مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مواقف خالدة للشهيدة بنت الهدى

مواقف خالدة للشهيدة بنت الهدى

كان للشهيدة بنت العظيمة بنت الهدى مواقف خالدة في التضحية والفداء تستحق الخلود أذكرها باختصار في هذا الفصل من المذكرات:
الموقف الأول:
في فترة ما خلال الاحتجاز تمكنتُ من الخروج من بيت السيد الشهيد الصدر -رضوان الله عليه- وقد ذكرت تفصيل ذلك في كتاب سنوا المحنة وأيام الحصار، وهذا الأمر شجّع الشهيدة بنت الهدى على التفكير في الوسائل التي يمكن أن تنقذ السيد الشهيد الصدر -رحمه الله- من مخالب المجرمين الطغاة.
فكرت الشهيدة بنت الهدى -رحمها الله- (ضمن شروط خاصة) بإيجاد ثغرة في حائط يؤدي إلى بيت أحد الجيران ليتسلل منها السيد الشهيد الصدر إلى خارج البيت.
وفكرّت أن يستغل السيد الشهيد رضوان الله عليه فترات معينة يمكن أن يخرج خلالها مباشرة من البيت إلى الزقاق بالزي العربي (العقال والكوفية) وذلك خلال فترة انقطاع التيار الكهربائي في الليل في بعض الأحيان ، أو ظرف آخر مشابه لهذا.
وطلبت مني أن أهيئ للسيد الشهيد الصدر -رضوان الله عليه- عقالاً وكوفية بواسطة الحاج عباس ، وشرطت أن أتبع أسلوباً لا يثيره ويدفعه للتسائل عن السبب.
كنت أحسب أن ذلك كان بعلم السيد الشهيد رضوان الله عليه ولم يخطر ببالي أنها كانت تخطط بمفردها لانقاذه، وما من شك إنّ حرص الشهيدة بنت الهدى على سلامة أخيها قد يكون في جزء من مبرراته عاطفياً، فمن للشهيدة بعده؟ هو الأخ الوحيد وهي الأخت الوحيدة، تشعر إنّ الحياة من دونه لا معنى لها، والعيش من دونه بئس العيش. وليس منطقياً أن نعتبر هذه الاحاسيس والمشاعر غير منسجمة مع ما نعرف عن بنت الهدى من صلابة في الإيمان، شجاعة في المواقف، إلاّ إنّني وجدتُ الشهيدة -رحمها الله- بعيدة المدى تجلى لي موقفها الإيماني التضحوي حينما طرقنا يوماً مع السيد الشهيد -رضوان الله عليه- وكان يحاول أن يصرفنا عن الحديث في هذا الشأن.
كانت السيدة الشهيدة تتصّور أن أهم مانع من تنفيذ فكرة خروج السيد هو العائلة، فهل يقبل الوجدان أن ينقذ نفسه ويضحي بأسرته، إنّه أمر لا يمكن أن يخطر بالبال. وحينما. بينما كان السيد الشهيد ـبسبب بعض الأمورـ قد عزّز فكرة الإستشهاد والتضحية، فلّما وجدت منه عدم التجاوب قالت له: "أخي إذا كنّا نحن المانع لك من ذلك فنحن والله لا نبالي ، ولا تفكّر بنا ، فنحن على إستعداد لأن نموت من أجلك إنّ هذا طريقنا".
فرفض رضوان الله عليه وظهرت عليه علامات التأثر العاطفية فهو يعرف حراجة الموقف من بعده لعائلة أنهكها الإحتجاز والرعب والقلق ثمّ ها هي تستعد للتضحية ن أجله فقال لها: "أو بعدما استشهد السيد قاسم شبر وأمثاله من المؤمنين أفكّر بالحياة والأمن؟ إنّ هذا اليوم يوم التضحية إنّ لديّ رؤية واضحة إنّ خياري هو الشهادة، فهو آخر ما يمكن أن أخدم به الإسلام".
أدركتُ حينها إنّ الشهيدة لم تكن تفكر بالسيّد الشهيد الصدر -رحمه الله- على أساس الروابط العاطفية والرحمية وإنّما انطلقت من دافع إيماني قوي فها هي مستعدّة للتضحية قبله راضية مطمئنة عن قناعته وثبات وعزم.
الموقف الثاني:
ذكرنا في كتاب سنوات المحنة وأيام الحصار(1) فكرة القيادة النائبة وإن من فقرات تنفيذ تلك الفكرة خروج السيد الشهيد إلى الصحن الحيدري الشريف ليُعلن هناك عن تشكيل القيادة ثمّ تحريض السلطة وإجبارها على قتله في الصحن ليكون دمه مشعلاً وهّاجاً يؤجج في النفوس روح مواصلة الثورة حتى إسقاط النظام.
والحقيقة إنّ الشهيدة بنت الهدى كانت قد اقتنعت إنّ السيد الشهيد سوف لن يتراجع عن موقفه الإستشهادي، وكنّا متّفقين على أن لا ينعكس ذلك على العائلة عموماً ، فكنّا نتظاهر بالهدوء التام والإستقرار.
وهنا جاءت بنت الهدى -رحمها الله- لتسجل صفحة نادرة من التضحية، وموقفاً من أعظم المواقف في تاريخنا المعاصر.
