مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المرأة المسلمة نحو تأصيل لنموذج عالمي

المرأة المسلمة نحو تأصيل لنموذج عالمي: اخترت أن نفتتح مساراً جديداً في قضيّة المرأة، يكون فعلاً إسلاميّاً أصيلاً

نرجع بطرف الفكر إلى بدايات القرن العشرين، وقت بدأت تأخذ قضايا المرأة المسلمة موقعها ضمن رباعيّة مفاهيميّة هي: المرأة- الشريعة- العادات- الغرب، ففي عام 1899م نشر قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة"، وأتبعه في عام 1900م بمؤلفه "المرأة الجديدة"، وفيهما يرى أنّ الإسار الحقيقي الذي قيّد المرأة المسلمة ومنعها من الحركة والتقدّم والتحرّر هو العادات والتقاليد، إنّهما العائق الحائل دونها ودون ممارستها لحرياتها وللحقوق التي أباحتها لها الشريعة الإسلاميّة، وبرأيه إنّ كثيراً مما يُخيّل للبعض أنّه عبادة هو في الحقيقة عادة اجتماعيّة (كالحجاب مثلاً)، ويتلخص موقفه بأنّ واقع المرأة المسلمة مقصّر عن النص الشرعي.
وفي المقابل، كان رشيد رضا يرى العكس، يقول في كتابه "نداء للجنس اللطيف": "إنّ النساء المسلمات بدأن يتجاوزن الشريعة وأحكامها تحت وطأة السطوة الغربيّة والعادات الغربيّة، ويتلخص موقفه بأنّ المرأة المسلمة أخذت أكثر من حقوقها الشرعيّة".
وهكذا كانت مسألة حقوق المرأة –أو بالأحرى تحرير المرأة- في مطالع القرن العشرين موضوعاً نزاعيّاً بين تيارين: تيار يرى أنّ الشريعة أعطت المرأة المسلمة حقوقاّ سلبتها إيّاها التقاليد والعادات –وأحياناً الرجل(1)- ومنعتها من ممارستها. وتيار يرى أنّ المرأة المسلمة بدأت تخرج عن أحكام الشريعة الإسلاميّة باتخاذها تجربة المرأة الغربيّة مرجعاً ونموذجاً، وأحياناً بدعم من الحكومات والمنظّمات الغربيّة.
وطوال خمسين عاماً تقريباً، ظلّ النزاع قائماً بين هذين التيارين حول تحرير المرأة المسلمة، وظلّت الشريعة هي المرجعيّة والحَكَم، والعادات والتقاليد هما العائق الأكبر أمام مسألة التحرير، والغرب هو النموذج والمرآة، والمرأة هي قضيّة ضمن منظومة قضايا تتحدّى العقل الإصلاحي العربي والإسلامي عامة.
إلّا أنّه ابتداء من منتصف القرن العشرين، ومع تأسيس منظمة الأمم المتحدة (تضم اليوم 192 دولة)، بدأت مسألة حقوق المرأة تخرج عن حدودها الإقليميّة لتحوز الاهتمام الدولي. والأهم من ذلك، لقد بدأت تتراخى عقدة الدين وأخذت مسألة تحرير المرأة العربيّة المسلمة تستقل شيئاً فشيئاً عن الشريعة الإسلاميّة لتلحق بمسار تحرير المرأة في العالم.
 وتوالت المؤتمرات والمعاهدات والإتفاقيات الدوليّة(2) التي تنص على ضرورة تحقيق المساواة بين النساء والرجال، وتدعو الدول المشاركة إلى سنّ تشريعات وطنيّة تحقق المساواة الحقيقيّة بين الجنسين في الميادين السياسيّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة، والثقافيّة، والمدنيّة، كما تنصّ بعض هذه الإتفاقيّات الدوليّة على ضرورة القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة(3).
ومع بداية التسعينات شهدنا إرهاصات عولمة قضيّة المرأة، وطفق يظهر اختراق الخارجي للداخلي بحيث لم تعد قضيّة المرأة شأناً داخليّاً بحتاً لوطن من الأوطان، بل يمكن القول أنّها أصبحت شأناً عالميّاً ومجالاً يتم عبره اختراق الثقافة الغربيّة ومعها النموذج النسوي الغربي لغيرها من الثقافات الدوليّة.
 والدليل على هذه العولمة لقضايا المرأة "مؤتمر بكين" عام 1995م، الذي تمّ فيه وضع برنامج عمل للحكومات والدول والأفراد يهدف إلى تمكين المرأة وإدماج المنظور المتعلّق بنوع الجنس في جميع سياسات وبرامج تلك الحكومات والدول(4).
وإزاء مصادمة العولمة الثقافيّة لخصوصيّة الحضارة العربيّة الإسلاميّة ظهر تيار إسلامي مضادّ للعولمة بصيغتها الراهنة، ولمشروعها الرامي إلى تنميط العالم عبر فرض النموذج الغربي -والأميركي تحديداً- كنموذج عالمي لا منافس له(5).

