لقاء من قصة ذاكرة الصدى
لقاء:
شعرت بارتياح شديد، كأن ماءً رقراقاً قد سال على جرح تغورُ فيه الدماء الحارقة، تنفستُ الصعداء، وأنا أفكر ساهمة الطرفِ: إن الله يمنحني نسمةً نديةً، تلطفُّ جفاف حياتي..
فتحتُ النافذة واستنشقت جرعةً كبيرة من الهواء...
الظلام بدأ يخيِّم على الضاحية الجنوبية لبيروت... ما زالت الأوراق أمامي تحتاج للترتيب... فالعملُ لا ينتهي دائماً على الوقت... حاولتُ جاهدةً إتمامه ولكنني كنتُ أتشاغل ببعض الأمور التي تمرُّ بطيئة مرور اللحظات...
فالعمل... والوقت... واللحظة... كلها تسيرُ في هذه المدينة على عجلةٍ من أمرها...
لستُ ادري لماذا؟؟ هذهِ المدينةِ التي حاولتُ مراراً ومنذ ستة أعوام أن أمد جسوراً للتواصل بيني وبينها لكن لم يصمد أيَّ جسرٍ أكثر من أيام... فكان ينهار على الكثير من الآمال والأحلام والأحزان... فقد أضجرتني الأبنية والسيارات والطرقات حتى الأمطار التي كنتُ احبها صارت تضجرني هنا.
وكنتُ في كلِّ مرةٍ أبدأ طرازاً جديداً من الحياة... كان آخره الاعتياد على العمل من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة مساءً... يخففُّ من وطء الزمن الزميلاتُ اللواتي اعمل معهُنَّ... فقد كنتُ محطَّ رعايتهن منذ بدأتُ بهذا العمل وعزائي أننا جميعاً فيه، نخدم المسيرة المباركة التي آمنا بها...
انزلقت الأوراق بين يدي... فأيقظتني من غفلتي وأعادتني إلى مكاني وزماني والى الهدوء المخيَّم على الأجواء من حولي...
لكنَّ اختراقاً مفاجئاً للهدوء استنفر وعيي وجذب انتباهي فوضعتُ الأوراق جانباً وأنصت إلى آذان المغرب الذي جاء ليحرَّك الحنين كما كل يوم... الحنين الذي صار يهزني شوقاً لقريتي البعيدة التي ما زالت تقبع داخل قلبي تحفر حبها الأبدي في الأعماق والوجدان...
تركتُ مركز عملي وتوجهتُ إلى المسجد.. فالليلة هي ليلة الجمعة، ولهذه الليلة نفحةٌ خاصة في حياتي..
فمنذ زمنٍ الجأ "لدعاء كميل" أسير به بعيداً عن أثقال هذه الدنيا وهمومها.. أرحل خلف الآفاق فأسمو على الجراح التي لا زالت مفتوحةً على ألف احتمال..
دخلتُ المسجد.. كان شعورٌ غريبٌ يدفعني للصلاة والبوح بمكنونات القلب بصدق كبير.
كان الجو يبعث الدفء في النفوس، حضورٌ محببٌ واندفاعٌ للصلاةِ والتقرُّب...
رأيتُ أخوات اعرفهن منذ زمنٍ... فأحسستُ ببركةِ اللقاء في هذا المسجد الذي ما زال ورغم الصعوبات الكثيرة على مر سنوات الجهاد... ما زال واقفاً يغزل قصة الإيمان والصمود والمقاومة...
أخذتُ مكاني وبدأتُ الصلاة... التي كانت وما زالت تبثُّ القوة في حياتي وتنعش الأمل للمستقبل...
كنتُ ساجدة أعلن نهاية صلاتي... حين انتشلني الصوت الذي بدأ قراءة دعاء كميل...
ارتجف قلبي في صدري...
استدرتُ ناحية الصوت... لم أعرف ما الذي حصل لي...
هذا الصوتُ... هذا الصوتُ...
بدأ قلبي يخفق متسارعاً... تنهدَّت أحاول إغماض عيني، ابحث عن نورٍ صغير اتبعه في هذا النفق المظلم وبعيد آلي حقيقة الصوت... أعرفه، أعرفه، هذا الصوتُ أعرفه...
إنه يخرج من مسامات جلدي... اعرفه حنوناً يسير مع الآلام والجراح التي تسكن في قلبي...
أذكره جيداً يوم انتشلني من ذلك المكان الضيَّق، البعيد... الذي ما زال يسكن داخل أنفاسي وحناياي... صمتت روحي.. وسرتُ بخشوعٍ وراء صدى ذلك الصوت الشجي النقي الذي كان السبب يوماً ما للخروج بين القضبان والتحليق عالياً وراء القمر والنجوم...
المصدر: ذاكرة الصدى، قصة الأسيرة رسمية جابر: أميمة محسن عليق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ
اترك تعليق