مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

عند الحدود

عند الحدود: سأحكي لكم عن شعب يضع حدوده مع المحتلين، عن امرأةٍ تلد مقاومين...

عند الحدود*..!

شرعت أم البنين العائدة من رحلتها إلى الجبهة، تتفقد قاعة "نادي الشقيف" حيث تناولت طعام الغداء مع رفيقاتها، المبدعات العربيات، والمدعوين، قبل دقائق معدودات. وراحت تحدّق في وجوه الحاضرين، وتتمتم في حالة تهيّب، اختلطت في ناظريها وجوه الناس البسطاء العاديين، بوجوه القديسين. بل كانت تعيش وضعاً، يمكن أن يقال فيه، إنّه وضع الانتشاء والفرحة، الممزوج بالحزن القاتل.. الفرحة بملامسة الأقدام العارية التي تجبه العدو وتنتصر عليه، وبمعانقة الوجوه التي تلد مدافع تسعى في وقت تعيش فيه الطيبة والبساطة، وتغنّي مواويل العشق والحزن وحيدةً، على أرض تنبت القمح والشجر إثر كلّ عملية احتراق... أمّا الحزن، فمردّه إلى تلك الإهمالات العديدة، التي يعاني منها أولئك الناس.
الرحلة من النبطية، بل من مركز النادي المواجه للمواقع المعادية، المُقامة على الأرض اللبنانية المحتلة... إلى "كفررمان" أو الجبهة، كما حلا لمدير الرحلة أن يسمّيها، لم تستغرق سوى دقائق، عادت بعدها أمّ البنين مع رفيقاتها، اللواتي يزرن الجنوب "جبل عامل" للمرة الأولى، محمّلات بألف همٍّ وغمّ، فالمشاهد التي صارت مألوفة لزينب الحاج علي، المجلّلة بسوادها، والجالسة عند العصر، على بلاطة ساحة "كفررمان" الخالية إلاّ من وجوه أحبتها وتذوقت المرارة معها... والشريط الشائك الملقى بإهمال عند آخر الساحة، والمدخل المزدان بأشجار السرو والرمان والكينا... والحقول المكشوفة، المزروعة قمحاً وتبغاً.. وخديجة التي رفعت قامتها عن شتيلات التبغ، وتوقفت عن ترديد مواويل الصيف الحزينة.. وضعت كفّها فوق عينيها، وأخذت ترقب عن بعد "باصاً" طويلاً يعدو صوب القرية.. هذه المشاهد سبّبت لهنّ صدمة.. فمنذ اللحظة التي أعلن فيها مدير الرحلة عن الرابعة مساءً موعداً لزيارة الجبهة، وطلب إلى الجميع التوجه إلى "الباص"، خفقت صدور من الفرح، واصفرّت وجوه، ووجفت قلوبٌ حزنا وخوفا، شعرت أمّ البنين التي انتابها إحساسٌ غريب، بالقلق الممزوج بالفرح، وراحت تتفقّد المقعد تحتها، مع أنّها جلست عليه من بيروت إلى النبطية، مروراً بصيدا وصور والزرارية. كان الباص مريحاً من قبل، أمّا الآن فلا تعرف ماذا يداخلها. وكلمة المعرّف أخذت تحفر في قلبها مثل آلة حادة... أهو الخوف من المواقع المتقدمة؟ أم أنّها الفرحة بمعاينتها عن كثب، علّها تكون مادةً جديدة للكتابة؟ أم الاثنان معاً، يا ترى؟ جلست أمّ البنين تتصوّر الجبهة، تلالاً من الأتربة، وأكياساً من الرمل وخنادق، وعوائق حديدية، ودشماً، وأعداداً لا حصر لها من الجنود المعتمرين خوذاً مموّهة يسألون القادم إليها عن هويته، يدقّقون فيها، يحذّرونه من سلوك حقول الألغام، ومن اجتياز الطرقات المقنوصة.