نموذج اسلامي أصيل في قضية المرأة:
في هذا السياق التاريخي، وفي التحام نصل الشرق بالغرب، ومنازلة الثقافة للثقافة، ومقاومة الداخلي للخارجي، ومواجهة الإسلامي للعولمي.. اخترت أن نفتتح –نحن المسلمون- مساراً جديداً في قضيّة المرأة، يكون فعلاً إسلاميّاً أصيلاً لا ردة فعل تجاه العولمة وما تستتبع من سياقات تغريبيّة.
 وهذا المسار الجديد يطمح إلى توليد المعاصرة والراهنيّة من الأصالة والجذور، وذلك حتى لا تغترب الذات المسلمة في القرية الكونية. وفي الوقت نفسه حتى تقدّم نموذجاً إسلاميّاً عالميّاً للمرأة يُنافس إنسانيّاً النموذج الغربي المطروح.
وأقول: إنّ النموذج الإسلامي العالمي للمرأة الذي اعتزم تبيانه لا ترتفع قواعده على المبدأ المسمّى بالمساواة ومحاربة كل أشكال التمييز ضد المرأة كما هو مطروح عالميّاً، بل يقوم على مبدأ إنساني أسمى، يحترم خصوصيّة المرأة وفرادتها، كما أنّه لا يجعل الرجل مرجعاً ومقياساً في التحرير والحقوق والتقدّم. وهذا المبدأ هو الشراكة. فالمرأة في الإسلام هي شريكة الرجل في كلّ ميدان: في استنطاق النص الديني، كما في تدبّر الشأن الحياتي، الخاص والعام.
 وسوف أوضّح هذا النموذج الإسلامي للمرأة عبر فقرات أربع آتية:

1- كسر تهمة "أنّ الإسلام يعيق المرأة عن تحقيق نموذج عالمي معاصر":

