مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مشاهدات (طاهرة)

مشاهدات (طاهرة)

مشاهدات (طاهرة):
الشكر والثناء لله عز وجل أن وفقني للقيام بمهام البيت رقم 1 و2 بأحسن وجه ممكن(1)، فمن خلال قربي وحضوري في بيت الإمام، شهدت مواقف وسلوكيات مثالية للإمام الخميني قصدت المشاهدة أم لم أقصد، تصرفات وأساليب وأحاديث تثير في الإنسان الدهشة والتعجّب، ابتداءاً من تناول الطعام والنوم، إلى العبادة والسياسة، وقد تميزت هذه كلها بنظم ودقة خاصة في الوقت، واتباع برنامج معين ومحدد خاص بالإمام فقط، فالنظم والبرمجة يعدّان جزءاً لا ينفصل من حياة هذا الرجل العظيم في التاريخ، فلا يمكن أن يسأل عن مكانه مثلاً فتقول ذهب لتجديد الوضوء، فلوضوئه وقت وزمان معين، أما الذين كانوا معه وفي بيته فهم يعرفون ذلك عنه تماماً.
قدم خمسة أشخاص من (أمريكا) لرؤية الإمام الخميني، والذي يبدو أنهم جاءوا لتقييم الحياة الخاصة للإمام، فطلبوا مني أن أجري معهم مقابلة عن ذلك، وأثناء اللقاء، اقترب وقت تجديد الإمام لوضوئه، فكان على أن أذهب لأتأكد من نظافة المغاسل، لذا قلت للسادة: بما أن هذه المهمة مناطة بي، فعلى أن أذهب، فقالوا: "هل يمكن لإنسان أن يكون قادراً على استذكار قضاياه الخاصة كما في استذكار وقت وضوئه مثلاً؟" قلت: "نعم، أنتم لا تعرفون الإمام"، ولكي أثبت لكم صحة كلامي، سأترك لكم نافذة المطبخ مفتوحة، وشاهدوا منها الإمام أنه بعد دقائق سيذهب إلى دورة المياه، فزاولت عملي، جاء هؤلاء إلى الساحة وأخذوا ينظرون من نافذة المطبخ، فشاهدوا الإمام في الدقيقة التي حددتها لهم، أنه عاد ليجدد الوضوء، وبعد إنهاء العمل، عدت لأكمل المقابلة والحوار معهم، وقد أثار استغرابي أنني لم أجدهم في غرفة المقابلة، فسألت الإخوة: أين ذهب هؤلاء السادة الأميركون؟ قالوا: لقد فهموا كل ما طلبوه، وهاهم مشغولون بجمع حقائبهم وأمتعتهم للعودة.
كان الإمام الخميني يتناول طعام العشاء في الساعة التاسعة ليلاً في إحدى الليالي، قرّر الإخوة في بيت الإمام أن يشاهدوا فيلماً عبارة عن محاضرة للشهيد مفتح ألقاها في مسجد (قبا)، وكذلك مسيرات جماهيرية، فكانت ساعة عرض هذا الفيلم تتضارب مع ساعة تناول الإمام لطعام العشاء، وقد أحببت مشاهدة هذا الفيلم، حضرت عند الإمام الخميني وسألته: "هل آتي لكم سيدي بالعشاء؟" فنظر إلى الساعة، وقال: "لا، بقيت عشر دقائق"(2).
وهناك موارد كثيرة جداً من هذا القبيل.
فالإمام مثلاً يذهب إلى النوم عادةً في الساعة 11 ليلاً، ويستيقظ في الساعة 3 قبل الفجر، فيبدأ بترتيل القرآن والتضرع والدعاء والصلاة، غرفته مطلّة على رواق البيت، وبما أنّ مهمة المحافظة على داخل البيت قد أوكلت لي، فكنت حينذاك أنام خلف باب تلك الغرفة، لأطمئن أن الإمام لا يُصاب بمكروه، باستيقاظ الإمام، كنت أسمع صوت تحريك الأوراق أو صوت صلاته ومناجاته، ولا أتذكر ولو مرّة واحدة أن وقت استيقاظ الإمام تغير، كأن يبقى مستغرقاً في نومه، ويستيقظ بعد خمسة عشر دقيقة مثلاً، بل كان يستيقظ يومياً الساعة 3 صباحاً بالضبط.
كان الإمام يصلي صلاة الفجر، ثم يتناول وجبة الفطور، ثم يرتل شيئاً من القرآن، وبعدها يبدأ موعد الزيارات واللقاءات، فيستمر إلى الساعة 11 صباحاً، ويتخللها من الساعة التاسعة إلى التاسعة والثلث، المشي قليلاً في شرفة البيت، وفي الساعة 11 صباحاً يذهب لمدة عشر أو خمسة عشر دقيقة إلى الغرفة التي خلف غرفة اللقاءات والزيارات، وهي مخصصة له وحده، فآتيه بالشاي وبعض الفواكه أحياناً، والمثير للاهتمام أن الإمام الخميني في هذه الدقائق التي يتناول فيها الشاي والفاكهة يقول: "ادعِ السيدة [زوجته] أن تأتي أيضاً"، ولعله لا يريد أن يقضّي وقته المخصص له بدونها. بعد الاستراحة القصيرة، يعود ثانية إلى غرفة الاستقبال والزيارات، وعند اقتراب وقت الظهر، يجدد وضوءه، ويبدأ صلاته في الساحة الخارجية في المكان الذي نصبت فيه خيمة، وقد يحاضر بعد الصلاة، ثم يذهب لتناول وجبة الغذاء، كان الغداء في أغلب الأوقات مرق اللحم وأما في الليل، فيتعشى عشاءً خفيفاً، كالخبز والخضروات والجبن والجوز.
