مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مرجعية الرؤية القرآنية

مرجعية الرؤية القرآنية: استناد أصحاب المنحى الفقهي الجديد في تكوين رؤيتهم للمرأة إلى القرآن الكريم

من السمات الأساسية التي ميّزت أصحاب المنحى الفقهي الجديد في تكوين رؤيتهم للمرأة، استنادهم إلى القرآن الكريم في الاستنباط الفقهي، وفي محاكمة الروايات الواردة في كتب الحديث، وفي الكشف عن رؤية الإسلام الكلية للإنسان والمجتمع والكون، وملامح ومكونات هذه الرؤية في مجال المرأة.
لقد وجد هؤلاء أن هناك مفارقة واضحة بين الصورة التي يعرضها القرآن للمرأة، والصورة التي يعرضها الكثير من الروايات في السنة الشريفة، فالقرآن تحدث عن نماذج متعالية عن تلك النواقص التي أشارت إليها بعض الروايات وربطتها بها، ومن هذه النماذج امرأة فرعون التي ضرب الله بها مثلاً للذين آمنوا، في إشارة لعظمة هذا الموقف، والحاجة الملًحة لتذكره المستمر، والاعتبار به في كل زمان ومكان، قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1).
من الواضح أن القرآن صوّر بهذا النموذج كيف يمكن أن يتغلّب الإيمان على الضعف عند المرأة وهي في قمة مركز السلطة، والجاه، والرفاه، والنعيم الذي لا يضاهى ولا يُوصف، ومن الصعب التخلي عنه، ولا سيما أنها ميالة بطبعها الى الرخاء والنعيم، وإلى الجمال والزينة. ففي ظل كل ذلك أظهرت امرأة فرعون إيمانها، وكشفت عن قوة حقيقية في شخصيتها، جعلتها تتغلب على الضعف الذي هو من أكثر ما يميز النساء.  وهي عندما قالت: «رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» كأنها أرادت أن تصوّر مستوى النعيم والرفاه الذي كان يحيط بها من كل جانب، وأرادت من الله أن يعوضها عن ذلك ببيت في الجنة. وهنا يطرح سؤال ملحَ هو: إذا كانت المرأة تظهر هذا المستوى من الإيمان، ويتغلب عندها الإيمان في مثل هذا الموقف الذي يختاره الله ليضرب به مثلاً حتى يتذكره الناس وينتبهوا إليه، فهل يصح القول والاَدعاء أن النساء ناقصات الإيمان!
أما النموذج الآخر الذي تحدث عنه القرآن الكريم، فهو نموذج بلقيس ملكة سبأ، في إشارة منه إلى رجحان العقل عند المرأة، وهي القصة التي يكاد الحديث لا يتوقف عنها في كل ما يتناول موضوع المرأة ويقترب منه، وذلك لشدَة أهمية هذا الموقف الذي يظهر حكمة وتعقل المرأة في أشد الظروف خطورة، ولكون الموقف يتحدث عن علاقتها بالحكم والدولة، وهو من المواقف البليغة للغاية التي تحدث عنها القرآن، وهو من أكثر المواقف أهمية في دحض تلك التصورات التي تنتقص من مكانة المرأة ودورها.
كما تُعدُّ قصة ملكة سبأ أهم قصة تحدث عنها القرآن حول علاقة المرأة بالحكم والدولة، حيث يقول تعالى: «قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّي أُلْقِىَ إلَيَّ كِتَـبٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَاَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُوني في أَمْرِي مَا كنت قَاطِعَةً أَمْراً حَتى تَشهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ»(2).
في هذا السياق، يشير الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو يتحدث عن القصة، إلى أنه لم يرد في هذه الآيات تنديد أو نقد لكون بلقيس ملكة بوصفها امرأة، كما لم يرد تنديد أو نقد لشعب سبأ على أنه خضع لحكم امرأة وهي بلقيس، ويعلق على هذه الملاحظة في الهامش بقوله: "وهنا نلاحظ أنّا لا نجد في القرآن كلّه منعاً أو ذماً لكون المرأة ذات سلطة في المجتمع، أو لكون المجتمع محكوماً ومقوداً من قبل امرأة"(3).