 بعيداً عن النقد الإجتماعي والتصوير القائم لواقع المرأة في أوطان المسلمين، ومن فوق تصوير البعض للإسلام على أنّه دين يضطهد المرأة، ويؤسس نظاماً ذكوريّاً يحرمها من أبسط الحقوق الإنسانيّة ويجعلها خاضعة للرجل وتابعة له.. وبالرغم من أنّ فئة من المسلمين وسّعت مساحة المتغيرات في الدين وألحقتها بالثوابت.. اخترتُ أن أكون الحدقة التي تنظر إلى دوائر الضوء.
 وفي هذه الدوائر أرى أَسْوِدَة نساء مسلمات من جنسيّات مختلفة، حَصَلْن على شهادات علميّة عالية أو حصّلن ثقافة ذاتيّة قيّمة، ومنهن عديدات يشغلن مناصب وزارية ونيابيّة وإداريّة وجامعيّة في أوطان المسلمين، ومنهن من تمارس عملاً حرّاً (طبيبات- محاميّات- روائيّات- كاتبات- صاحبات محترف..) أو تملك مؤسسة كبيرة أو تديرها (سيدات أعمال)، ومنهن شاعرات وعالمات ومفكّرات وأيضاً فقيهات يمارسن حضورهن الفاعل عبر شاشات التلفزة، ومنهن من تجاوزن حدود الإقليمي إلى العالمي في مجال الإبداع الأدبي أو الإكتشاف العلمي في ميدان الطب والفلك والفيزياء والعلوم الطبيعيّة(6)، وغير ذلك.
هذه النماذج المعاصرة المشرقة، التي تتمثّل بسيدات ملتزمات بالإسلام ومصرّات على البقاء تحت مظلته، هنّ خير دليل على أنّ الإسلام لا يحظّر تقدّم المرأة علميّاً وعمليّاً، وأنّه ليس عائقاً أمام تحقيقها لنموذج عالمي ينافس الإسلام مع العلم والعمل، وعلى إمكانيّة تشكّل نماذج عالميّة مشرفة تحت مظلته.
لقد نجحت هذه النماذج المشرقة في أن تكون موجودة وفاعلة محليّاً وأحياناً عالميّاً، وهنا يأتي دور الحكومات والمنظمات غير الحكوميّة لتُحدث استناداً إلى هذه النماذج تغييراً اجتماعياً، وذلك بإبداع آليات تسمح بتعميم التجربة: كأن نمكّن بعضهن من تدريب فتيات من الجيل اللاحق وتوجيههن، أو نُوفّر مساعدات لبعضهن تسمح لهن بتوسيع قاعدتهن، أو نؤسس رابطة عبر القارات (بعدة لغات أولها العربيّة) للنساء المسلمات العالمات العاملات، الفاعلات في مجتمعاتهن، وتكون مفتوحة العضويّة لتنضم إليها كل من تتوفر فيها المواصفات وقتما تشاء. وتعمل هذه الرابطة على تعميم النموذج الإسلامي للمرأة العالميّة.


