دور الشهيدة الثقافي والتبليغي
كان للشهيدة -رحمها الله- عدة أدوار رئيسية على صعيد الجهاد الثقافي والتربوي والتبليغي:
أولاً: مدارس الزهراء (ع):
تعتبر السيدة الشهيدة بنت الهدى من المؤسسين أو المساهين في إنشاء مدارس الزهراء(ع) في بغداد والكاظمية والنجف ــوكان ذلك في عام 1967م- ولم يكن الهدف منها سد حاجة المجتمع من المدارس الإبتدائية والثانوية فإن المدارس الحكومية كانت كافية لاستيعاب كل ما هو موجود من طالبات، وإنما كانت هناك ضرورات اقتضت إنشاء هذه المدارس، منها مواجهة الثقافات المادية التي تدعو إلى الفساد والانحراف والتردي الأخلاقي، ومنها السعي لنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة والوعي الذي يجب أن ترقى إليه المرأة.
إن مما لا شك فيه إن (المدارس) من أفضل الأساليب التي يمكن من خلالها تربية الأجيال وتثقيفهم، وهي الأسلوب الذي يناسب العصر ويلبي متطلباته.
لقد استحصلت الموافقة على إنشاء هذه المدارس واعتمدت نفس المواد الدراسية في المدارس الحكومية، سواء في الابتدائية أو الثانوية، لكي لا يعيق ذلك الطالبات من مواصلة دراستهن بعد إنهاء الدراسة في مدارس الزهراء(ع)، وأضيف إلى ذلك عدة مواد منها دروس في العقيدة والتربية الإسلامية بشكل مكثف ورصين.
ولقد امتدحت الأخت وجيهة الصيدلي وهي مديرة لمدارس الزهراء(ع) السيدة الشهيدة في مقال لها في (المنبر، العدد 24، ص 8)حيث لعبت دور المشرف والموجه لهذه المدارس حيث كانت تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع فيما كانت الأيام الأخرى تقضيها في مراكز التعليم في النجف الأشرف... ولقد أثمرت جهود الشهيدة بنت الهدى فكان نتاجاً طيباً مباركاً رغم قلة الإمكانات، ورغم المضايقات الأمنية والسياسية والاجتماعية حيث تقول السيدة وجيهة في نفس المقال: ومن المفرح أن أرى هنا في بريطانيا ــوكذلك في الخليج- مجموعة من خريجات مدارس الزهراء، وأنا مسرورة لأنهن حققن أمل الشهيدة ـكم كانت تتمنى أن ترى الزهور اليانعة في المدرسة أمهات رساليات وزوجات مجاهدات- جهاد المرأة حسن تبعلها، بل تأكد وتحقق ما عملت من أجله بل وضحت بنفسها الزكية. لقد أصبحت الزهور اليانعة موضع افتخار وشاهد عيان على تجربتها في مدارس الزهراء(ع) الأهلية...
ثانياً: التدريس وإقامة الندوات:
كان للسيدة الشهيدة بنت الهدى -رحمها الله- منهج واسع في المجال التثقيفي، ويعتبر التدريس من أهم فقراته.
والمشكلة التي كانت تعترض الطريق طبيعة الكتب الحوزوية التي لم تكتب للتدريس والمفتقرة إلى منهجية واضحة تعين الطالب على استيعابها وفهمها، إضافة إلى الطباعة السيئة والكتابة المتشابكة وهو ما يصطلح عليه بــ (الطباعة الحجرية).
إلا أن الشهيدة بنت الهدى استطاعت أن تتغلب على تلك المشاكل بقربها من أخويها المرحوم السيد إسماعيل الصدر، وشهيدنا الخالد السيد الصدر ــقدس الله سرهماــ فاستطاعت أن تتجاوز كل تلك المشاكل بجدارة، وتمكنت من الإحاطة بالمواد العلمية الحوزوية ــالفقهية والأصولية خاصةــ مما مكنها من التدريس بكفائة عالية.
