مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أصعب أيام العمر

أصعب أيام العمر:
 
بعد الخروج من المطار صعدنا نحن الثلاثة في سيارة، ترافقنا ثلاث سيارات أخرى، إحداها تحمل المستقبلين، وأخرى للدبلوماسيين، أما الثالثة فهي سيارة الشرطة، اجتزنا تلك الشوارع العريضة في (موسكو)، حيث ترتفع عبرها ناطحات السحاب، والعمارات الشاهقة، وهي تزجر بالطراز المعماري المدهش.
كان الناس في (موسكو) يترددون في الشوارع، وكلٌ منهم يعيش حياته اليومية، وبهذا النحو، لم يلفت عبور السيارات اهتمام أحد، شاهدت بعض النسوة العجائز وقد انحنت ظهورهن من الكبر والشيخوخة وهنّ يضعن على أعينهن نظارات ضخمة، وتحمل كل واحدة منهن (مجرفة) لها مقبض قصير، يزحن بها الثلج، كنّ يضعن الثلج داخل عربة صغيرة، فيأتي الرجال ويفرغونها داخل شاحنة، وبهذا النحو ينظفون الشوراع من الثلج.
بمشاهدة هذا المنظر، سألت المترجم: "أليس في بلدكم مسألة التقاعد؟ فلماذا تعمل هذه السيدات وهنّ بهذا العمر؟" قال: "كلا، إنه عملهن الثاني"، سألت: "ماذا تعني؟" قال: "إنهنّ بعد التقاعد، يطالبن بأعمال خفيفة، ليحصلن على ما يساعدهن، لأن أجور التقاعد لا تكفي لسد نفقات العيش اليومية". ووضّح العاملون في السفارة أيضاً: "إن لم يكن لهنّ شغل ثان، سيمُتنَ من الجوع"، كان سماعي هذه الأمور مدعاة للتعجب! حيث يحصل ذلك في بلد يبدد مليارات الدولارات من ميزانية شعبه على السباق التسليحي والتجسس، والتدخل في شؤون البلدان الأخرى، بعد أن كان المنافس بلا منازع لأمريكا في يوم ما.
انطلقت السيارات إلى مكان له أجواء ومسحة عسكرية، إذ المباني السكنية في هذا المحيط العسكري مختصة بذوي الرتب العليا من القادة العسكريين في الجيش الأحمر، أخذونا إلى إحدى البنايات للنزول والاستراحة، بناية بها ثلاث أو أربع غرف في الطابق الأول، وثلاث أو أربع غرف في الطابق الثاني. لقد أرهق الجميع السفر بالطائرة ومراسم الاستقبال الرسمية، وكنا بحاجة إلى استراحة لنجدد قوانا، استراح كلٌ منا في البداية في غرفة لوحده، واستراح أحد الإخوة والذي يعمل في السفارة وكان دليلنا ومرشدنا في غرفة لوحده ايضاً، وقد وضع على الطاولة في صالة الطابق الأول قدراً من الطعام والفاكهة، ومشروبات غازية، استفدنا من المشروبات الغازية الغير مغايرة للأحكام الإسلامية، ولكن آية الله (جوادي آملي) امتنع عن شربها أيضاً. وأخذ يشرب فقط الشاي الذي أتوا به من السفارة. ولهذا لم يكن إعداد وطهو العشاء بأيدينا، فكنا نعاني في هذا المجال من مشكلة، وكذلك لا يليق بالعاملين في السفارة أن يقدموا على الإتيان بالعشاء، لذا اضطر مسوؤل التشريفات الرسمية في السفارة أن يطلع تشريفات المستضيف أننا اعتدنا على أن كل وفد يأتي من إيران أن يكون برنامج الزيارة والضيافة في السفارة، ولهذا أخذونا إلى السفارة بهذه الذريعة، وحللنا ضيوفاً لتناول طعام العشاء في السفارة.
لم يكن مشاهدة موظفي وكادر السفارة في قلب إمبراطورية الشرق خالياً من الظرافة، ولهذا السبب، تعرّفت على زوجات الموظفين والدبلوماسيين في السفارة، إنهم يعيشون في أجواء صعبة حقيقة، فهم لا يخرجون من السفارة أبداً، بسبب الظروف المسيطرة، ومن باب الصدفة شاهدت إحدى طالباتي سابقاً، كانت مع زوجها ما يقرب من عامين في (موسكو).
على كل حال، تناول عشاءنا في السفارة رغم ضيق الوقت، بعدها عدنا إلى المحل إقامتنا في العمارة لنتبادل الآراء ووجهات النظر، حول اللقاء المهم الذي كنا في انتظاره والذي سيعقد في يوم غد.
لعلّ أصعب ليلة في حياتي هي الليلة التي قضيناها في العمارة والمبنى الوقع في منطقة عسكرية، ولم نكن نعلم لهذه اللحظة شيئاً عن محتوى ومفاد رسالة الإمام (الخميني)، وفي تلك الليلة الصعبة، قال لنا الشيخ (جواد آملي): "من اللازم والضروري أن نطلّع على رسالة الإمام، حتى لا يبىقى تساؤلاً في أذهاننا هذا أولاً. وثانياً: أن نعد أنفسنا للإجابة على الأسئلة الاحتمالية لــ(غورباتــشوف) وذوي الرتب العليا والمسؤولين الروس"، كنت أنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، فطلبت منه أن يسلّمني الرسالة، لأطالعها وحدي وبتركيز أكثر، وبهذا النحو أخذت  الرسالة ودخلت الغرفة، قرأت الرسالة، ودونّت بعض النقاط منها، وأعدتها ثانياً إلى السيد (جوادي آملي)، سألت عن اتجاه القبلة فأشاروا إليها.
كان لتلك الليلة وضعاً عجيباً ومخيفاً قد خيّم عليّ أنا بالذات، ولم يكن هذا الخوف طبعاً ناجماً عن الرعب والقلق، بل كنت خائفة من أننا مراقبون علماً بأنني كنت المرأة الوحيدة في الوفد، ولهذا كنت في غاية الاحتياط والحذر في سلوكي وعملي كافة، ومراقبة لنفسي، فكنت إذا أردت أن أذهب إلى المرافق الصحية لأتوضأ، لا أرفع العباءة والمقنعة من على رأسي، وحتى أثناء النوم، كنت أعقد مقنعتي على رأسي بقوة ثم أنام، بل كنتُ أُخرج يدي من مِرفَق العباءة وأضعها أمام وجهي، حتى لا تُلتقط لي صور أو فيلم أثناء النوم. مع أنني أخذت في تلك الليلة أبحث وأفتش في كل زوايا الغرفة وفي داخل الجرارات، فلم أعثر على ميكروفون أو كاميرا، ولكن مع ذلك، لم يهدأ لي بال، وكان نفس هذا الشعور يراود الإخوة معي أيضاً، بنحو أننا كُلّما أردنا أن نتكلّم معاً ونتشاور، كنا نُشغّل جهازي المذياع الموجودين في الغرفة لنغطي على كلامنا، ونتكلم بصوت خافت جداً، وبالقرب من بعضنا.
 
 
 
 
المصدر: 23عاماً.. وسط الطوفان (مذكرات المناضلة الإيرنية الحاجة مرضية (دباغ)، إعداد وتقديم: السيد محسن الكاظمي، ترجمة ونشر: دار الولاية للثقافة والإعلام، الطبعة الأولى، 2015م

التعليقات (0)

اترك تعليق