2- الفلسفة الغربيّة والفلسفة الإسلاميّة: تأسيس مفهوم "الشراكة" الإسلامي:
إنّ المطّلع على الفلسفة الغربية عموماً، وعلى النتاج الخاص بتحرير المرأة وحقوقها وعولمة قضيتها، سيجد أنّها فلسفة تبني فردية المرأة، وتُحوّلها إلى كائن قائم بذاته، خارج العائلة والمجتمع والأمّة، يتفاعل مع الآخر انطلاقاً من فرديته واحتكاماً إلى قانون المماثلة والمساواة.
وهذه الفرديّة –سواء تجلت في الذكر أم في الأنثى- تجعل المجتمع على صورة حبات رمل: تتماثل وتتساوى وتتساكن وتتجاور وتتفارق حين حدوث أي شيء يمس هذا الكيان الفردي، أو يمنع نماءه ولا يحقق مصالحه من وجهة نظر صاحبه، وفردية متشابكة بنظام قيم ماديّة لا يُثمّن التضحية والإيثار وما يشابههما من مفاهيم تقدّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، بقرار حر من هذا الواحد الفرد..
 إنّ الفردية هي أرض خصبة تنمو فيها الأنانيّة والخصومة وصراع الحقوق والمصالح، وهذا يُفسّر ما تضمّه –أحياناً- سطور خطاب تحرير المرأة من خصومه للرجل وفي بعض الأحايين للشريعة الإسلاميّة، إنّ الفرديّة تُفكّك لُحمة الإجتماع البشري، وتُؤسِّس للصراع مع الآخر في معركة الحقوق والمساواة، والتهميش والتفعيل، وغير ذلك.
وعلى العكس من هذه الفرديّة التي تنتجها الفلسفة الغربيّة، فإنّ فلسفة الإسلام عموماً، وخاصة الأصول المتعلقة بالمرأة، تنتج مفهوم الشراكة في إطار التكامل الإنساني لا التماثل المواجهاتي، يقول رسول الله (ص): "إنّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ"(7)، وهذا يعني أنّ الطرفين من نفس واحدة وشركاء في الوجود والمصير..
هكذا تجلت المرأة في الزمن الأصيل: ذات فريدة تعلوعلى الأنا والفرديّة، صاحبة العقيدة والعبادة، في الهجرة والإقامة، في السلم والحرب، في النصر والثكل.. وذلك، قبل أن تتراكم التقاليد والعادات الغريبة على الإسلام لتغيّب حضورها، وتُعطّل شراكتها، وتستثمر النصوص الدينيّة لتشييئها وتمليكها للرجل، وقهرها وظلمها، وحرمانها من حقوقها الشرعيّة والإنسانيّة، في ذاتها وفي أولادها.
ونحن المسلمين اليوم مدعوون، إلى تجذير "الشراكة" بين الرجل والمرأة، لأنّه الأساس الأصيل الذي تأسست عليه حضارة الإسلام، ومدعوون إلى النظر إلى مساحة المشاركة التي قامت بها المرأة في نُصرة الإسلام والدفاع عن أهله: فهذه السيدة أم عمارة، نسيبة بنت كعب الأنصاري (ت13هـ)، شاركت في بيعة العقبة (2ق هـ)، وفي بيعة الرضوان تحت الشجرة عام الحديبيّة "على الحرب والقتال" (6هـ)، وأوفت بما عاهدت عليه، فكانت من الذين صمدوا يوم أُحُد حين فرّ كثير من الرجال، ومن الذين دافعوا عن رسول الله (ص) بأجسادهم وسيوفهم، رآها رسول الله (ص) وهي مشمّرة، وقد ربطت ثوبها على وسطها، تقاتل دونه، رآها وهي تتلقى في كتفها الطعنة التي أراد "ابن قميئة" توجيهها إليه صلوات الله عليه.. وكانت أمّها معها تعصب لها جرحها، وقد غادرت أرض المعركة وفي جسدها ثلاثة عشر جرحاً.. كما شاركت الجهاد يوم خيبر (7هـ) ويوم حنين (8هـ)، ويوم اليمامة في حروب الردّة ضد مسيلمة الكذّاب (12هـ)(8)..
وهذا النموذج المشرق يدل على أنّ المرأة شريكة الرجل في كل شيء، حتى في الحرب. فإن لم يكن الإسلام قد فرض على المرأة الحرب إلّا أنّه لم يحُل دون مشاركتها فيها إن هي أرادت ذلك وسمحت لها ظروف حياتها.
وقد أوردتُ نموذج المرأة البطلة في الحرب لأقول من خلاله لكل الذين يحصرون اليوم مجال تحرّك المرأة ضمن حدود البيت والعائلة والتربيّة، إنّ الإسلام أعطى المرأة حق المشاركة في كل شأن حياتي.. والفرق بين النموذج الغربي المطروح والنموذج الإسلامي الأصيل أنّ شراكة المرأة للرجل في شأن ما لا تؤدي بالضرورة إلى مساواته في الواجبات والحقوق، إنّها مثلاً تملك حق المشاركة في الجهاد ولكن لا يقع عليها واجب الجهاد، ولها حق المشاركة في الإنفاق على أهلها وولدها دون أن يكون واجب ذلك منوطاً بها، وكذلك في الإرث وغير ذلك.
كما أنني أوردت نموذج المرأة البطلة في الحرب لأقول من خلاله للعالم أجمع، إنّ حضارة الإنسان تتراجع أمام التوحّش. ففي الزمن السالف، حين كان الإنسان أكثر حضارة من الإنسان المعاصر مع أنّه أقل منه امتلاكاً لأسباب المدنيّة، كان يُقاتل بعيداً عن المجتمع الأهلي، لقد كانت أرض المعركة خارج البيوت والعائلات والنساء والشيوخ والأطفال.. أمّا اليوم، فقد اقتحمت الحروب بيوت الناس، وقتلت نساءً وأطفالاً وشيوخاً ليسوا شركاء في الحرب..
والذي نخشى منه اليوم، هو أن تنشأ ردة فعل تعصبيّة تجاه عولمة قضيّة المرأة. وتقودنا ردة الفعل التعصبيّة هذه إلى كهوف مظلمة تتناقض مع نور الإسلام.. بحيث تُصبح المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف عام أكثر تحرراً وفعالية وحضوراً في الحياة الإسلاميّة من المرأة المسلمة في بعض مجتمعات الإسلام في القرن الواحد والعشرين.. ومن هنا، يُصبح الإلحاح على مفهوم الشراكة الإسلامي هو إلحاح ضروري لتفادي ردّات الفعل بكل أشكالها، والقفز فوقها إلى الينابيع المؤسسة لشراكة المرأة والرجل في كل أمر ديني وشأن حياتي، في الخاص والعام.

