شهادة نجاح..
ليس البوح بما في الفؤاد بالأمر السهل على الإنسان، فثمة أسرار تشبهُ بغليانها البركان، فإذا ما تنفس القلبُ بما فيه، انسابتْ من العيون حمم الحزن وأحرقت الوجنات.
وما سأبوح به، لَوَنَهُ دمعُ الندم.. ولو تعلمون! إنه لا ينفعُ الندم.. فاسمعوني بقلوبكم.. عسى أن تنجحوا فيما فشلتُ به.. فتتفلتوا من براثن المظاهر التي تنسيكم بأن للإنسان جوهرٌ يشعُ في قلبه ويلوح في سيماء وجهه.. وأن نجاحنا في هذه الدنيا لا يعني أبداً فشلُ الآخرين.. إن التميّز المبني من مراقبة هفوات الآخرين، لهو أكبر دليل على الفشل..
أنا حينما كنتُ طالبة في السنة الجامعية الاولى، نأيتُ بنفسي عن أجوائها المفتوحة للكثير من التيارات والأهواء المختلفة.. وحافظتُ على بيئة محدودة جداً وخاصة بي...
في كل يوم يكون ضجيجُ الطلبة عالياً في الأروقة.. فأشق الصفوف بخطى ثابتة، وكأني لا أرى أحداً من حولي .. وهو، كالعادة يقف بالقرب من السلم مع مجموعة من الزملاء يتحادثون.. إنه زميلي في القاعة ذاتها..
ذات نهار لمحتُ بطرف عيني نظراته تلاحقني ليوصل لي رسالة إصراره على التحدث معي، فأشحتُ بوجهي عنه، وعلامات الاستياء ظاهرة جلياً على ملامحي..
أنا بالفعل اقصدُ إظهار استيائي منه.. مع أني عرفت من صديقتي المقربة برغبته في التحدث معي بشأن الخطوبة.. فلم أفسح له في المجال، على الرغم من أن أية فتاة تتمناهُ عريساً.. فهو شابٌ جميل الطلعة، هادئ الطباع، محبوب من الجميع.. ولكن ما دفعني للتعامل معه بهذا الجفاء، أني كنتُ استغربُ قدرته العجيبة على التحدّث مع جميع الطلبة تقريباً وبناء علاقة ودودة معهم.. فأنا كيفما تلفتُ رأيته ضمن مجموعة.. وكان دائم التبسم إلى درجة تستفزني..
ضَحكتْ كثيراً رفيقتي حينما عرفت أن هذا سبب استيائي منه، ونصحتني ذات يوم: " لماذا لا تقفين مرة واحدة لتسمعي حديثه؟! صدقيني أنه شابٌ ملتزمٌ ودمث الأخلاق.. وعقد الحاجبين ليس دليلاً على الرصانة! فلماذا تحكمين عليه من بعيد؟! فقد يكون يحدثهم بما يفيدهم.."
أجبتها بحزم: "وعن ماذا تراهم يتحدثون! بالطبع عن أمور سطحية وعابرة! انظري إليهم.."
نظرتُ إلى الباحة الواسعة في الجامعة هرباً من الإجابة.. وجدتني أبحثُ عنه حتى إذا ما رأيته من بعيد، رفعتُ رأسي قائلة لها: "يا إلهي! انظري إليه.. كثير التحدثُ مع الطلاب.. دائمُ الضحك.. إذا كان شاباً ملتزماً كما تدعين، فعليه أن يلتفتَ إلى التزامه أكثر".
وقفلتُ عائدة إلى البيت.. فكرت بشأنه طويلاً.. إنه لا يبدو لي شخص ملتزم كما أتمنى وأريد.. وقفتُ أمام المرآة.. نظرتُ إلى نفسي جيداً.. لقد حافظتُ على أدق تفاصيل التزامي، ولم أسمح لشيء بأن يزعزعه.. ثيابي شرعية فضفاضة.. حريصة على التخفيف قدر المستطاع من الاختلاط.. قليلة الكلام، وإن تحدثتُ انتقيت كلماتي بدقة.. فإذا حقاً يريدُ خطبتي، عليه أن يكون على قدر التزامي وتديني!