وكان الهدف الحقيقي من إقامتها لحلقات التدريس في البيت ليس فقط تثقيف طالباتها وإنما إعدادهن لتحمل المسؤولية في المستقبل لممارسة نفس الدور، وخلق طاقات علمية نسائية قادرة على إيجاد حوزات علمية نسائية تتحمل دوراً كبيراً في نشر الثقافة الإسلامية من مصادرها النقية الصحيحة.
وإلى جانب التدريس نظمت الشهيدة ندوات ثقافية دينية عامة تطرح فيها الأفكار الإسلامية بأساليب تنسجم مع متطلبات العصر ومقتضياته، وقد نالت ندواتها نجاحاً منقطع النضير، وإقبالاً من مختلف الطبقات النسوية.
كما كانت تأمل في إعادة النظر في الاحتفالات التي تقام في مناسبات الزواج بحيث تنسجم مع الأخلاق والآداب الإسلامية وتكون مناسبة جيدة لفهم حقيقة الزواج في الإسلام وأهدافه وما يجب أن يكون عليه الزوج وكذلك الزوجة من أخلاق عالية وانسجام كامل وعدم اهتمام بالأمور المادية بشكل يحافظ على طابع السرور والفرح الذي تتسم به تلك المناسبات.
ثالثاً: رحلاتها للحج:
وكان قلب الشهيدة بنت الهدى -رحمها الله- يهوى البيت الحرام والمشاهد المشرفة في تلك الديار المقدسة، كانت إذا حانت أيام الحج تأخذها حالة من الشوق عجيبة وفرحة غامرة تملأ جوانحها فتراها مشدودة بصدق إلى الله عز وجل وكأنها تريد أن تستذكر بسرعة أيام الإسلام الأولى في مهده الطاهر وتعيش مع المسلمات في عصر الرسالة أعباء حمل الرسالة، وتستمد العزم والتصميم منهن.
فكانت الشهيدة تذهب إلى الحج كمرشدة دينية في إحدى "الحملات" التي تذهب إلى الحج من بغداد أو الكاظمية، تعلم النساء مسائل الحج وأحكامه فكانت من الناحية الفقهية محيطة بفتاوى العديد من المراجع، وكانت تجيب كل حاجّة على وفق من تقلد من المجتهدين، وقد يحدث أن تقع مسائل نادرة وغير موجودة في الرسائل العملية للفقهاء وفي هذا الفرض كانت تتصل هاتفياً بالسيد الشهيد الصدر ــرحمه الله- لتتلقى منه الحكم الشرعي. وإلى جانب ذلك كانت تسعى إلى التعرف على أوضاع المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وتنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بما يناسب الأوضاع حينها.
رابعاً: دور الرابط بين المرجع والمراجعات:
كان للسيدة الشهيدة دور كبير في الربط بين سيدنا الشهيد وبين القطاعات النسائية، فكانت تنقل بأمانة ما يعرض للنساء من مسائل فقهية قد يترددن بسبب الحياء من توجيهها إلى السيد الصدر مباشرة، تعينها في ذلك بعض الأحيان السيدة الطاهرة أم جعفر -حفظها الله- بحسب المناسبة وطبيعة الموضوع.
ولم يكن هذا فقط، فقد كانت مهتمة بكل القضايا التي تشغل الساحة ومنها القضايا السياسية والثقافية، وأخصها بالذات خطوات الحزب الحاكم وحكومة البعث للسيطرة على المجتمع النسوي من خلال أطروحات وقنوات أعدتها كاتحاد النساء والطلائع والفتوة والجمعيات النسائية وأمثالها، وكان أهم تلك القضايا هو مسألة الانتماء لحزب البعث كشرط فرضته السلطة للقبول في المؤسسات والجامعات أو التوظيف الحكومي.