3- البنية البشريّة للعائلة:
إنّ العائلة في الإسلام ليست مجموعة أفراد متساوين في الطول يعيشون في بيت واحد، ولكن هي توليفة إنسانيّة تمتلك بنية بشريّة. وهذه البنيّة البشريّة تتمثل بالأب والأم (أو الزوج والزوجة) والأولاد، ولكل واحد في هذه المنظومة مكانه ودوره ومشاركته وحقوقه وواجباته. في هذه المنظومة تظل الأم أمّاً والأب أباً ولهما كل الإحترام والطاعة من الولد، كما يظل الولد ولداً وله كل الحقوق، ولا ينفصل عن العائلة إلا بسفر أو زواج. وتستمر العائلة وحدة متآلفة متصلة وإن باعدت ظروف الحياة بين الأهل والأبناء.
 أمّا في الغرب اليوم، فإنّ ما نشهده من حدوث أشكال جديدة للعائلة، كالعائلة المثلية وعائلة الوالد المنفرد وغير ذلك، وما نشهده من تفكك أسري، لا يُبشِّر بخير مستقبلي يعود بالفائدة على المجتمع وعلى المرأة تخصيصاً، وذلك لأنّ بناء المرأة كفرد خارج العائلة يُؤثِّر سلباً على الاثنين معاً.
 إنّ المرأة والعائلة قطبان يتبادلان الدعم الوجودي، وانهيار العائلة وتفكيكها ينعكس سلباً على كيان المرأة. وهذا لا يعني أن نقبل بقوانين وتفسيرات واجتهادات تحوّل العائلة إلى "فخ" تقع فيه المرأة، ويصادر وجودها كلّه بتواطؤ اجتماعي وأحياناً بصمت تشريعي.

