مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أم سَعد* والحرب التي انتهت

أم سَعد* والحرب التي انتهت

كان ذلك الصباح تعيساً. وبدت الشمس المتوهجة وراء النافذة وكأنها مجرد قرص من النار يلتهب تحت قبة من الفراغ المروع، كنا نطوي أنفسنا على بعضها كما تُطوى الرايات. وفجأة رأيتها قادمة من رأس الطريق المحاط بأشجار الزيتون، وبدت أمام تلك الخلفية من الفراغ والصمت والأسى مثل شيء ينبثق من رحم الأرض. قمت ووقفت أمام النافذة المشرعة وأخذت انظر إليها تمسي بقامتها العالية كرمح يحمله قدر خفي.
وجاءت زوجتي ووقفت إلى جانبي ونظرت إلى الطريق، ثم قالت لي: "ها هي أم سعد، وقد جاءت" وكنت أنتظرها لا تعلم شيئاً، فوراء ظهورنا تراكمت دروع الجنود المحطمة فوق الرمل المهجور، وشقت طوابير النازحين مسافات جديدة.
كنت أسمع هدير الحرب من الراديو، ومنه سمعت صمت المقاتلين، وهو يتكئ على الطاولة ورائي ينوح مثل أرملة، ويطلي بصوته المهزوم كل أشياء الغرفة بالتفاهة: المكتبة، والمقعد، والزوجة، والأطفال، وصحن الطعام، وأحلام المستقبل، ويجعل الحبر بلا لون.
وقالت زوجتي: لقد اختفت أم سعد منذ تفجر القتال. وها هي تعود وكأنما على إيقاع الهزيمة.. لقد قاتلوا من أجلها وحين خسروا خسرت هي مرتين، تراها ماذا ستقول الآن؟ لماذا تجيء وكأنها تريد أن تبصق في وجوهنا؟ كيف تراها رأت المخيم حين غادرته هذا الصباح؟.
وظلت الأسئلة معلقة في الهواء، كما لو أنها الغبار الذي لا يرسو، وكدت أراها، مسننة ومدببة وذات رؤوس كالشفرات تسبح في تلك الحزمة الفضية التي كانت تصبها أشعة الشمس في قلب الغرفة، فيما كانت أم سعد ترقى الطريق نحونا، تحمل الصرّة الصغيرة التي تحتفظ بها دائماً، وتسير عالية كما لو أنها علم ما، تحمله زنود لا تُرى.
ودخلت أم سعد، ففوحت في الغرفة رائحة الريف، وبدت لي كما كانت قبل عشرة أيام فقط! يا الهي كم تتغير الأمور وكم تتهدم الصروح في عشرة أيام! وضعت صرتها الفقيرة في الركن، وسحبت من فتحتها عرقاً بدا يابساً، ورمته نحوي:
- "قطعته من دالية صادفتني في الطريق، سأزرعه لك على الباب، وفي أعوام قليلة تأكل عنباً".
- ودورت العرق الذي بدا خشبه بنية داكنة لا تنفع شيئاً بين أصابعي، وقلت لها:
- "أهذا وقته يا أم سعد؟".
وأخذت تعيد ربط شالها الأبيض حول رأسها، كما تفعل دائماً حين تكون منصرفة إلى التفكير بشيء آخر، وقالت:
- "قد لا تعرف شيئاً عن الدالية، ولكنها شجرة عطاءة لا تحتاج إلى كثير من الماء. ها هي أم سعد، وقد جاءت".
- "إنه يبدو كذلك، ولكنه دالية".
- "هذا ليس مهماً..".
قالت فجأة:
- "انتهى الأمر، أليس كذلك؟"
- "بلى".
- "وأنت تقول ذلك".
- واستدارت، ومضت إلى الشرفة فلحقت بها بخطوات بطيئة، وسألتها:
- "كيف كان المخيم اليوم؟".
- وفجأة نظرت إليّ، وبدت لي القصة كلها على جبينها الذي له لون التراب، ثم فرشت كفيها أمامي:
- "بدأت الحرب بالراديو وانتهت بالراديو، وحين انتهت قمت لأكسره، ولكن أبا سعد سحبه من تحت يدي. آه يا ابن العم! آه!".
واتكأت على حاجز الشرفة، وأخذت تنظر إلى حقول الزيتون المطلة على مدارج التلة، ثم سحبت يدها فوقها جميعها وقالت:
- "والزيتون لا يحتاج إلى ماء أيضاً، إنه يمتص ماءه عميقاً في بطن الأرض، من رطوبة التراب".
ثم نظرت إليّ:
- لقد ذهب سعد ولكنهم امسكوه، ومنذ يومين كنت اعتقد أنه يحارب. أهذا وقته يا أم سعد؟".
وأخذت تعيد ربط شالها الأبيض حول رأسها، كما تفعل دائماً حين تكون منصرفة إلى التفكير بشيء آخر، وقالت:
- "قد لا تعرف شيئاً عن الدالية، ولكنها شجرة عطاءة لا تحتاج إلى كثير من الماء. ها هي أم سعد، وقد جاءت هذا الصباح عرفت أنه كان محبوساً، يا للعار.
كنت أقول لنفسي: لو مات..
وصمتت فجأة.
- كيف عرفت أنه محبوس؟.
- صباح الاثنين سمعنا الراديو، فحمل أغراضه وجمع رفاقه وطلعوا من المخيم كالعفاريت. أقول لك أنني لحقت به. أخذت طريقاً مختصراً وقابلته قرب مدخل المخيم وأسمعته كيف أزغرط. وقد ظل يضحك حتى اختفى عن أنظاري.. ولكن يا حسرة! لم يصل. حبسوه.
- والآن؟.
- ذهب المختار ليرى. مرَّ عليَّ في الصباح وقال لي: لا تخافي يا أم سعد. سأعود لك به. الأهبل، يعتقد أن هذا ما أريده..الأهبل، يعتقد أن ذلك ما يريده سعد. أتعرف؟ سيعود المختار في الليل ويقول لي: ابنك ولد شقي، أخرجته من الحبس فهرب مني نحو الجبل وقطع الحدود..
- يقطع الحدود إلى أين؟.
وبدا لي أنها أشارت بذراعها إلى جهة ما، ثم ارتدت الذراع كأنما من تلقائها، وأخذت تدور حول نفسها، تشير إلى كل شيء، وأخذت أحصي الأشياء التي أشارت إليها الذراع السمراء: المكتبة والمقعد والأطفال والزوجة وصحن الطعام وأنا.
ولأول وهلة لم أصدق، وبدت لي حركة ذراعها وكأنها رمز لشيء شديد التعقيد، لا يمكن أن يرقى إليه عقلها البسيط وعدت أسأل:
- يقطع الحدود إلى أين؟
وشهدت في ركن شفتيها تلك الابتسامة التي لم أرها قط على وجهها، والتي صار يتعين علي منذ الآن أن أراها هناك دائماً، منذ هذه اللحظة، تشبه رمحاً مسدداً، وهذه المرة لم تحرك ذراعها، وقالت:
- كأنك لا تعرف! كأنك لا تعرف! نعم..يقطع الحدود إلى أين؟ هكذا تسأل، هكذا يسألون..لماذا لم تتناول فطورك؟.