إن هذه المشكلة كانت من الهموم الثابتة في قاموس الشهيدة بنت الهدى فهي تعرف معنى انتماء المرأة لحزب البعث وما يتبعه من التزامات ومظاهر تسخط الله تعالى، وتعرف كذلك ما تعنيه استقالة الموظفة المسلمة المؤمنة التي ترفض الانتماء لحزب البعث، وما يسببه لها من مشاكل مادية ومحاسبة أمنية، إذ إن عدم الانتماء يعتبر جريمة كبيرة، فلا حياد، فإما معي وإما ضدي، وهذه هي لغة السلطة الحاكمة في العراق وأسلوبها.
وكان للسيدة عدد من المؤمنات ممن كن قد انتمين إلى حزب البعث انتماء صورياً في زمن لم يكن يعرفن إن الانتماء حرام، فكن ينقلن للشهيدة تفاصيل ما يجري في الحزب من مخططات ومؤامرات يحوكها ضد المرأة العراقية والمتدينات منهن على الخصوص، وكانت الشهيدة تنقل ذلك للسيد الشهيد بدقة.
وبهذا الصدد تقول السيدة وجيهة في نفس مقالها السابق عن أمثال هذا النشاط ما يلي: "يخطئ من يقول أو يظن أن الشهيدة اقتصر عملها على التوجه التربوي والاجتماعي بل كانت تعمل في المجال السياسي بشكل واع ودقيق لظروفها والمرحلة التي تعيشها، حيث كانت تتحرك ضمن رؤية واضحة المعالم؛ فكانت تقوم بشرح الموقف السياسي المطلوب آنذاك لجميع من يعمل معها وتعبئة النساء على مقاومة النظام ومخططاته وأساليبه التي تدعو وتضغط على النساء عموماً بالانخراط لحزب البعث، وبالتالي التخلي عن القيم والمفاهيم الإسلامية. وساهمت في تربية المرأة على الورع عن محارم الله تعالى، وفي تكوين الروح الجهادية ضد أعداء الإسلام...".
وكانت السيدة الشهيدة تستمد رؤيتها السياسية النهائية من السيد الصدر نفسه، وكانت في أحيان كثيرة تناقش المواضيع والأحداث معه بصراحة ووضوح، وكان -رحمه الله- يستمع إليها بدقة ويحترم وجهات نظرها.
شريكة المسيرة والمصير:
إذا كان لأحد أن يعتز بمشاركته لسيدنا الشهيد الصدر -رضوان الله عليه- في مسيرته الجهادية فلا يعدو ذلك الشهيدة بنت الهدى رحمها الله. لقد كتب لها ذلك، وكانت أهلاً له.
شاركته اليتم والفقر والحرمان في مراحل الطفولة الأولى، وشاركته ما كابد من هموم ومشاكل ليس بمقدور كل أحد استيعابها، وشاركته الصراع المرير مع سلطة جبارة عاتية كفرت بكل القيم والموازين فوقفت معه في صف المواجهة الأول في انتفاضة رجب عام 1979م، وشاركته شرف الاستشهاد في غرف الأمن العامة في بغداد، وشاركته قبره الشريف في النجف الأشرف.
إذ لها كل الحق -للأمانة التاريخية- أن تعتبر شريكة السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه.
بدأت مسيرة المواجهة الجهادية للسيدة الشهيدة منذ الاعتقال الأول للسيد -رضوان الله عليه- عام 1971م (1392) هــ.
ثم جاءت انتفاضة صفر عام 1977م (1397)هــ فتعرض السيد الشهيد للاعتقال، وكانت تلك الأيام من الأيام العصيبة في تاريخ النجف حيث عم الخوف والرعب كل مكان، وكانت حشود السلطة في كل مكان تعتقل كل من يقع في قبضتها. أما بنت الهدى فكانت البطلة التي وقفت دون خوف في رباطة جأش وشجاعة غريبة حتى عاد السيد الشهيد -رضوان الله عليه- من بغداد.
عندما خرج السيد مع مدير أمن النجف خرجت معه وسبقتهما إلى حيث تقف السيارة وخطبت في الجموع منددة بجلاوزة النظام وما يفعلونه صارخة ومرحبة بالموت إذا كان في سبيل الله.
