جنوبيتان من وطني
مسحت "مريم" جبينها بطرف كمّها، ونفضت يديها من التراب، وأسندت ظهرها إلى الصخرة ذاتها التي كانت تختبئ خلفها حين كانت تلعب (الغمّيضة) مع الفتيات من قريباتها وجاراتها يوم كانت في الثالثة عشر من العمر، وسرحت ذاكرتها وهام فكرها إلى أيامٍ خَلَتْ، وقالت في سرّها: "الله يرحمكْ يا أمّي، كنتِ تقولين: (كل شي خير من بني آدم)... فكم اختبأتُ خلفكِ يا هذه الصّخرة السّمراء؟ وكم استندتُ إليكِ؟ كم سمعتِ رنين ضحكاتنا البريئة الصّادرة من أعماق القلوب؟ وصدى صيحاتنا وألحان مشاكساتنا الطفوليّة السّاذجة؟ وكم رَشَشْنا بعضنا بالمياه فتكسّرت قطراتها على سطحكِ التّرابيّ العتيق؟ إيه يا زمن...! رفيقات الصّبا، سميرة ودلال وفاطمة وماجدة وابتهال و... كلّهن تزوّجن وأصبحن أمّهات وجدّات وبعضهنّ الآن أرملات وواحدة منهنّ سبقتنا إلى دار البقاء، إذ أصيبت برصاصة قنصٍ أثناء الحرب الأهلية فتركت في القلب حسرةً وفي العين دمعة وفي الوجدان ذكرى عزيزة... أما أنا فقد طلب يدي العديد من الشبّان، إلا أنني ما أنِسْتُ لوجه أحدهم كما آنسُ حين أستند إليكِ يا صخرة الطّفولة! وما ألِفتُ النّظرَ في عيني أحدهم كما ألفتُ النّظر إلى مصطبتنا ودارنا والدّالية والحقل...! وكنت كلّما فكّرتُ أنني سوف أترك الدّار انتابتني نوبةٌ من القلق العارم! فالبيت الجنوبيُ لم يكن ليخلوَ، كما بيتنا على الأقلّ من بقرةٍ حلوبٍ وغنمةٍ وعنزةٍ وبضعِ دجاجاتٍ وشلعة فراخ، ناهيك عن القطط، فقد كنا نعطف على القطط الشّاردة، نؤويها ونطعمها حتى أصبح لدينا عدداً كبيراً منها. أما ببّغاؤنا فقد كان حديث القرية، فهو يردّد التّكبير مع المؤذن قائلاً: "الله أكبر، العزّة لله"، كما يردّ التحية: "السّلام عليكم" ويسأل الزّائرين مثلنا: كيفك يا حاجّ؟ كيفِك يا حاجّة؟ وقد حفظ أسماءنا وأصبح واحداً من أفراد العائلة.
كنت كلّما فكّرت في هذا كلّه آثرت البقاءَ في بيتنا وقلت في نفسي: «لن أجدَ في هذه الدنيا بيتاً أكثر دفئاً وحميميةً من هذا البيت".
إلاّ أن الأم التي كانت أمنيتها في الحياة أن تفرح بابنتها وتطمئنّ على مستقبلها قبل وفاتها فقد كانت تقول لي: "الله يرضى عليكِ يا ابنتي، أختكِ "زينب" قَسَتْ عليها الأيام، فقد تحمّلَتْ معي مشقّة الحياة القرويّة الصّعبة، وشاطرتني في تحمّل ألم الفقر ومكافحته، فقد كنتُ أترككم في عهدتها وأذهب إلى العمل في الحقل مع أبيكِ رحمه الله من الصّباح وحتى العصر، وساعدتني في تربيتكم، فنسِيَها الزّمن، واقتنعت بما قسَمَه الله لها، أمّا أنتِ فلمَ ترفضين الزواج يا ابنتي؟ ها هي أختكِ فاطمة قد تزوّجت وأصبحت أمّاً فاطمأننتُ على مستقبلها، أتمنّى أن أفرح بكِ، يكفي أنني أحمل همّ أخيك الوحيد الصّغير".
فقد كان أخي يعاني من بعضِ الضعف في الأعصاب، إلاّ أنني كنت أجيبها باسمة: "لا تقلقي يا أمي، إذا لم أتزوّج فسأبقى مع أختي زينب، نرعى أخانا ونعتني بدارنا وحقلنا وسيبقى بيتكِ مفتوحاً وعامراً بوجودكِ بإذن الله؟". هنا، أفاقت الحاجة "مريم" من شرودها على صوتِ شقيقتها الكبرى الحاجّة "زينب" تسألها: أين صرتِ ياأختي؟ هل شتلتِ البندورات؟ فأجابتها بحنان: إي يا أختي، شتلت البندورة والفليفلة والباذنجان، انشاء الله صيفية مباركة يا ربّ.
ـ الله يسمع منّك يا أختي.
فالآن أصبحتا حاجّتين بعد أن أدّتا فريضة الحجّ إلى بيت الله الحرام. وقد رعتا أخاهما أفضل رعاية فتحسّنت حالته الصحيّة كثيراً، ثم تزوّج وأقام معهما في منزل والديه،و قامتا بتربية أطفاله ورعايتهم ومساعدته مادّياً على تعليمهم، ولم يبتعد عنهما إلاّ منذ فترةٍ قصيرةٍ حيث بنى بيتاً صغيراً مستقلاً في نفس القرية، وما زالتا حتى الآن تقدّمان الدّعم المادّي والعاطفي له.