يتسريح الإمام على عادته بعد تناوله طعام الغداء، ومن ثم له برامج مختلفة كمطالعة الكتب، الصحف، والأخبار المترجمة، و....كان الإمام الخميني مهتماً جداً بسماع الأخبار الداخلية والخارجية، ومتابعاً للأحداث والوقائع، حتى لا يبقى بعيداً عنها(3).
الإمام الخميني ومع كل الدّقة والنظم الذي تميز به وكثرة البرامج والزيارات إلى البيت 1و2 في (نوفل لوشاتو)، كان يُراعي حال الآخرين أيضاً، سواء من كان منهم في البيت، أو من جاء منهم من الخارج، أو من كان جاراً له، عندما عرف أهالي منطقة (نوفل لوشاتو) أنه يهتم بشؤونهم وأحوالهم، أخذوا يبدون له جُلّ احترامهم، وأحياناً يقفون لمشاهدة برامج الصلاة والدعاء والمحاضرات.
لقد كانوا راضين عن الإمام غاية الرضا، معتقدين أنه مصدر البركة واستقطاب الشهرة لقريتهم، فتعلقوا بالإمام غاية التعلّق إلى درجة أنه عندما أراد مغادرة المكان، جاءوا جميعاً لتوديعه، وكانوا غير مرتاحين وغير راضين لهذا الفراق.
وصل في يوم ما عدد من الضيوف من أقارب الإمام، وباتوا هناك، وبما أن الغرف كانت محدودة، نمت أنا في المطبخ، فعندما رآني الإمام في الصباح نائمة، قال: "كنت البارحة قلقاً عليك، أن تصابي بالبرد"، هذا مع أنني لم أكن جزءاً من عائلته، بل أشتغل تبرعاً كخادمة في بيته، فذكرني هذا التصرف منه بقول النبي(ص) في حق سلمان: "سلمان منا أهل البيت" معتقداً أن سلمان جزء منه ومن أهل بيته.
لقد كنت بسبب تعامل الإمام هذا أشعر دائماً أنني واحدة من أسرته وأهل بيته، فكان الإمام يخاطبني دائماً "أختي طاهرة"، ويوكل لي الوظائف والمهام، فكنت أشعر أن له عناية خاصة بي من خلال أقواله وأفعاله.
أصبح الطقس بارداً جداً في (نوفل لوشاتو) ولم تكن لي ثياب مناسبة تقيني من برودة الهواء، فنقلت لي زوجة الإمام عنه أنه قال: "الأخت طاهرة لا ترتدي ثياباً تدفئ بها نفسها؟ يبدو أنها تحاول وبأي وسيلة أن تلفّ نفسها بصعوبة من البرد"، قلت: كلا، بقيت ثيابي في سوريا، فأعطاني الإمام بعض (الفرانكات) في اليوم التالي وقال: "اشتري لك ثياباً شتوية"، ذهبت فاشتريت لي (جبة نسائية) ويعلم الله أنني كنت أفكر ساعات وأيام بالتفات وتوجه الإمام لهذا المسائل والمشاغل التي حوله، وهذه الدقّة والظرافة التي يتمتع بها في كافة الجوانب فهي مستوحاة تماماً من أفعال وسلوكيات الأئمة المعصومين(ع).
بقي معنا في أحد الأيام عدد كبير من الأشخاص لتناول وجبة الغداء، فامتلأ المطبخ بعدد كبير من الصحون والأطباق، كنت مشغولة بغسلها جميعاً، دخل الإمام إلى المطبخ، وقال: "ستتعبين هكذا، أنتِ نظفي هذه فقط واتركيها، أنا سآتي بنفسي وأرفع عنها الرغوة وأغسلها"، لم أقبل طبعاً هذا المقترح منه، لكنني أدركت دقة وعمق اهتمام الإمام الخميني، إذ لم يكن أيّ موضوع خافياً عن أنظاره أبداً.
كنت جالسة في أحد الأيام إلى جنب سجادة الصلاة، أفكر في ما كان وما يكون، وإذا بي أسمع صوت فنجان الشاي وصحنه قد علا من داخل المطبخ، لأتفقد ذلك بسرعة، فرأيت الإمام الخميني يصبّ لنفسه الشاي، ثم وضعه في صينية، وهو يريد أخذه إلى الغرفة، قلت له: "سيدي، ماذا تفعل هنا؟" فقال: "أردتُ مساعدة السيّدة"، فأخذت من يده الصينية وذهبت بها إلى الغرفة.
كان الإمام من الساعة 9 إلى 20/9 يسير في شرفة البيت كل يوم، ومع أنه في الجهة الأخرى يقع مخفراً للشرطة المحلية، إلا أن ذلك لم يزل قلقي على الإمام وحياته، ولهذا سعيت أن أقف في أسفل الشرفة، بنحو لا يلفت نظره، وأراقب الأوضاع، لكن الإمام رأى ظلّي في إحدى المراّت، وعر عملي ومبرراته، فخاطبني قائلاً: "الأخت طاهرة"، أنا لا أرضى لك بهذا التعب والإرهاق، فالشرطة موجودة، وهذا يكفي، وما قدره الله تعالى صائر، قلت: "إنّ قلبي لا يطيق ذلك، فأنا لا أطمئن للشرطة، ينبغي أن أكون أنا التي أحرسك ليهدأ خاطري".