وفي صباح يوم السابع عشر من رجب 1399هــ (1979)م، تم الاعتقال للشهيد فقامت الشهيدة بنت الهدى بالذهاب إلى حرم الإمام أمير المؤمنين بالنجف الأشرف ونادت بأعلى صوتها:
"الظليمة الظليمة يا جداه يا أمير المؤمنين لقد اعتقلوا ولدك الصدر. يا جداه يا أمير المؤمنين، إني أشكوا إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد".
ثم خاطبت الحاضرين فقالت: "أيها الشرفاء المؤمنون، هل تسكتون وقد اعتقل مرجعكم، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذب؟ ماذا ستقولون إذاً لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم؟ اخرجوا وتظاهروا واحتجوا.."
يا له من خطاب يدل على شجاعتها وقوتها وعدم خوفها من النظام الحاكم وأتباعه.
وبعد لحظات نظمت تظاهرة انطلقت من حرم الإمام علي(ع) ساهمت فيها المرأة مع الرجل، وأدت إلى إجبار السلطة على الافراج عن السيد الشهيد الصدر.
وكان من أثر هذه التظاهرة أن أفرج عن السيد بعد ساعات قليلة من اعتقاله.
دورها التبليغي:
لعبت الشهيدة بنت الهدى -رحمها الله- دوراً فعّالاً وملموساً في هداية الفتيات ـوبالأخص العراقيات- ورجوعهن إلى التمسّك بتعاليم الدين الحنيف، فمَنْ كان قريباً منها يعرف ذلك جيداً. فكم من فتاة، بل عائلة كادت أن تخرج عن دينها وتصهرها الحضارة المستوردة من الغرب أو الشرق، لولا وقوف الشهيدة بنت الهدى إلى جانبها وانقاذها من الغرق في عالم التبرّج والرذيلة، فكانت بحقّ رائدة العمل الإسلامي النسوي في العراق.
تتّصف رحمها الله باُسلوب تبليغي عذب ومؤثّر، فلم تجلس مع امرأة إلاّ وأثّرت عليها، ودخلت إلى قلبها عبرَ الكلمات اللطيفة والمنطق العذب الذي كانت تستعمله مع النساء.
لقد عَرفت بنت الهدى رحمها الله أنّ التبليغ في أوساط النساء يمكن أن يؤدّي دوراً فعّالاً في تقدّم الحركة الإسلاميّة عموماً، لذلك نجدها تعقد جلسات دوريّة في بيتها وفي بيوت اُخرى، وبالتعاون مع بعض النساء المريدات لها واللواتي لهنّ اطّلاع على ما يجري في العراق من محاولات لإفساد المرأة العراقية.
ولم تكتفِ الشهيدة بذلك، بل كانت ـوحين سماعها بوجود جماعة من النسوة في بيت معيّن- تُسارع إلى الحضور في أوساط النساء عندما ترى أنّ الجوَ مناسب. وقد استطاعت بعملها هذا أن تُربّي عدداً من النساء، حيث أصبحت كلّ واحدة منهن معلّمة لمجموعة من الفتيات والنساء.
ولم تكتفِ الشهيدة بنت الهدى بهذا القدر من التبليغ، بل تعدّته إلى مجال أوسع وأكثر فائدة، وهو مخاطبة الفتاة العراقية والعربية عموماً عَبرَ مجلّة «الأضواء» التي أصدرتها جماعة العلماء في النجف الأشرف(1).