4- نضال من أجل الشراكة:
علّمنا التاريخ أنّ الحق يُؤخذ ولا يُعطى، وفي سبيل ممارسة المرأة لحقّها الشرعي بالشراكة فهي مدعوّة إلى التفكّر لإبداع آليات تضمن شراكتها في كلّ مجال، وتمنع من استبعادها من أي أمر.
وأشارك بالتفكر في بعض آليات تحقق النموذج الإسلامي للمرأة (المرأة الشريك)، داعية الجميع للمشاركة بالتفكّر:
1- ابتكار هندسة جديدة للمساجد:
تبدأ الشراكة بين الرجل والمرأة من المسجد، فإن شاركت المرأة الرجل في المسجد فإنّها ستكون الشريك في كل أمر وشأن. ولكن جولاناً سريعاً على عامة مساجد المسلمين وتأملاً في الأماكن المخصصة للنساء –باستثناء المسجد الحرام والمسجد النبوي- يُظهرها لنا حيناً كأنّها ملصقة إلصاقاً وليست جزءاً من عمارة المكان، وحيناً آخر تتجلى تابعة فقيرة ركيكة غير ذات قيمة ومهجورة، وأحياناً نراها على شكل "علّية" مشرفة وإنّما ضيّقة المساحة لكأنّما سلفاً قرر منشء المسجد تقليل عدد النساء المسموح بتواجدهنّ داخله..
 كل ذلك جعل النساء في عديد من مجتمعات الإسلام لا يقصدن المسجد للصلاة، ولا يحرصن على إعلان شراكتهن وحضورهن في الحياة الإسلاميّة من خلال المسجد، ولا يعوّل –في هذا السياق- على اتساع بعض المساجد وحضور النساء للإستماع إلى داعية والإستفادة من رؤيته للإسلام ولتاريخ المسلمين، وذلك لأنّ حضور المرأة في هذا الحال هو حضور خاص يتعلق بالداعية أكثر مما هو حضور عام يخص المسلمين جميعاً في المجتمع الذي تعيش فيه هذه المرأةز
وأقترح أن نُعيد النظر في هندسة المكان، ونبدأ ببناء مساجد ثنائيّة، مزدوجة العمارة، تُجسّد بالحجارة الحكم النبوي "النساء شقائق الرجال"، فتكون المساحة المعطاة للمرأة شقاً للمساحة المعطاة للرجل: باب منفرد، وباحة واسعة، وأمكنة فسيحة، وموازاة من صميم الهندسة، تقول بالعمارة إن وجود المرأة في المسجد حيوي وبنيوي ولا يحمل إيحاءات بالإلصاق أو الإتباع أو الإرداف كما هي مساجد اليوم.
2- نقد الثقافة الخاصة بالمرأة:
استقر في اللاوعي العام العربي الإسلامي أنّ المرأة هي مخلوق ضعيف ناقص القدرات يحتاج إلى دعم مستمِّر في الحياة.. وأنّها غير قادرة على الحفاظ على سلامة نفسها في معترك الحياة، لا تُميِّز الأشرار من الأخيار، قد تنخدع بأطايب الكلام... لذلك كثيراً ما يشكّل الأهل شبكة حماية للأنثى، ويعملون –في المقابل- على تقوية الذكر لمجابهة الحياةز
إنّ النضال من أجل الشراكة، يبدأ من تحفيز العائلة على مجابهة الثقافة الخاصة بالمرأة بالتربية الصحيحة وتكافؤ الفرص، والتفريق بين حماية المرأة وبين عزلها عن الحياة العامّة، وذلك بإعداد شريك لا تابع، ولا جوهرة مكنونة تنتقل من خزائن الأب إلى خزائن الزوج، بل وسط عدل نثق بحكمته وعقله ويستعيد النموذج الإسلامي للمرأة من الزمن الزاهي إلى اليوم، وندرك أنّ الدرب طويل وشاق؛ لأنّ تعديل أكثر من عشرة قرون من الإنزياح لا تتم بسنوات قليلة.
3- أماكن محفوظة للنساء في المجالس والهيئات:
إنّ المجالات المفتوحة للمنافسة بين المرأة والرجل تشهد تقدّماً ملموساً للمرأة لجهة حصولها على مراكز عديدة ودخولها في وظائف حكوميّة كانت وقفاً على الرجال.
ولكن في عديد من الميادين التي تتشكّل فيها بالتعيين المجالس العلميّة التابعة للمراجع الإسلاميّة، وتتالف فيها بالإختيار الهيئات الإستشاريّة، أو توجّه الدعوات للمؤتمرات الإسلاميّة الكبرى بحسب رغبة الداعي. هنا لا بدّ من حفظ أماكن تُخصص للنساء؛ لنقول بذلك للمرأة المسلمة اليوم: إنّ مكانك في الإسلام محفوظ، أنت الشريكة في صياغة الرؤية المعاصرة من الأصول الثابتة وفي إعادة النظر في مناهج التفسير والقراءة وفي وضع السياسات الخاصة بالمرأة، فلا تبحثي عن مكان لوجودك في مسار إصلاحي آخر بعيد عن الرجل الشريك، أو بعيد عن قيم الإسلام ولا يحقّق قيمة للمسلمين(9).
وفي سبيل الجمع بين ترتيل القرآن وبين العمل به، إنّ المحبّة هي الإكسير الذي يقلب المعدن ذهباً ويُحقّق السلام ويذهب بالعنف والتطرف.

إنّ الأنثى –في معظم الأحوال- تدخل الدنيا دون أن تنشرح أسارير قارئ القرآن ترحيباً بها، وكثيرة هي البيوت التي لا تقوم على المودة والرحمة. أين كلّ ما حدث طوال التاريخ من قهر وظلم وإقصاء للمرأة عن الحياة العامة عن وضع محمد رسول الله (ص) النساء مع الطيب والصلاة، بقوله (ص): "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا.. النِّسَاءُ والطِّيبُ، وَجعلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"(10).