قالت لي -رحمها الله-: إنّ السيّد مصمّم على الخروج إلى الصحن؟
فقلت لها: نعم.
قالت: أنا أخرج معه.
قلت: لماذا؟ يكفي ما قمت به يوم السابع عشر من رجب!
قالت: أعتقد إنّ استشهادي مع أخي سوف يكون هل بالغ الأمر، إنّ ابن سعد إنّما لم يقتل زينب -سلام الله عليها- ليس تحرّجاً من دمها وإنّما لأن دمها سوف يكشف بوضوح تام الحقيقة للناس، ويعرف الغافلون حجم غفلتهم وعظيم جنايتهم وتقصيرهم وأنا اليوم أريد لدمي أن يخدم الإسلام.
ثمّ قالت: أطلب منك أن لا تخبر السيّد بهذا الحديث.
قلت: لماذا؟
قالت: أخشى أن يحرّم عليّ الخروج فأقع في حرج. واستشهد -رضوان الله عليه- وهو لا يعلم بموقف أخته هذا.
الموقف الثالث:
بعد اعتقال السيّد الشهيد -رحمه الله- يوم الخامس من نيسان 1980م سحبت السلطة كافة قواتها التي كانت تطوّق المنزل وذهبت الشهيدة بنت الهدى تستطلع فلم تجد أحداً منهم.
أحست -رحمها الله- أن يوم التضحية قد جاء فذهبت إلى غرفتها، فابدلت ملابسها بأخرى، وربطت ثوبها على معصميها ظناً منها بأنّها ستسترها حين التعذيب وقالت لي: "أترى أن هذا يسترني حين التعذيب؟
فقلت لها: سوف لن تتعرضي للإعتقال إن شاء الله. فقالت: والله لست خائفة فأنا انتظر هذه الساعة وما أسعدني إن استشهدتُ مع أخي، وما اتعسني إن بقيت بعده".
ثمّ اعطتني حقيبة صغيرة فيها مجموعة من الرسائل والصور وقالت هذه مجموعة أعتبرها حصيلة عمر من الذكريات بحلوها ومرّها لم أتلفها في الأيام الأولى فإذا اعتقلوني فأرجو إحراقها لكي لا يقع شيء منها بيد أجهزة السلطة.
وفي اليوم التالي السادس من نيسان 1980م بعد الظهر جاء المجرم الخبيث مساعد مدير أمن النجف المعروف بـ (أبي شيماء)فطرق الباب وحاول أن يدخل، فلم تسمح له الشهيدة بدخول الدار فقال لها: علوية إنّ السيّد طلب حضورك إلى بغداد!
فقالت: نعم سمعاً وطاعة لأخي إن كان قد طلبني، ولا تظن أني خائفة من الإعدام، والله إني سعيدة بذلك إنّ هذا طريق آبائي وأجدادي.
فقال لها -كاذباً-: لا علوية بشرفي إنّ السيّد طلب حضورك.
فأجابته الشهيدة مستهزئة: صدقت بدليل إنّ قواتكم طوّقت بيتنا من جديد.
وكانت قوات الإجرام قد طوّقت منزل السيّد الشهيد رضوان الله عليه.
ثمّ قالت له: دعني قليلاً وسوف أعود إليك ولا تخف فأنا لن أهرب. وأغلقت الباب بوجهه.
ثمّ جاءتني وقالت: "أخي أبا علي لقد أدى أخي ما عليه ، وأنا ذاهبة لكي أؤدي ما عليَّ إنّ عاقبتنا على خير.. أوصيك بأمي وأولاد أخي، لم يبق لهم أحد غيرك إنّ جزاءك على أمي الزهراء والسلام عليك... ".
وكان سبب هذا الكلام أنّه في الفترة الأخيرة من الحجز كان رجال الإرهاب (الأمن) حينما يسمعون حركة وأصوات الأطفال من خلال واجهة غرفة مطلة على الزقاق يقتربون من المكان ثمّ يطلقون عبارات تهديد بانتهاك العرض والإعتداء ليرعبوا مَنْ في البيت، وكانت الشهيدة قد سمعتهم كرات ومرات يهدّدون ويتوعدّون. وكانت لا تدري كيف تعالج هذه المشكلة، وبعد مشاورات بيني وبينها قررت أن تطلب من السيّد الشهيد أن يتصل بأحد الشخصيات الدينية الكبيرة ويطلب منه حماية عائلته بعد اعتقاله.
لقد رفض السيّد الشهيد ذلك لأسباب لا أريد الإفصاح عنها، إلاّ أنّه وجد إصراراً كبيراً من أخته -رحمها الله- فوعدها بذلك. وحينما اعتقل طلب من مدير الأمن أن يودع عائلته وفي هذه الأثناء اتصل هاتفياً بتلك الشخصية وأخبره بأنّه أُعتقل وسوف يُعدم وطلب منه أن يحمي العائلة، فرفض وقال: أنا لا أتدخل وأغلق الهاتف.
ولهذا السبب لم تجد بُداً من الإستنجاد بيّ لحماية أفلاذ الأكباد الذين قاسوا العذاب ثمّ ها هم على وشك مأساة أخرى.
هذه بعض المواقف التي علقت في ذاكرتي، وأظن إنّ ما ضاع أكثر.
 
المصدر: دائرة معارف الامام السيد محمد باقر الصدر
الشهيدة بنت الهدى سيرتها ومسيرتها، الشيخ محمّد رضا النعماني 19/محرّم الحرام/1356هـ = 1/4/1937م، الكاظميّة

التعليقات (0)

اترك تعليق