فما أن عَلِمتْ أنّ العدد الأوّل سيصدر حتى بادَرت وكَتبت فيه مقالاً لطيفاً وظريفاً، تحث فيه الفتاة المسلمة على الإلتزام بتعاليم الدين الحنيف وعدم الانجرار وراء الغرب والشرق، قالت: «فما أجدرنا اليوم ـإذ تُمتحن رسالتنا الحبيبة بشتى المحن- أن نرفع مشعل الدعوة الإسلامية، ونستثمر علومنا وتعلّمنا في سبيل الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نذكر دائماً وأبداً أنّ نبيّ الرحمة قد أوصانا بطلبه وجعله فريضة على كلّ مسلم ومسلمة؛ لكي يكون للمرأة المسلمة نصيبها من الدعوة إلى مبدئها ونظامها الخالد، ولكي تكون قادرة على صدّ هجمات المغرضين وردّ دعايات المرجفين، لا لتتلاعب بها الريح مُصفرة أو مُحمرة، شرقية كانت أو غربية، ولكن لكي تسير على الطريق المهيع السوي، وتتمسّك بالإسلام ديناً ومبدأ ونظاماً، ولكي تتفهمه لترى فيه كلّ ما تطمح إليه مِن تقدّم ورقي وازدهار، فلا تعود تتطفّل على المبادىء الدخيلة والأفكار المستوردة»(2).
وفي عدد آخر من مجلّة الأضواء قالت بنت الهدى ـمخاطبة الفتاة المسلمة، طالبةً منها الصمود والتحدّي والمقاومة أمام كلّ الاغراءات المبذولة آنذاك-: "كوني مثلاً يُقتدى به ولا تكوني اُلعوبة تقتدي، كوني متبوعةً لا تابعة ، قاومي الاغراءات، اصمدي أمامَ كلّ شيء، فإنّي لأعلم أنّ العقبات أمامك كثار، وأن دربك لا يخلو من شوك وعثار، لكن النكوص عار، والتراجع شنار، فالموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار"(3).
وقالت أيضاً: "وكم مِن اللواتي مَشِينَ وراء النفير الأجنبي، ونزعنَ حجابهن في غفلةٍ وغرور، أخذنَ يتراجعنَ وبدأنَ يستفقنَ مِن كابوس المفاهيم الخاطئة التي أملاها علينا الاستعمار الغاشم، بعد أن أرادَ أن يستعمرنا في كلّ شيء حتى في أعزّ وأطهر ما عندنا، وهو المرأة"(4).
وفي عدد آخر قالت: "لا تقعد بكنّ هذه التخرّصات، ولا تثنيكنّ أمثال هذه النفحات المشؤومة، بل تزيدكنّ عزماً وقوّة وشدّة ومضاء، لتثبتن لهنّ صواب نهجكن وخطأ سيرهن المتعرّج ذات اليمين وذات اليسار، ولتوضحن لهنّ أنّهنّ هنّ اللواتي رجعن بسلوكهن إلى أبعد عصور الجاهلية حيث لا أحكام، ولا قوانين، ولا مثل ومفاهيم"(5).
وردّاً على ما يحَتج به مستوردوا التحضّر، الذّين يدعون إلى تبرّج المرأة ولحوقها بحضارة الشرق أو الغرب، قالت بنت الهدى: "هل يمكن لاُمّة ـأياً كانت- أن تتقدّم وتتحضّر بحضارات أجنبية لا تمتّ لها بصلة لتكون بذلك متقدّمة؟! فإنّها لم تتقدّم خطوة، ولم تزدهر لحظة، وإنّما الأفكار الخارجية والدعايات الأجنبية هي التي تقدّمت وازدهرت على حسابنا، نحن أعداءها الحقيقين"(6).
وعن شخصية المرأة المهدّدة قالت: "وذلك نتيجة سوء فهمها للإسلام والبعد عن روحه ومفاهيمه من ناحية، ونتيجة تغذية الثقافة الاستعمارية المسمومة التي غزت بلادنا من ناحية ثانية، إذ نشرت مفاهيمها المناقضة للإسلام، والتي لا تنطوي في الحقيقة إلاّ على القضاء على أصالة المرأة واُنوثتها وكرامتها"(7).
وبصدد الردّ على شعارات: تحرير المرأة، حقوق المرأة، مساواة المرأة، قالت الشهيدة بنت الهدى: "أنغام سمعناها، وسنسمعها أيضاً ما دام المكروب الأجنبي يسري في عروق مجتمعنا المسكين، وما دمنا متمسّكين بمبدئنا الحقّ، داعينَ إلى نهجه القويم"(8).
