإتقان في كل عمل نقوم به؛ فما بالنا بأهم قرار وهو الزواج؟

وكما ورد في الحديث: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة»، ونعمة الزوج الصالح للمؤمنة، تفضل نعمة الزوجة الصالحة للمؤمن؛ لأن للمؤمن حق التعدد، أما المؤمنة فهي محبوسة على زوجها أو الطلاق، فكيف تهون عليك نفسك، وتقبلين أن تتزوجي بأول من يتقدم إليك وتضيعين حسن الاختيار؛ حتى يكون الزوج نعمة؟! لذا فعليك:
أولاً: بالدعاء؛ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر).
ثانياً: الرضا واليقين أن ما قدّره الله هو الخير، فإن الله هو العليم، أعلم بك من نفسك قبل أن تكوني في أصلاب آبائك، ويعلم ما يصلح لك وهو الحكيم في قضائه وقدره، وهو الرحمن الرحيم فهو أرحم بك من أمك، وهو القادر سبحانه وتعالى على أن يحقق كل ما تحلمين، وهو الحكيم في قضائه وقدره، كل شيء عنده بمقدار.
ثالثاً: الأمل.. للأسف بعض الصديقات لهن تأثير سلبي، لا يعشن إلا مع القصص الفاشلة، ويجتررن مآسي الآخرين كنتائج حتمية، فأحيي الأمل بحسن الظن بالله (فلانة تزوجت في 46، ومنّ الله عليها بأربعة أولاد). 
رابعاً: العناية بذاتك روحاً وعقلاً ووجداناً وبدناً، وإشغال نفسك بالتخصص المهني المناسب لوظيفتك للترقي وزيادة العلم، وإعداد نفسك لعمل طيب يتناسب وقدراتك والمشاركة في الحياة الاجتماعية مثل: الالتحاق بجمعيات النفع العام بحيث تكونين قيمة مضافة لمجتمعك (جمعيات رعاية الأيتام، كبار السن، تعليم الأميين...)، والمشاركة الإيجابية في شبكات التواصل الاجتماعي، والالتحاق بإحدى المجموعات الاجتماعية، أو العلمية أو الدعوية، وممارسة الرياضة مع صديقاتك، أو الالتحاق بالدراسات المسائية الدينية، أو الثقافية، أو اللغات، أو الفنون، حفظ القرآن الكريم.. إلخ، بحيث تجدين نفسك قيمة مضافة في المجالات التي وهبك الله طاقة إبداعية متميزة بها.
إن من الخطأ انتظار الفتاة لفارس الأحلام، وكأن المستقبل معقود عليه، يجب أن تكون ثقتك بذاتك نابعة من نفسك من داخلك، مع أطيب دعواتي لك ولكل فتاة مسلمة، وفتى مسلم، أن يوفق كل منهم إلى زواج صالح طيب مبارك يكون عوناً له لمرضاة الله، والله ولي التوفيق.


المصدر: مجلة المجتمع.
أ. د يحيى عثمان

التعليقات (0)

اترك تعليق