دخلتُ القاعة.. كان يجلسُ خلف أحد المقاعد ينظرُ إلي نظرات حزينة..سألتُ نفسي: لماذا هو حزينٌ دائماً؟ حتى أن ضحكاته لا تمحو الحزن الظاهر فيهما.. وماذا يريد أن يقول لي يا ترى؟ ما هو ذلك الهمّ الذي يشغلُ باله؟"
وكان يوم صدور نتائج امتحان آخر السنة. قرأتُ اسمه على لائحة الناجحين.. وجاءني صوته من خلف: "هل نجحتِ؟"، استدرتُ وأجبته بتبرمٍ: "لا".. ومشيتُ بعيداً عنه..
لم أكن أدري حينذاك أن رسوبي في السنة الأولى ما هو إلا مقدمة لنتيجة أكثرَ قسوة بانتظاري..
أمضيتُ عطلة صيف هادئة متناسيةً كل ما حدث في السنة الدراسية.. فإذا ما حان وقت العودة إلى الجامعة، انتقلتُ إلى كلية أخرى بعد أن بدّلت اختصاصي.. لم أره طوال العام، وقبيل الامتحانات النهائية كنتُ أقف ورفيقتي ذات يوم في الباحة، حينما اقترب منا مسلماً.. كانت عيناه تفيضان حزناً، ورمقني بعتابٍ واضح محدّثاً رفيقتي: "لماذا لا تسمح صديقتك لنا أن نحدثها"، فأجبتُ بصوت رخيم وحاد: "هكذا أنا.. لا أحبّذ ذلك".
بالطبع لم يكن تديني هو ما دفعني لا تعمد إحراجه، بل غروري المختبئ خلف قناعٍ تماهى ووجهي.. سرعان ما استأذن ورحل. كنتُ أريد أن أعلمه بأنه إذا أراد أن يحدثني عليه أن يتوقف عن ما اسماه كبريائي الأجوف: "ثرثرة مع الآخرين..
منذ ذلك الحين لم أعد أراه.. وانتهت السنة الدراسية بسلام..
كنتُ متسمّرة أمام شاشة التلفاز لسماع آخر أخبار الحرب التي شنها العدو الإسرائيلي على لبنان في تموز من العام 2006.. كنا قد تركنا بيتنا في الجنوب ونزحنا مع النازحين.. وبعد عرض مذيع الأخبار لآخر المستجدات بدأ بقراءة بيان المقاومة الإسلامية الذي زفت فيه بعض الشهداء..
جمد الدم في رأسي، وانسابت دمعة حارقة على خدي .. أخرستني الصدمة، وشعرتُ بحبلٍ غليظٍ يلتفُّ حول رقبتي ليخنقني..
رنّ اسمه في أذني، فانفرطت روحي وتناثرت دموعاً مكتومة الصوت.. وتمتم قلبي: لقد استشهد! استشهد ذلك الشاب المجاهد الذي ظننتِ أن عليه الانتباه لالتزامه أكثر، كي يليقُ بكِ.. أنتِ..أنتِ الغارقة بمتاهة الأنا! ربما لو انك سمعتِ شيئاً ما من حديثه، لعرفتِ أن ما كان كل ما قاله لرفاقه بمثابة وصايا توصلهم إلى الله عز وجل.. وأن ذلك الحزن كان حزن المشتاق إلى الله..
إنهم الشهداء.. أولئك المعلومون المجهولون..
استشهد ذلك الشاب.. الذي كان يصون حجابي وكرامتي بدمه.. الآن فقط عرفتُ سرّ نجاحه.. وأسباب فشلي.. ولكن! لو تعلمون.. لا ينفع الندم!
مهداة إلى روح الشهيد المجاهد علي الجواد
نسرين إدريس
المصدر: موقع مؤسسة الشهيد.
اترك تعليق