وفاجأني السؤال، فالتفت إلى حيث كان الطعام ينتظر منذ ساعتين شهية محكمة الرتاج، كأنها باب أغلق إلى الأبد ولحم مصراعيه صدأ الهزيمة المرة التي لها طعم الذل.. وعادت أم سعد تقرع ذلك الباب مرة أخرى:
- لماذا لم تتناول فطورك؟ أنا لم أتناول فطوري أيضاً، أنتظر شيئاً ما يفتح شهيتي ليس للأكل فحسب، ولكن للحياة أيضاً.. أتصدق؟ ليس ثمة من يستطيع أن يفعل ذلك إلاَّ سعد.
وصمتت قليلاً، ثم همست كأنما لنفسها:
- أتعرف؟ إذا عاد سعد إلى البيت الليلة، إذا عاد، فلن أستطيع تناول الطعام..أتدرك الآن لماذا يتوجب عليه أن يقطع الحدود؟
وعاد ذراعها مرة أخرى يشير إلى تلك الحدود، ويدور فوق المكتبة والمقعد والأطفال والزوجة وصحن الطعام وأنا، ثم ظل مصوباً نحوي، مشدوداً كأنه جسر أو حاجز، وسألت:
- وأنت؟ ماذا ستفعل يا ابن العم؟ عشرون سنة مضت و أمس تذكرتك وأنا اسمع في الليل أن الحرب انتهت، وقلت لنفسي، يجب أن أزوره، ولو كان سعد هنا لقال لي: هذه المرة دوره هو أن يزورنا.. فهل ستفعل؟.
ولم تنتظر جوابي. عادت إلى الغرفة فرفعت عرق الدالية عن الطاولة وأخذت تتأمله كأنها تراه تلك اللحظة للمرة الأولى.
وخطت ببطيء نحو الباب الآخر وهي تقول:
- سأزرعه، وسترى كيف يعطي عنباً، هل قلت لك انه لا يحتاج إلى الماء، وانه يعتصر حبات التراب في عمق الأرض ويشربها؟
وبدت لي وهي تمشي عبر الممر شيئاً شامخاً عالياً، كما كانت تبدو دائماً، ولست ادري لماذا أخذت أفكر بالمختار الذي ذهب يسعى لإطلاق ابنها من الحبس، فسألتها:
- هل قال لك المختار كيف سيفك سعد من الحبس؟
ومن آخر الممر التفتت إلي، وكانت تبدو أمام الباب المفتوح عملاقاً يدخل مع ضوء الشمس، لم اكن لأستطيع أن أرى وجهها بوضوح، ولكنني سمعتها تقول:
- أما زلت تفكر بالمختار؟
- "ألم أقل لك؟".
كان ذلك أول ما قالته أم سعد صباح اليوم التالي، وقد جاءت مبكرة كالعادة، وكنت قد نمت متأخراً، ولكنها لم تنتظر، ففاجأتني في الفراش، ومضت تقول:
- "ألم أقل لك أن لا تفكر بالمختار؟ أتعرف ماذا حدث؟.
ذهب وأراد أن يأخذ من كل واحد منهم توقيعاً على ورقة يتعهدون فيها أن يكونوا أوادم، ولكنهم رفضوا وطردوه"
- ..
- وماذا قلت أنت للمختار؟
- قلت له إن سعد قلبه أبيض، وانه حين قال له يا ابني فهو لم يقصد أهانته، كل ما قصده أن الدور الآن دوره..
- يا أم سعد! أردت تكحيلها فعميتها.!
- أنا؟ أنا قصدت ذلك قصداً..
- والآن ماذا سيفعل سعد؟ ألم يكن خروجه من السجن أفضل؟
وقفت، ونظرت إلي واضعة تلك الابتسامة على ركن شفتيها، وقالت:
- طيب! أنت غير محبوس، فماذا تفعل؟
وكانت الصحف ملقاة على الأرض، والراديو الذي تركته في الليل مفتوحاً أخذ يتلو نشرة الأخبار، وكانت أم سعد تنظر إليّ تارة واليه تارة أخرى، وبدت لي نظراتها، وهي تنتقل مني إليه، إنما تمد بيننا قضبان حديد تعجز كفاي عن هزها، ثم قالتيخزي العين عليهم! كان المختار يحكي لي القصة وكنت اضحك بعبي، وقلت له أخيرا: "مليح اللي ما ضربوك، احمد ربك عالسلامة!" فزعل.
- ورفضوا توقيع التعهد؟
- طبعاً رفضوا.. قالوا للمختار "راحت عليك"، وقد زعل، خصوصاً حين سألهم المختار إن كانوا يريدون شيئاً من المخيم فقال له سعد: "سلم عالأهل يا ابني".
فزعل لأنه أكبر من سعد، من جيل أبيه، وقال لي إن سعد لم يحترمه، وإنه قال له "يا ابني"، كأنه ولد المختار كيف سيفك سعد من الحبس؟
ومن آخر الممر التفتت إلي، وكانت تبدو أمام الباب المفتوح عملاقاً يدخل مع ضوء الشمس، لم أكن لأستطيع أن أرى وجهها بوضوح، ولكنني سمعتها تقول:
- أما زلت تفكر بالمختار؟
- "ألم أقل لك؟".
كان ذلك أول ما قالته أم سعد صباح اليوم التالي، وقد جاءت مبكرة كالعادة، وكنت قد نمت متأخراً، ولكنها لم تنتظر، ففاجأتني في الفراش، ومضت تقول:
- "ألم أقل لك أن لا تفكر بالمختار؟ أتعرف ماذا حدث؟.
ذهب وأراد أن يأخذ من كل واحد منهم توقيعاً على ورقة يتعهدون فيها أن يكونوا أوادم، ولكنهم رفضوا وطردوه"
- أتحسب إننا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس.. أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس..تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس..
أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟ حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس..فلماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟ محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول انه آدمي..آدمي؟ من منكم آدمي؟ كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فأنتم محبوسون..
قمتُ، وكانت ترتجف، لا شك أنها كانت المرة الأولى التي رأيتها فيها مجتاحة بمثل ذلك الغضب، قلت لها:
- هدئي أعصابك يا أم سعد.. أنا لم أقصد شيئاً.
وبهدوء قالت:
- كل واحد يقول الآن "أنا لم أقصد شيئاً".. فلماذا يحدث كل الذي يحدث؟ لماذا؟ لماذا لا يتركون الطريق للذين يقصدون؟ لماذا أنت لا تقصد شيئاً؟
ثم اقتربت مني.
- اسمع.. أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس. الحبس كله! أتفهم؟