كانت الحاجّة "زينب" تنادي أختها وهي تقف في الجهة الجنوبيّة للدّار حاملةً أنبوب الماء ترشّ النعناع والبقدونس بالرّذاذ البارد، فشمس حزيران بدأت تلسع بأشعتها أوراق المزروعات، بعدها جرّت الأنبوب بكلتا يديها وتوجّهت إلى الجهة الشرقيّة وصوّبت طرفه إلى كعب الشتول التي غرستها شقيقتها قائلة: "يعطيكِ ألف عافية يا أختي".
كان الحقل أرضَهما وبيتهما وكنز آمالهما، تخدمانه برموش أعينهما، ويخدمهما بعطفه وعرفانه، تجدان فيه سرّ الراحة وعذوبة الطمأنينة، وبراءة الطفولة وسناء الزّهر والطّهر. تتعبان لكنهما تشعران أن بينه وبينهما عهدَ وفاءٍ وعطاء، وكثيراً ما كانتا تقولان: "كل ما في الحياة يخون إلاّ الأرض، تحملنا وتحمينا من غدر الزّمان أحياءً وأمواتاً".
فقد زرعتا هذا الحقل بكل ما يخطر ببال، فالجيران والأقارب ومعظم أهل القرية يشترون منهما البصل والثوم والصّعتر والسّمّاق والسّمسم، والفلفل والباذنجان والكوسى والبندورة والخسّ واللّوبياء وغيرها.. فهما تعيشان من هذه الخيرات، كما تبيعان الحليب واللّبن، وقد نجحتا في هذا المضمار نجاحاً منقطع النظير حتى باتت القرية بكبارها وصغارها تعرفهما وتحبّهما.
هما أنموذج رائع من نساء جنوبنا الصّامد، من ثرى عاملة، غفت عيونهما في المهد على حدوةٍ حزينةٍ كانت تردّدها الأمّ بصوتٍ جنوبيٍّ شجيّ:
يا حادي العيس سلّملي عليهم وقلّن يرجعوا كْرَامةً عَليهُمْ
مختصرةً فيها كلّ معاني الإيمان والإخلاص والصبر والولاء والحزن الذي يطبع قلوب المؤمنين، ورضعتا حبّ الزهراء والحسن والحسين عليه السلام وعشقت آذانهما سماع مجالس العزاء الكربلائيّ، وحفرت في ذاكرتهما وقائع الطفّ الأليمة، فلم تنسيا أبداً مسيرة السّبايا وصبر زينب ووجع زين العابدين وعطش الأطفال. وكم من سهرة سمر أمضتا أيام الصّبا على السّطَيْحة حين كان البيت يعجّ بالكبار والصِّغار، وكان يستضيف الحاج الوالد كبار الضيعة والقرى المجاورة، فيتسامرون بتبادل أخبار تاريخ المجاهدين أمثال الشهيد الأول والشّهيد الثاني، واعتداءات اليهود والمجازر التي ارتكبوها في حولا وفي فلسطين الجريحة، ممّا أصلَبَ عودَيْهما على التشبّث بالأرض والوطن والمبدأ والعقيدة وكرّس في وجدانهما أن الأرض لله يورثها عباده الصّالحين. كما شهدتا الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وخصوصاً على القرى الجنوبية والحدودية بشكل خاص ثم اجتياح 1978 وبعده اجتياح 1982، والمعتقلات التي زجّت فيها إسرائيل شبابنا من المقاومين ومن أبناء هذه القرى الصّامدة كمعتقل أنصار ومعتقل الخيام. وكم زغردت قلوبهما فرحاً وزهواً يوم التحرير في أيار العام 2000 فباتوا يُقسمون بشباب المقاومة كما نُقسِمُ عادةً بالأنبياء والأئمة عليه السلام.
برج قلاويه
القرية "برج قلاويه" هي إحدى قرى وسط جنوب لبنان المعروف بجبل عامل قضاء بنت جبيل، تقع في نقطة وسطى تبعد حوالي 20كلم عن صور من جهة الغرب، وعن بنت جبيل من جهة الجنوب وعن النبّطيّة من الشمال وتبعد 90كلم عن بيروت للقادم إليها من السّاحل عبر برج رحّال مروراً بدير قانون النهر فمعروب ثم صريفا. وهي تقع على مرتفع مشرفٍ يحمي قرية "قلاويه" من الجنوب، الواقعة في منحدرٍ يعرف "بالطباله" ويطلّ من الشرق على وادٍ عميق يفصل بينه وبين تولين، وينبع منه نهر الحجير (وادي الحجير) وتنبسط السّهول شمالاً باتجاه الغندورية والطّوَيْر، وفرون، وتنكشف أمامه منطقة النبطية وقراها وصولاً إلى مرتفعات صافي، كما ينكشف أفقه الشرقي الشمالي على قرى أعالي جبل عامل وصولاً إلى مشارف حدود فلسطين وجبل الشيخ.
المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ
اترك تعليق