______________ 
1- وضعت ثلاث بيوت تحت تصرف الإمام الخميني في باريس، فالبيت رقم 1، الذي كان صغيرا جداً، كان يعيش فيه سماحته وزوجته والحاج أحمد ابنه، والسيّد إشراقي صهره وابنته وزوجة ابنه واثنين من أحفاده. أما البيت رقم2، الذي يقع وجهاً لوجه مع البيت رقم1، فهو خاص باجتماعات الطلاب الجامعيين الإيرانيين، وكان سماحته يؤم المصلين في هذا البيت. وأما البيت رقم3، فهو مخصص لاستراحة ونوم الطلاب الجامعيين، وسائر أتباع خط الإمام الخميني، إذ إن كل طالب جامعي، أو كل شخص يقدم إلى باريس لزيارة الإمام الخميني، كان له الحق أن يبقى ثمان وأربعين ساعة في هذا البيت، وأما البيت رقم3، فهو مخصص لاستراحة ونوم الطلاب الجامعيين، وسائر أتباع خط الإمام الخميني، إذ إن كل طالب جامعي، أو كل شخص يقدم إلى باريس لزيارة الإمام الخميني، كان له الحق أن يبقي ثمان وأربعين ساعة في هذا البيت، وتوزع في هذا البيت ثلاث وجبات من الطعام الفطور والغداء والعشاء وكذلك الفواكه، كان البيت رقم3 في مدينة باريس. (تقرير رسول صدر العاملي، من إقامة الإمام في فرنسا وحتى طهران، إطلاعات، العدد: 15775، 3/11/1979م).
2- كافة بيانات ومحاضرات وأقوال الإمام الخميني تم ذكرها هنا بالمضمون.
3- البرنامج اليومي من حياة الإمام الخميني أثناء إقامته في باريس كان كالتالي: نومه واستراحته من أربع ساعات إلى ست ساعات، ويتابع عمله في بقية الساعات، كان الإمام الخميني بعد إقامة صلاة الصبح يبدأ بتلاوة القرآن، ومن ثم مطالعة الأخبار والتقارير، وتستمر مطالعاته عادةً حتى الساعة الثامنة صباحاً، وفي الأثناء يجيب على كافة الرسائل والأسئلة التي تأتيه من كافة أنحاء العالم وبلغات مختلفة، [...] في الساعة 8 صباحاً يستقبل كل من حضر لزيارته ، ويستمر هذا البرنامج إلى حوالي الظهر، وتسلّم في هذا الوقت بيانات أو رسائل تصدر من سماحته إلى المراسلين، أو ترسل إلى المراكز المختصة، ويأتي الإمام إلى البيت رقم 2 في الوقت المقترن للظهر لأداء صلاة الجماعة، وبعد أداء فرض الصلاة يعود إلى بيته، وبعد تناول الغداء يستريح حدود ساعتين، ومن ثم يعود لممارسة عمله إلى الساعة 5/30 من بعد الظهر، إذ يحين وقت صلاة المغرب والعشاء، وبعد إقامة الصلاة، يستمر في عمله إلى منتصف الليل، وكما ذكر المقربون له: يذهب إلى النوم بعد الساعة الواحدة ليلاً. (تقرير رسول صدر العاملي، من إقامة الإمام الخميني في فرنسا إلى طهران، صحيفة اطلاعات، ش15775، 2/2/1997م).

المصدر: 23عاماً..وسط الطوفان (مذكرات المناضلة الإيرنية الحاجة مرضية (دباغ)، إعداد وتقديم: السيد محسن الكاظمي، ترجمة ونشر: دار الولاية للثقافة والإعلام، الطبعة الأولى، 2015م

التعليقات (0)

اترك تعليق