* امرأة من عالم غسان كنفاني، ريفية تسكن غرفة من صفيح في المخيم، وتحترف أعمال الخدمة السوداء المدينة "بيروت"، في بيوت الطبقة الموسرة، عاملة نظافة، وخادمة تقدم ما يأنف منه الآخرون لقاء قروش بسيطة تضمن حياة الأولاد، في ظل بطالة الزوج الذي لا يجد عملاً، ولا يملك غير الشكوى والتذمر والجلوس على المقهى مهزوماً.

يعيد الكاتب إنتاج المرأة منبهراً بإيمانها بالحياة، وبطاقتها الإنسانية الايجابية التي تعتمد الأمل وسط واقع تتشابك فيه كل أسباب العتمة والإحباط.

كيف يكون ذلك وقد سلبت الحياة هذه المرأة كل شروط البقاء والصمود، إنه يراها كما يريد للمرأة الفلسطينية أن تكون.

هذه الصورة المعنوية الأثرية التي تختزن طاقة الشمس في روحها، تدرك أن ابنها سعـد لا بد سيخرج من الحبس وينطلق إلى الثورة، باحثا عن دروب الحرية ويكون التحاقه بالفدائيين منطقيا، فهو قدر الفلسطيني ووسيلته إلى الوطن...



المصدر: رواية أم سعد: غسان كنفاني. ط6، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، بيروت، لبنان، 2011م.

التعليقات (0)

اترك تعليق