الهوامش:
1- يرى جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) أنّ تخلّف المرأة وجمودها في عصره هو نتيجة لحجر الرجل عليها. را: نهى القاطرجي، المرأة في منظومة الأمم المتحدة رؤية إسلاميّة، المؤسسة الجامعيّة للدراسات، ط1، 2006م، ص22.
2- بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تزايد الإهتمام العالمي بالمرأة، فقد أكد ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م في المادة الأولى على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسيّة للناس جميعاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين النساء والرجال. وفي عام 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الغنسان والذي أوضحت نصوصه التوجه نحو حماية حقوق المرأة. وفي عام 1952م أعدّت مفوضيّة مركز المرأة بالأمم المتحدة معاهدة حقوق المرأة السياسيّة. وفي عام 1967م أجازت الأمم المتحدة إعلاناً خاصاً بالقضاء على التمييز ضد المرأة.
وفي عام 1973م بدأت مفوضيّة حركة المرأة بالأمم المتحدة في إعداد معاهدة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وفي عام 1974م صدر الإعلان العالمي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1974م صدر الإعلان العالمي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1975م تبنّى المؤتمر العالمي لعام المرأة في المكسيك وثيقة رئيسية هي إعلان المكسيك في مساواة النساء وإشراكهن في التميّة والسلام، وفي عام 1976م أكدّت المادة3 من المعهد الدولي للحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة على ضمان الدول مساواة الذكور والإناث في حق التمتّع بجميع الحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة المنصوص عليها في ذلك العهد، وفي عام 1979م اعتمدت اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وفي 3 ديسمبر1981م أصبحت سارية المفعول بعد توقيع خمسين دولة عليها.
3- راجع: "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" (30مادة)، تقرير التنمية الإنسانيّة العربية للعام2005م، ملحق3: وثائق، ص245-262.
كما يراجع في تقرير التنمية نفسه، ص167-168، موقف البلاد العربية الموقّعة والمصدّقة على "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، وممارستها لحق التحفظ على بعض نصوصها، وخاصة المواد التالية: 2، 9، 15، 16، 29.
4- نهى القاطرجي، المرأة في منظومة الأمم المتحدة رؤية إسلامية، ص7.
5- وفي سياق التيار الذي يتصدى للعولمة الثقافية نذكر الاحتفالية العالمية التي عقدتها اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التابعة للمجلس الإسلامي العالمي لإطلاق "ميثاق الأسرة في الإسلام".. وقد بدأت أعمالها في القاهرة بتاريخ 6-9-2007م. استغرق إعداد الميثاق سبع سنوات كاملة، وهو يتألف من 164 مادة موزعة في خمسة أبواب، أعدّ "ليكون دليلاً ومرجعاً للمجتمعات الإسلاميّة وحكوماتها، ومنظماتها الأهلية.. ورداً على المواثيق الدولية التي تحاول هدم حصن الأسرة".
وتضم لجنة صياغة الميثاق: فتحي لاشين المستشار بوزارة العدل، وجمال الدين عطية مستشار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ومدير مشروع معلمة القواعد الفقهية بالمملكة العربية السعودية، وعبد اللطيف عامر أستاذ الشريعة بكلية الحقوق، جامعة الزقازيق، جمهورية مصر العربية. ويوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس مجلس الإفتاء الأوروبي، وعلي جمعة مفتي مصر، وأحمد العسال نائب رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، وغيرهم العديد من العلماء.
6- راجع تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2005م، نحو نهوض المرأة في الوطن العربي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ص98-106 (إنجازات بارزة لنساء العرب).
7- مسند أحمد، كتاب باقي مسند الأنصار، حديث رقم 24999؛ كما ورد هذا الحديث عند الترمذي، كتاب الطهارة، حديث رقم 105؛ وفي سنن الدارمي، كتاب الطهارة، حديث رقم 757؛ وفي سنن أبي داود، كتاب الطهارة، حديث رقم 204.
8- محمد عمارة، التحرير الإسلامي للمرأة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2002م، ص17-18.
9- يراجع: المرأة العربية في المواجهة النضالية والمشاركة العامة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006م، وهو مجموعة دراسات حول المرأة في الوطن العربي تتناول المشاركة الفاعلة والشاملة للمرأة في الحياة العامة، ومستقبل دورها في التنمية السياسية والإجتماعية العربية.
10- سنن النسائي، كتاب عشرة النساء، حديث رقم3878؛ كما ورد في مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين، حديث رقم11845 وحديث رقم 11846 وحديث رقم 12584 وحديث رقم 13526.


المصدر: مجلة التسامح، عدد20.
           سعاد الحكيم.

التعليقات (0)

اترك تعليق