إذا كان الإنسان موجوداً مترامي الأطراف، مُتشعِّب الوجود، عظيم الغايات، رغم جسمه الصغير بين عالم الممكنات.. فإنّ الجزء الأنثوي* في وجوده هو جزءه الغاطس في الغيب، الممتد نحو الميتافيزيقيا، المتصل بعالم اللاّهوت، المتوشِّح للحجاب والعزّ والجبروت.. إلا أنّ هذا الجزء – رغم خفائه– كان الأكثر تأثيراً وظهوراً في الحياة الإنسانية، وربّما ربط الكثير من الباحثين معظم السلوك البشري به، فكان الحاضر الغائب الذي يجرى في الإنسان مجرى الدم في عروقه...
إنّ كثيراً ممّن درسوا أبعاد دور المرأة في الحياة الإنسانية، ركّزوا على أدوارها كزوجة وأُم، ولا شك أنّ لهذه الأدوار أهميّة وقدسيّة خاصّة، إلا أنّ الواقع يدلّنا على أنّ للمرأة أداءً سحرياً وحسّاساً ومتميزاً.. والمرأة، أيّاً كانت المرحلة التي تعيشها في حياتها، فهي تتأثر وتؤثر في حياة الآخرين ما لم يؤثر فيهم مخلوق عادي آخر، وهذا التأثير يبرز من مجارٍ متعددة، وسنحاول فيما يأتي أن نستشرف بعضاً من عطاءات المرأة ونتأمل شيئاً مما يظهر من أدوارها الكبيرة، ومن أهمّها:
1 ـ المرأة: الوطن، الأُنس والسَّكَن
المرأة للإنسان** مثل الأرض، الوطن، المنبت والمرجع، وهي في نفس الوقت تعطي له الأمن، الحبّ، والرّحمة والاستقرار، لذا "لا يُلام المرء على حب أُمّه" (1)، كما لا يُلام المرء على حبّ وطنه.
المرأة، بأي لباس كانت، أي دور لعبت، كانت وما زالت مأوى الإنسان ومستقرّه، فإذا ما خرج الرجل يكافح ويجاهد في ميادين الحياة المختلفة، يواجه صعوباتها ويخوض جولات معاركها.. إذا ما خرج الرجل ليكون بطلاً فإنّ المرأة هي عروس أحلامه التي لا تفارق صورتها عينيه ولا تغيب بحال عن ذهنه.. وهو يكدّ ويعمل ويقاتل ويناضل لكي يرجع إليها ويهديها جوائز جولاته وهدايا صولاته وليجد عندها حلاوة الأمن بعد الخوف، ولذّة الفراغ بعد النصب.
لذا كانت المرأة الأمل للإنسان، كما كانت تشكل: أمّاً وزوجة وبنتاً، الدوافع المحفزة للكفاح والعمل لديه.
المرأة في حياة الإنسان: منطلق وأُم(2)، وزينة، وريحانة(3)، وأُنس، ومتعة، وكما تدور الكواكب حول الشمس منجذبة إليها ومشدودة بها، كذا الإنسان دار حول المرأة، وأينما كانت، كانت عشّه، وأينما حلّت كانت سكنه، وهي أوّلاً وأخيراً عشقه الدائم وحبّه الذي لا تُطفأ ناره، ولذا كانت المرأة دفء الحياة، كما كانت "عطر الوجود"(4).. وهكذا أرادها الله أن تكون دوحة خضراء مزهرة في صحراء حياة الإنسان القاحلة.
وكما جعل الله تعالى الليل للإنسان سكناً، جعل المرأة كذلك موضع سكون الإنسان المفعم بالحبّ والخير والبركة، إذ يقول جلّ وعلا: ﴿ومِن آياتِهِ أن خَلَق لَكُم مِن أنفُسكم أزوَاجاً لِتَسكنوا إليها وجَعَل بَينَكم مودّة ورَحمَة...﴾ (الرُّوم/ 21).