ويختتم الشيخ شمس الدين ملاحظاته حول هذه القصة بقوله: "إن هذا المثال يكشف عن أن شحصية المرأة مؤهلة للحكم والقيادة كالرجل، وإنها كالرجل أيضاً يمكن أن تقود إلى خير ويمكن أن تقود إلى شرَ، وأن الضعف والخوف والقصور الفكري ليست طبائع في المرأة، بل هي نتيجة تربية خاصة وثقافة معينة درجت بعض المجتمعات عليها"(4).
وقد أظهر لنا القرآن الكريم في هذه القصة، كيف أن المرأة يمكن لها التفوق على الرجل في أهم أمرين طالما حاول أن يتملكها لذاته، ويعدّهما من أوثق الأمور ارتباطاً بهوية الذكورة وطبيعتها، هما العقل والسلطة، وأراد الرجل أن يوجه المعرفة والتاريخ بما يخدم هذا الأمر والبرهنة عليه، وهذا ما دحضته هذه الآيات التي صورت انحياز المرأة إلى العقل، حين شاورت بلقيس أهل الحلَ والعقد عندها، ولم تستبد برأيها: «قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّي أُلْقِىَ إلَيَّ كِتَـبٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَاَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُوني في أَمْرِي مَا كنت قَاطِعَةً أَمْراً حَتى تَشهَدُونِ» في مقابل انحياز الرجل إلى القوة والتظاهر بها «قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ».
وعليه، فإذا كان القرآن الحكيم يصوَر المرأة برجحان العقل فهل يصح لنا اتهامها بنقصان العقل!
وبعدما تطرق الشيخ شمس الدين إلى مثل هذه الأمثلة والقصص، أراد منها التأكد على ما سماه مرجعية الرؤية القرآنية في عملية الاستنباط الفقهي، حيث رأى أنّ تلك الامثلة تكشف عن الرؤية الإسلامية لموقع المرأة في نظام القيم ونظام الحقوق والواجبات في الشريعة الإسلامية، وأنَ هذه الرؤية القرآنية -حسب رأيه- هي المناخ التشريعي للأحكام فهذه الأحكام ليست بلا جذور، وليست بلا إطار وفلسفة، بل هي تركّز على قاعدة عامة تعبَر عنها هذه الرؤية القرآنية، وبذلك تكون هذه الرؤية مرجعاً في فهم النصوص التشريعية وتفسيرها(5).
وحين أشار الشيخ شمس الدين إلى منهج التعامل مع النصوص الواردة في السنة حول المرأة والأسرة، أكد ضرورة ملاحظة هذه النصوص على ضوء التوجيه القرآني، وأمّا ملاحظتها بمعزل عن التوجه القرآني، فسوف يؤدي حسب تقديره إلى خلل في عملية الاستنباط .
وبالعودة إلى الشيخ يوسف الصانعي، في دراساته الفقهية حول المرأة، نلمس وبوضوح كبير استناده إلى القرأن الكريم وإلى الأصول القرآنية التي على أساسها ظلّ يُحاكم ويرجّح الروايات من جهة المعارضة أو الموافقة، وهكذا في صياغة آرائه، واستنباط اجتهاداته.
وفي نطاق هذه الملاحظة، تتكشّف مفارقة ما بين المنحى القديم في الفقه، والذي يستند بصورة أساسية إلى نصوص القرآن، وجعل الأصول القرآنية حاكمة على السنة وموجهة ومفسرة لها، وبالعودة إلى جميع آيات القرآن وليس آيات الأحكام فقط والتي تقدر بخمسمائة آية أو تزيد أو تنقص.
وإذا كان المنحى القديم في الفقه أخذ من القرآن آيات الأحكام فحسب، فإن المنحى الجديد حاول أن يجعل من القرآن بكل آياته مرجعاً وموجّهاً ومفسراً لجميع مسائل الفقه، ومنها المسائل المتعلقة بالمرأة.


الهوامش:
1- سورة التحريم: الأية 11.
2- سورة النمل: الآية 29 ـ 35.
3- الشيخ محمد مهدي شمس الدين،الستر والنظر، ص34.
4- الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الستر والنظر، ص36.
5- المصدر نفسه ص38.


المصدر: الميلاد، زكي: الإسلام والمرأة، (تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة). ط1، مركز الحضارة لنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2008.

التعليقات (0)

اترك تعليق