الإشراف على مدارس الزهراء(ع):
تُعدّ مدارس الزهراء عليها السلام من أعمال "جمعية الصندوق الخيري الإسلامي"، وهي أكبر المؤسسات الجهادية التي تشكّلت في العراق عام 1958م، متبنّية أهداف الإسلام الحنيف في كافة لجانها التعليمية والثقافية والاجتماعية والطبّية، وبجميع فروعها القائمة بمدينة البصرة والديوانية والحلّة والكاظمية وبغداد حيث يكون مركزها فيها.
كانت هذه الجمعية تشرف على العديد من الفعاليات الخيرية الإسلامية، منها شؤون الرعاية الإجتماعية، وتسهيل العلاج المجاني في مستوصفات طبّية خاصة، كما كانت تضمّ كليّة اُصول الدين في بغداد، إضافة إلى مدارس الإمام الجواد(ع) للبنين بمرحلتيها الإبتدائية والثانوية بمدينة الكاظمية.
وفي عام 1967م أصبحت الشهيدة بنت الهدى المشرفة على مدارس الزهراء(ع) في مدينة النجف الأشرف والكاظمية، إضافة لإشرافها على مدرسة دينية اُخرى في مدينة النجف الأشرف. فكانت رحمها الله تشرف على تنظيم هذه المدارس، وتعيّن المناهج الدراسية التربوية الإسلامية لها، وتحلّ كلّ ما تواجهه هذه المدارس من مشاكل وصعوبات.
فكانت تقسّم أيام الإسبوع بين النجف والكاظمية، فبالإضافة إلى الدروس التي كانت تُلقيها على الطالبات، كانت لديها محاضرات تربوية تُلقيها على المعلّمات بعد انتهاء الدوام الرسمي للمدرسة. وبعد الظهر كانت لديها لقاءات مع طالبات الجامعة حيث تجيب على أسئلتهن، وتُلقي عليهنّ محاضرات ودروساً في المعارف الإسلامية.
وفي عام 1972م وبعد صدور قانون تأميم التعليم، استقالت الشهيدة بنت الهدى من عملها بعد أن عرفت أنّها لن تستطع أن تؤدّي دورها الرسالي، وقد حرصت الدولة على إبقاء بنت الهدى في هذه المدارس، وبعثت لها كُتباً رسمية تُطالبها بالعودة إليها، إلاّ أنّها رفضت ذلك، وحينما سُئلت عن سبب رفضها للطلبات الرسمية قالت: "لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة إلاّ نوال مرضاة الله، ولما انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها فما هو جدوى وجودي بعد ذلك؟!".
إشراف الشهيدة على مدارس البنات:
في عام 1958م تشكلت في العراق "جمعية الصندوق الخيري الإسلامي" في مدينة بغداد، وسرعان ما توسعت هذه الجمعية، وأنشأت لها فروعاً في البصرة، الديوانية، الحلة، والكاظمية.
كانت هذه الجمعية، متميزة بنشاطاتها الخيرية المتعددة. وفي الحقل التعليمي، كانت تشرف على كلية أصول الدين في بغداد، ومدارس الإمام الجواد(ع) للبنين، بمرحلتيها الابتدائية والثانوية، ثم مدارس الزهراء(ع) للبنات، بمرحلتيها الابتدائية والثانوية أيضاً.
وتم اختيار السيدة آمنة الصدر في عام 1967، لتكون المشرفة على مدارس الزهراء(ع) في الكاظمية.
ورحبت السيدة بنت الهدى، بهذه المهمة المقدسة، التي اعتبرتها خطوة أخرى، في توسيع نطاق نشاطها الإسلامي العام، وتمكنت بفطنتها وذكائها وثقافتها الرفيعة، من اكتساب احترام وحب النسوة اللائي، كن على اتصال معها..