وإنّما سمّيت حواء حواءً لأنّها كانت أُم كل الأحياء.. والنِّساء سمّين نساءً لأنّ المرأة (حواء) كانت أنس آدم يوم هبط إلى الأرض ولم يجد له أنساً غيرها.
إذا كانت المرأة كذلك، منبع الأنس والسكون ومصدر الاستمرار والاستقرار للوجود الإنساني، فأيّة جناية أعظم وأيّة كارثة أكثر عندما تفقد المرأة سمات نسويتها وتفتقد الحياة نكهة أنوثتها؟ وأي شيء يسدّ هذا الخلل عندما تتحوّل النِّساء إلى رجال أو أشباه رجال، وتعيش الدُّنيا جفاف الرجولة وخشونتها دون لطف أنثوي أو نسمة نسوية؟
إنّ من أكبر مشكلات الإنسان المعاصر وأكثرها خطورة هي فقدانه للاطمئنان والاستقرار في حياته، وبالتالي باتت حياة الكثيرين تبتلى بالملل والكلل وتُهدِّدها موجات القلق والاضطراب، حتى غدت تلك سمة العصر ومن أبرز ملامحه.
ورغم التطوّر العلمي الهائل وامتلاك الإنسان المعاصر لأدوات الترفيه ووسائل الراحة ما لم يملكه الإنسان في أي عصر مضى.. رغم كل ذلك فإنّ هذا الإنسان الذي سخّر الأرض وما عليها ويطمع إلى تسخير الكواكب والنجوم، لم يستطع الاحتفاظ بهدوء ذاته وسلامة نفسه، و"ماذا ينفع الانسان لو فقد نفسه وكسب العالم كلّه"؟
إنّ روح الإنسان لا تهدأ وقلبه لا يستكين ولا يطمئن إلا إذا اتجهت نحو بارئها ومبدأها، وخالقها وراعيها، ولا يمكن لأيّة عقيدة أو قضيّة أن تحلّ محلّ الإيمان بالله والحبّ له وفيه، لأن بهذا الإيمان فقط يمكن للرُّوح أن تكون أبديّة وللحبّ أن يكون خالداً..
ذلك الإيمان الذي يعطي للحياة بُعداً أبدياً وسرمدياً، يعطي الكفاح الدنيوي هدفاً لا ينفد وغاية لا تتناهى.
والنفس لا تشعر بالأنس والسكون أيضاً إلا في ظل المرأة: الأُم، الأصل، المصدر.. وهي اُمّاً سواء كانت بنتاً أو أختاً أم زوجة أم أمّاً.
ألم تكن "فاطمة أُمّ أبيها" كما في الحديث الشريف عن النبي(ص)؟
لأنّ النبي(ص) كان يرجع من كفاحه وصراعه مع أصنام زمانه وطغاة أيّامه، يرجع متعباً منهكاً متوزع الأفكار ومتشتت القوى... كان يرجع ليجد (الزهراء) البنت الصغيرة تنتظره وتستقبله لتهب له دفئاً وحبّاً.. بل قل أملاً وحياة.
2 ـ المرأة: المدرسة الأُولى في الحياة
خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، إذ هيّأ له أسباب التكامل وفرص الرُّشد، من فطرة وعقل وإحساس مرهف وقلب سليم.. ولكي يكون الإنسان إنساناً يتميّز عن سائر المخلوقات، فقد خصّه الله تعالى بالعقل وأكرمه بالعلم وسمّاه بالعاطفة والرَّحمة وحبُّ الخير والميل نحو الكمالات.
ولا يتوازن بناء شخصية الإنسان إلا بتوازن خصائصه الفردية وتعادل واستواء نمو ذاته، لكي لا يطغى جانب على جانب، ولا يميل إلى جهة دون أخرى، إذ الحياة، كما تتطلب من الإنسان حكمة ترشده وعقلاً يهديه إلى انتخاب الطريق الأفضل والرأي الأصوب، كذلك تحتاج إلى المشاعر الإنسانية والعواطف الصادقة التي تُحرِّكه نحو الحق وتحفّزه باتجاه الخير وتبعده عن كل قبيح من القول أو سيِّئ من الفعل.
