في ضيافة صاحب الزمان(عج)
استيقظ باكراً. كان الجميعُ نائماً ما عدا أمه التي بدأت بترتيّب المنزل. اقترب من النافذة. شعر بالنسيم عليلاً يدغدغُ الأرواح. كان ينظرُ إلى أمه بطرف عينه بين الفينة والأخرى. انتظر قليلاً قبل أن يتوجه إليها بالسؤال: "متى سيعود أبي؟".
نظرتْ إليه باستغراب. ولكن! لماذا يسألُ عن أبيه؟! اقتربت منه: "ولماذا تسأل؟" جلست بالقرب منه وداعبت شعره بأناملها. لا شكّ بأنه يخفي شيء ما عنها. ارتباكه، قيامه باكراً جداً من مرقده، وعدم مكوثه في مكانٍ محدد.. كل ذلك يبوح بأنه يخفي شيئاً ما..
- سألته: ماذا يزعجك يا حبيبي؟
حدّق في عينيها.. لم يرَ فيهما غير الهدوء والسكينة.. حتى ابتسامتها لم تخبو.. حدّث نفسه: ترى! كيف يمكنها أن تتعامل مع الأمور بهذه الطبيعية؟ نكس رأسه. إنها دائماً تتدبر الامر! ولكن هذه المرة لن تستطيع ذلك، فالشمسُ التي تطلُّ ببطء من خلف الجبال لتنشر الصباح، تؤذن بقرب استيقاظ اخوته! لا ريب بأن القلقَ الآن يتعرشُ بداخلها، وهي تقلّبُ الأفكار لتجد حلاً.. ولكنه لن يستطيعُ اخبارها بأنه يعرفُ كل ما يجول بداخلها! لن يستطيع البوح.. فماذا يفعل؟ وماذا يجيبها سوى بـ: لا شيء يا امي.. لا شيء..
أدرك أنها لم تصدقه.. رجعت لمزاولة عملها لتهبه الوقت الكافي ليخبرها بما يقلقه. كان عليه أن ينتبه أن سؤاله عن والده سيثير الريبة في نفسها. فهو أكثر من يدرك أنه والده لن يعود اليوم، وربما ليس غداً.. إنه الآن مع المجاهدين في الثغور. تنهد وقام يتمشى في المنزل.. ماذا يفعل؟! نظر إلى أخوته الصغار فرّق قلبه لهم.. فكّر كثيراً بما يمكن أن يفعل شيئاً ما لأجلهم.. ولأجل أمه التي جُبلت بالتعب فلم يسمع منها يوماً شكوى أو تبرماً.. إنها تقضي أيامها بين تنظيف المنزل وتحضير الطعام والاهتمام بهم، وهم ستة اولاد احدهم مريض، كما انها تتنقل من قرية إلى أخرى لإعطاء الدروس الدينية، واستقبال الضيوف الذين يعج بهم المنزل ما إن يأتي والده من المحاور..
لطالما رآها تكابد التعبْ، حتى انها تعجزُ عن الوقوف في كثير من الأحيان.. ولكن ما إن يطرق والده الباب حتى تهبُّ ناحيته كنسيم عليلٍ قائلةً: " جاء السيّدُ.. ذهبَ التعبُ.." وتستقبله بالتبسم والترحاب، وحينما يجلسان ليتحدثان، تخبره بكل شيء.. الصغيرةُ قبل الكبيرة.. ولكنها لا تشكو له.. ولا تتأفف.. واذا ما اسرت له بشيء ما يزعجها، كللّت الكلمات بالتبسّم والخجل..
ما أجمل قلبها الكبير.. ما أروعَ زهدها وطيبتها.. إنه يذكر جيداً كيف أنها في ذلك اليوم الممطر حينما كان البردُ قارصاً، لما قصدتها امرأة فقيرة لتطلب منها مساعدة.. لم يكن بحوزتها فلساً واحداً، وخوفاً من أن تردها مكسورة الخاطر، لفت سجادة المنزل واعطتها اياها، مع انها لن تستطيع شراء واحدة أخرى!
دخلت أمه غرفة النوم، فدخل خلسة إلى المطبخ وفتح البراد بسرعة.. نظر ملياً بداخله ثم أغلقه.. فتّش في الخزانة فلم يجد أيّ شيء..
يا ربي! ماذا ستقول لإخوته الصغار حينما يستيقظون، ويطلبون تناول الفطور؟! ماذا ستفعل وهي لا تملك ثمن ربطة خبزٍ؟! ولكن! ربما كل ما يجول بداخله وهمٌّ وهي تعرفُ ما ستحضّر من طعام للفطور!
اقتربَ من باب غرفة النوم.. استدارت ناحيته:
- هل أصبحتَ جاهزاً لتخبرني ما بك؟
تمتم بخجلٍ: أنا.. أنا جائع..
تركت ما بيدها، ووقفت قليلاً وهي تنظر إليه.. انتظر جواباً يثلج فؤاده، فردت بلطفٍ: ألن تنتظر أخوتك؟! سيستيقظون بعد قليل..
هزَّ برأسه.. بالطبع سينتظرهم.. بل هو قد سأل لأجلهم..
دخل غرفة الجلوس.. واستيقظ أخوته واحداً بعد الآخر..
مرّ وقتٌ على استيقلظ الاولاد.. وانتظر ان تناديهم لتناول الفطور ولكنها لم تفعل.. ذهب إليها وقال: لا يوجد طعام في المنزل، وليس معك مال اليس كذلك؟!
تنهدت واجابته باطمئنان: ولماذا أنتَ قلق هكذا؟
استغرب قائلاً: "وأنتِ وأخوتي؟ ماذا ستأكلون؟"
ابتسمت وحضنته: أنسيتَ يا حبيبي أن اليوم هو يوم الجمعة؟
عقد حاجبيه ونظر في وجهها الذي يفيض بشراً وهي تكمل: "اليوم هو يوم الإمام صاحب الزمان عليه السلام، ونحن في ضيافته، فهو الذي يطعمنا ويسقينا من مائدته"..
قالت ذلك وذهبت لتكمل عملها.. خفق قلبه بقوة.. كانت نبرة صوتها صادقة وصافية كماء الينبوع الرقراق.. جلس بالقرب من اخوته، وفي رأسه الصغير تدور الافكار.. بعد برهة من الزمن.. كانت امه تقف في المطبخ حينما طرق باب البيت..
وجل قلبه.. قام وفتح الباب.. كان ثمة رجل من القرية المجاورة يقف وبالقرب منه سلال من الفاكهة والخضار.. سلم الرجل عليه قائلاً: هل سماحة السيد عباس موجود؟!
أجاب ياسر: لا.. السيدُ ليس هنا.. تفضل..
شكره الرجل واعتذر اليه لأنه على عجالة، وقال: " هذه السلال لسماحة السيد، ليبارك الله موسم هذه السنة"..
ذهب الرجل.. وبقي ياسر أمام الباب المفتوح.. ادار وجهه لينظر الى امه وهي تبتسم له وتمسح كفيها من الماء..قال: "واللهِ.. أنتِ على موعد مع صاحب الزمان؟! "
المصدر: موقع مؤسسة الشهيد.
في ضيافة صاحب الزمان مهداة إلى الشهيدة السيدة أم ياسر الموسوي.
اترك تعليق