كانت السيدة العلوية، دقيقة ومنظمة ـكما ينبغي للإنسان الرسالي المسلم أن يكون- ولذا كنت تراها تنجز أعمالها في الإشراف على مدارس الزهراء(ع) إضافة إلى مدرسة إسلامية أخرى للبنات، في النجف الإشرف، ثم تنفق ما تبقى من نهارها، في الالتقاء بمعلمات مدارس الزهراء(ع) وكن في الغالب خريجات دار ومعهد المعلمات، إضافة إلى الالتقاء بالطالبات الجامعيات، والمؤمنات الملتزمات، لتفيض في حديثها لهن عن مسؤولية المرأة المسلمة، في وقت بدأت بوادر الصحوة الإسلامية تلوح في الأفق، منذرة المستكبرين وعملاءهم، بأن مد البحر الإسلامي الهادر حان وقته، بعد جزر استغرق القرون الماضية..
وحين يزحف الظلام ببطء، وتقف السيدة آمنة، بين يدي ربها، تناجيه، وتستمد منه القوة والعزم، والقدرة على العطاء، تنتحي زاوية في غرفتها وتتناول قلمها لتسطر على صفحات الورق بعضاً من خواطرها، ومقالاتها وقصصها، أو لتنادم كتبها، وهي لا تستشعر تصرم الوقت، وخلود الطبيعة ـفيما حولها- للسبات والهدوء.. واستمرت هذه السيدة الفاضلة تؤدي واجبها الإسلامي، بحزم وإخلاص، حتى صدر قرار عن "مجلس قيادة الثورة" البعثي، عام 1972 نص على تأميم المدارس الأهلية كافة، وكان الهدف من هذا القرار ـكما هو واضح- القضاء على "قلاع الحجاب" هذه ـحسب وصف أحدهم لها..
وبالرغم من أن القانون يشمل كل المدارس الأهلية ـحسب ما ورد فيه- إلاّ أن سلطات البعث الكافر، سرعان ما أعادت "الشرعية" للمدارس المسيحية والارمنية، والمدارس الأهلية الأخرى، مع دعمها مالياً وإعلاميا..
واتضح بعدئذ، بأن الهدف كان هو هذه المدارس وتمكن منجنيق البعث من هدم هذه القلاع الشامخة، ولم يكن أمام السيدة الفاضلة إلاّ أن تخرج، وقلبها يتفطر أسى وحزنا..
بعد كل هذه الرحلة الطويلة، مع أجيال الطالبات الملتزمات يمد الإخطبوط البعثي اذرعه الثمانية، ليمتص الحيوية الإسلامية التي كانت تسم المدارس الإسلامية الأهلية.
لم تقتنع السيدة الفاضلة، أبداً، بالرجوع إلى موقعها، بالرغم من الكتب الرسمية التي بعثت إليها.. كانت تجيب من يسألها عن سبب قرارها الحازم هذا، من خلال دموعها، وآهاتها الحرّى التي تصبغ كلماتها بلون، كلون الدم: "لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة، إلاّ نوال مرضاة الله، ولمّا انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها، فما هو جدوى وجودي بعد ذلك؟"..
الهوامش:
1- كانت رحمها الله تكتب مقالاتها وكتبها بتواقيع مستعارة، هي: (بنت الهدى)، (اُم ّ الولاء)، (آ ـ ح)، (آ ـ ح ـ ا) انظر معجم الأسماء المستعارة وأصحابها، ليوسف أسعد داغر: 33 و 68 و 83 و 180.
2- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الاُولى 1380هـ، 1960م.
3- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الاُولى 1380هـ، 1960م.
4- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الاُولى 1380هـ، 1960م.
5- مجلّة الأضواء: العدد الأوّل للسنة الاُولى، ذي الحجة 1379هـ، حزيران 1960م.
6- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الثانية، 1381هـ، 1961م.
7- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الثانية 1381هـ، 1961م.
8- مجلّة الأضواء: العدد السابع للسنة الاولى 1380هـ، 1960م.
المصادر:
1- موقع الدكتورة خولة القزويني.
2- wasat-sadr.com
اترك تعليق