ووجود مدنيين عند آخر بلدة محررة، تتعرّض للقصف والقنص، يومياً، يعني بالضرورة وجود ملاجئ وحواجز وحقول مزروعة بالعوائق، تعيق عبور المحتلين المشاة، على أقلّ تقدير. فمن كلّ التعزيزات التي انتظرت أم البنين مشاهدتها أبصرت شريطاً شائكاً، لا يزيد طوله على أمتار معدودة، مرمياً عند آخر الساحة. ولمّا سألت زينب عن واضعه والحكمة من وجوده بهذا القدر الضئيل من الطول، ضحكت زينب وأجابت بطيبة متناهية:
- هذا الشريط الشائك، نحن وضعناه يا عزيزتي، ونحن نرفعه حين نشاء.
- ولم يا زينب؟ (سألت أم البنين)
- لننجّي الغريب عن البلدة، من الشرَك.
- عن أيّ شرَك تتحدثين؟
- إن هذا الموقع مقنوص، وأومأت إلى مكان الشريط، والقنّاص اللعين القابع وراء دشمة "الدبشة" يرمي برصاصه الغادر كلّ كائنٍ يتحرّك.
تلك الرحلة القصيرة، التي لم تأخذ من وقتهنّ، نصف ساعة، على أكثر تقدير، فعل في نفس أمّ البنين، ما لم تفعله الإذاعات العربية، ووسائل الإعلام الأخرى، على مدى أربعين عاماً... فكلمة مدير الرحلة: "بإمكانكنّ مشاهدة المدافع الاسرائيلية المعادية، بالعين المجرّدة"، سرت في بدن أمّ البنين، كدبيب نمال، شعرت بعدها بموجة من البرداء تجتاح جسمها... وأطلّت فعلاً، فإذا بفوهاتها الفاغرة، كالرقش لحظة الانقضاض على صيدها... والمواقع المعادية "الدبشة" و"الطهرة" و"علي الطاهر"  وغيرها... المطلّة على البلدة بشكل مريع، يجبهها جمع من المزارعين، والتلاميذ والعمال، وصفٌّ طويل من مساكب الملوخية، وحقول التبغ، والبيوت المتواضعة، وبعدد كبير من البنايات الحديثة. وهذا ما دفع أمّ البنين لأن تسأل مستنكرة، بعدما نقّلت بصرها بين "الدبشة" و"البنايات العالية":
- ماذا تفعلون عند الحدود، وعلى بعد أمتار من المواقع يا أخي؟ (سألتني).
- إنها الحياة، وبكلّ بساطة، يجب أن تستمرّ.
- ألا تخشون قذائف تلك المدافع، وصواريخ الطائرات؟
- بلى، (قلت) وأشرت إلى بناية مهدّمة، وإلى جرافة وورشة بناء...
بعد رحلة نصف الساعة تلك، صعد عريف الاحتفال المنبر، ليعلن عن تقديم مجموعة من المبدعات في قراءات شعرية وقصصية...
وحدّقت أم البنين، الجالسة إلى يساري، به، وهزّت برأسها، وتساءلت: وأيّ شعر يحلو بعد مرارة الرحلة يا أخي؟ وأيّة قصة تطيب قراءتها بعد قصة أولئك الناس الطيبين، الذين لمّا وجدوا أنّهم يتعرّضون للقنص، اشتروا شريطاً، نصبوه ليمنعوا به الغريب عن البلدة من الموت... قلوبهم علينا، وقلوبنا على من يا ترى؟... واغرورقت عيناها بدمع حميم.
افتتح مدير الرحلة مرحّباً بالمبدعات العربيات على أرض الجنوب، أرض جبل عامل، مبتدئاً:
- "قال صاحبي عندما وقف على بوابة الجنوب يستأذن بالدخول إليه"(1).
- -إخلع نعليك إنّك في الأرض المقدسة
وصفقت أمّ البنين، وصفّق الحاضرون، ثمّ انثنت إليّ تخبرني هذه المرة:
- الآن، تعلّمت معنى القداسة.
- وكيف، سألت هامساً، لئلاّ أحدث تشويشاً على المستمعين.
- زينب علّمتني القداسة... فمعصمها العاري من سوار دفعته لأبطال الجزائر، وجيدها الخالي من عقد قدّمته لثورة مصر، وثيابها السود التي تأتزرها حداداً على ابن قدمته لفلسطين. وهي الآن تعيش البساطة، على أرض رفضت مغادرتها، وأصرّت على البقاء بين بساتين الزيتون وحقول القمح والتبغ، تسألنا:
- أهلاً وسهلاً، ماذا جئتم تفعلون هنا؟ ألا تخشون القناص؟ وحذار أن تكونوا ضللتم الطريق، فمثل هذا الباص لم نره من قبل!
- لا، لا، يا أختي، نحن مجموعة من النساء العربيات، أتينا نتفقد الجبهة. وشرقت زينب بدمعها وسألت بلهفة، بعدما مسحت عينيها بطرف منديلها:
- وأين الرجال العرب؟!
مزّقني سؤالها، فعانقتها ثمّ دعتنا إلى بيتها بعدما تعارفنا:
- أم البنين؛ قاصّة من المغرب.
- زينب الحاج علي، مواطنة لبنانية منذ أكثر من عشر سنوات، أبي ولد هنا، ونحن نموت هنا بصمت وإباء. كما ترين... إنّنا ندفع ضريبة الصمود.
نزل مدير الرحلة، وتعاقب على المنبر مبدعات. وكانت القصائد والكلمات، ومن على منبر الحسينية المجاورة للمركز، كانت كلمات أخرى تلقى تكريماً لشاب آخر استشهد في المواجهة...
وكان الجنوب حاضراً فيهما، وأم البنين لا تنفكّ تحدثني بين القصيدة والقصيدة عن زينب ومدافعها، وكيف ضحكت حتى البكاء، وراحت تسخر من نفسها بعد تلك الإجابة البريئة التي تلقّتها رداً على سؤال طرحته لدى إشارة مدير الرحلة إلى إمكانية معاينة المدافع الإسرائيلية عن كثب:
- وأين المدافع العربية يا زينب؟!
- إنّه المدفع السادس، كما ترين، وأومأـ إلى بطن خديجة ابنتها...
- أتهزئين مني؟ (سألت أم البنين).
- لا، عفواً، وعادت فأشارت إلى شاب يعمل في ورشة بناء، وإلى آخر يقطف التبغ مع المساء، لأنّ له مع الليل شؤوناً أخرى.. وإلى رابع متوجّه صوب النادي الثقافي، وإلى فتاة تحلّب حبيبات الزيتون...
وفجأة، قطع عريف الحفل على أم البنين لذّة استعراض تلك الصور، وقال:
- الآن، ستقدّم لكم القاصّة المغربية شيئاً من جعبتها، إثر زيارة الحدود...
وقفت أمّ البنين، الجالسة في قاعة لا تبعد عن أوّل موقع معادٍ سوى أمتار فتقدّمت إلى المنبر، والشريط الشائك الذي يفصل "كفر رمان" عن ساحتها، يضجّ في مخيّلتها، لأنّها رأت واحداً شبيهاً به، كان يفصل جسد القدس نصفين... تنهّدت على المنبر، وقالت: سأحكي لكم عن شعب يضع حدوده مع المحتلين، عن امرأةٍ تلد مقاومين، عن بناياتٍ شاهقة عند الحدود... عن زينب الحاج علي، عن أرض علّمتني معنى القداسة... "كفر رمان" هي القدس، غير أنّ الشريط هنا، تضعه امرأة، ويرفعه طفل إذا شاء... ثمّ صمتت، وراحت الدموع تنسج أجمل قصة، عند الحدود.


*بدعوة من اتحاد الكتّاب اللبنانيين، والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، زار وفد من المبدعات العربيات الجنوب. وفي كفر رمان، آخر بلدة محررة، كان للسيدة خناتة بنونه وقفة تأمّل، بكت فيها، من الحزن، من الفرح، لا أعلم، إنّما الذي أعلمه أنّ دموعها همت على وجنتيها ساعة طُلب إليها أن تتحدث عن الجنوب وأرضه والناس.
(1) من كلمة للنائب الأستاذ حبيب صادق، أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.


مصدر: من كتاب "العيون الغاربة"، د. علي حجازي، دار الميزان، ط1.

التعليقات (0)

اترك تعليق