مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

قوا أنفسكم وأهليكم النار

قوا أنفسكم وأهليكم النار: تعليم وتربية العائلة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» (التحريم:6)

تخاطب الآية جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والأسرة بشكل عام، فهي تقول أولا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»، وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كل رذيلة ونقص.
ومن الواضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة على جميع الناس ولا تخص بعضا دون آخر. غير أن مسؤولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه أكد من غيرها وأشد إلزاما، كما يتجلى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثهم على اكتساب الخيرات، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم. وبما أن المجتمع عبارة عن عدد معين من وحدات صغيرة تدعى "العائلة" فإن الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر. وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهمية خاصة في العصر الراهن، حيث تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثر بها والانجراف مع تيارها.
وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الأولى لبناء العائلة، أي منذ أول مقدمات الزواج، ثم مع أول لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقة حتى النهاية. وبعبارة أخرى: إن حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل، بل الأهم تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة.
جاء في الحديث أن أحد الصحابة سأل النبي بعد نزول الآية السابقة: كيف أقي أهلي ونفسي من نار جهنم، فأجابه (ص): "تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهاهم الله، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك"(1). وفي حديث آخر جامع ولطيف عن الرسول (ص) أنه قال: "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(2). ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير هذه الآية قال فيه: "علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم"(3).
والتعبير ب‍ "قوا " إشارة إلى أن ترك الأطفال والزوجات دون أية متابعة أو إرشاد سيؤدي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتحذروهم من ذلك. فنار الآخرة ليست هي النار الوحيدة التي يكون مصدرها الإنسان نفسه ومن داخله، بل نار الدنيا هي الأخرى تستمد وجودها من هذا الإنسان، لهذا يجب على كل إنسان أن يقي نفسه وعائلته من هذه النار.
وبناء على هذا فإن نار جهنم ليست كنيران هذا العالم، لأنها تشتعل من داخل البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس فقط صور الكبريت التي أشار إليها بعض المفسرين، فإن لفظ الآية مطلق يشمل جميع أنواع الصخور. وقد اتضح في هذا العصر أن كل قطعة من الصخور تحتوي على مليارات المليارات من الذرات التي إذا ما تحررت الطاقة الكافية فيها فسينتج عن ذلك نار هائلة يصعب على الإنسان تصورها. وقال بعض المفسرين: إن "الحجارة" عبارة عن تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ويضيف القرآن قائلا: «عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ». وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب، ولن يؤثر البكاء والالتماس والجزع والفزع. ومن الواضح أن أصحاب الأعمال والمكلفين بتنفيذها، ينبغي أن تكون معنوياتهم وروحيتهم تنسجم مع تلك المهام المكلفين بتنفيذها.
ولهذا يجب أن يتصف مسؤولوا العذاب والمشرفون عليه بالغلظة والخشونة، لأن جهنم ليست مكانا للرحمة والشفقة، وإنما هي مكان الغضب الإلهي ومحل النقمة والسخط الإلهيين. ولكن هذه الغلظة والخشونة لا تخرج هؤلاء عن حد العدالة والأوامر الإلهية. إنما: يفعلون ما يؤمرون دون أية زيادة أو نقصان.
لقد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين، ليكون واضحا أن عدم الالتزام بأوامر الله، وعدم الاهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفار يوم القيامة. والتعبير ب‍ إنما تجزون ما كنتم تعملون يؤيد هذه الحقيقة مرة أخرى، وهي أن جزاء المؤمنين يوم القيامة إنما هو أعمالهم نفسها التي تظهر أمامهم وترافقهم. ومما يؤيد ذلك أيضا التعبير الذي ورد في الآية السابقة الذي يقول إن نار جهنم: وقودها الناس والحجارة.*



الهوامش:

1- نور الثقلين، ج 5، ص 372.
2- ( مجموعة ورام )، ج 1، ص 6.
3- ( الدر المنثور )، ج 6، ص 244.


المصدر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 18.

*بتصرف

التعليقات (0)

اترك تعليق