وشاء الله تعالى أن تكون المرأة "الأُم" مصنع الإنسان ومدرسة الرَّحمن، تتدفّق فيها عاطفة الأمومة لتملأها دفئاً وحبّاً، وتزيدها تضحية وعطاءً من أجل جنينها ووليدها.. تحبّه وتضمّه إلى صدرها، وتغذّيه من لبنها وروحها، وترعاه وتحرسه حتى يشبّ الطفل ويصبح قادراً على أن يشقّ طريقه في الحياة ويواصل دربه فيها بنجاح.
وشاءت حكمة الباري تعالى أن تكون الأم المُعلِّمة الأولى للإنسان: بنظراتها وهمساتها ودقات قلبها ولمسات أناملها وخطراتها وخطواتها، ومن ثمّ ترانيمها وحكاياتها، فالأمّ بالنسبة إلى الطفل: العالم كلّه، البيت، السكون، والحياة.
إلا أنّ التعاليم قد يعوّضها التعليم في المدارس، والمعلومات قد توفّرها وسائل الإعلام، والكلمات قد يتعلّمها الطفل من الشارع، سوى أنّ رشحات الحبّ والرَّحمة، وزفّات المودّة والرأفة لن يكون لها بديلاً للوليد عن أُمّه، فهي التي تغذّيه الحبّ مع اللّبن، وهي التي تصبّ في روحه جوهر الإنسانية المصاغة من الرِّحمة الإلهيّة.
فالأُمّ للإنسان معبد العشق للعاشق الولهان، الذي يتلّوى في محرابه ليتهجى حروف الهيام في العشق الإلهي الذي لا بداية ولا نهاية له..
إنّه يرتّل في هذا المعبد آيات الحبّ ويتمرّس فيه على طقوس المودّة ليخرج إلى الحياة يتعامل فيها مع كل ما في الوجود بوجد وشوق ولطف ورأفة.
المرأة إذن ملاك الرَّحمن ومظهر أسماء المودّة والحنان، أعدّها الرب لتكون وسيلة نجاته للإنسان ونهر بركاته لحياة هذا الخليفة المنتخب لولاية الأكوان.
ترى مَن ذا الذي يسدّ فراغ المرأة إذا غابت عن حياة الإنسان، وأي مجتمع سيكون لو غيّب الدور الأنثوى للمرأة؟
إنّ العالم حين يفقد المرأة من البيت، أو حين تغتال الأنوثة فيها، حين تفتقد الرَّّحمة والمودّة، أو تكتسب الشدّة والقسوة.. إنّ العالم في كل هذه الأحيان سيواجه أجيالاً من البشر الممسوخين روحياً، المتوحشين الفاقدين لأنسنتهم البشرية، العدوانيين في تصرُّفاتهم الهمجية، وسيواجه العالم مزيداً من الإرهاب ومزيداً من العنف ومزيداً من الحروب المدمرة والجرائم اليومية المتنامية.
لذا أيّة كارثة ستكون حين يفقد المجتمع المرأة، وأيّة جناية بحق الإنسان (ذكراً وأنثى) ستحل حين تفقد المرأة أنوثتها؟ أنوثتها الواهبة للحياة لونها الأزرق والأخضر؟
الهوامش:
1- قول مأثور.
2- أُمّ الشيء: أصله.
3- "المرأة ريحانة وليست قهرمانة" حديث مأثور.
4- قول مأثور للسيد المسيح.
*: على حسب علم النفس التحليلي، فإن للرجل جانب أنثوي وجانب ذكوري (مهيمن)، وللمرأة جانب ذكوري وجانب أنثوي (مهيمن).
**: استخدم الكاتب كلمة "إنسان" وليس "رجل" للإشارة إلى أن المرأة تعتبر السكن، الوطن... للمرأة والرجل على السواء.
اترك تعليق