أم سعد: خيمَة عن خيمَةٍ تفرق
أم سعد، المرأة التي عاشت مع أهلي في:
- أما زلت تفكر بالمختار؟
- "ألم أقل لك؟".
كان ذلك أول ما قالته أم سعد صباح اليوم التالي، وقد جاءت مبكرة كالعادة، وكنت قد نمت متأخراً، ولكنها لم تنتظر، ففاجأتني في الفراش، ومضت تقول:
- "ألم أقل لك أن لا تفكر بالمختار؟ أتعرف ماذا حدث؟.
ذهب وأراد أن يأخذ من كل واحد منهم توقيعاً على ورقة يتعهدون فيها أن يكونوا اوادم، ولكنهم رفضوا وطردوه"
- أعرفها منذ سنوات. تشكل في مسيرة أيامي شيئاً لا غني عنه، حين تدق باب البيت وتضع أشياءها الفقيرة في المدخل تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق، وببؤسها وآمالها، ترتد إلى لساني غصة المرارة التي علكتها حتى الدوار سنة وراء سنة.
آخر ثلاثاء جاءت كعادتها، وضعت أشياءها الفقيرة واستدارت نحوي:
- يا ابن عمي، أريد أن أقول لك شيئاً. لقد ذهب سعد.
- إلى أين؟
- إليهم؟
- من؟
- إلى الفدائيين.
وسقط صمت متحفز فيما بيننا، وفجأة رأيتها جالسة هناك، عجوزاً قوية، اهترأ عمرها في الكدح الشقي. كانت كفاها مطويتين على حضنها، ورأيتهما هناك جافتين كقطعتي حطب، مشققتين كجذع هرم، وعبر الأخاديد التي حفرتها فيهما سنون لا تحصى من العمل الصعب، رأيت رحلتها الشقية مع سعد، مذ كان طفلاً، تعهدته هاتان الكفان الصلبتان مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية، والآن انفتحتا فجأة فطار من بينهما العصفور الذي كان هناك عشرين سنة.
- لقد التحق بالفدائيين.
وكنت ما أزال أنظر إلى كفيها، منكفئتين هناك كشيئين مصابين بالخيبة، تصيحان من أعماقهما، تطاردان المهاجر إلى الخطر والمجهول.. لماذا، يا إلهي، يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن؟ لأول مرة أرى ذلك الشيء الذي يصدع القلب على مرمى كلمة واحدة مني، كأننا على مسرح إغريقي نعيش مشهداً من ذلك الحزن الذي لا يداوى.
قلت لها، محاولاً أن أضيعها وأضيّع نفسي:
- ماذا قال لك؟
- لم يقل شيئاً. فقط ذهب، وقال لي رفيقه في الصباح أنه ذهب إليهم.
- ألم يذكر لك قبلاً انه سيذهب؟
- بلى. قال لي مرتين أو ثلاث مرات أنه ينوي الالتحاق بهم.
- ولم تصدقي آنذاك؟
- بلى. صدقت. أنا أعرف سعد، وقد عرفت انه سيذهب.
- فلماذا، إذن، فوجئت؟
- أنا؟ لم أفاجأ. إنما أعلمك بالأمر. قلت لنفسي: قد تكون ترغب في معرفة أخبار سعد.
- ولست حزينة أو غاضبة؟
وتحركت كفاها المطويتان في حضنها، ورأيتهما جميلتين قويتين قادرتين دائماً على أن تصنعا شيئاً، وشككت إن كانتا حقاً تنوحان، وقالت:
- لا. قلت لجارتي هذا الصباح. أود لو عندي مثله عشرة. أنا متعبة يا ابن عمي. اهترأ عمري في ذلك المخيم. كل مساء أقول يا رب! وكل صباح أقول يا رب!. وها قد مرت عشرون سنة، وإذا لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟
وقامت، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة. بدت الأشياء أكثر إلفة، ورأت فيها بيوت الغبسية مرة أخرى، ولكنني لحقت بها إلى المطب، هناك ضحكت وهي تنظر إليَّ، وأخبرتني:
- "قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي في الباص أن ولدي أضحى مقاتلاً (آنذاك بدا صوتها، بلا ريب، مختلفاً، ولذلك تذكرت الآن) قلت لها إنني احبه وسأشتاق له، ولكنه جاء ابن أمه..أتعتقد أنهم سيعطونه رشاشاً؟"
- إنهم يعطون رجالهم رشاشات دائماً.
- "والطعام؟"
- يأكلون كفاية ، وكذلك يعطونهم السجاير.
- " إن سعد لا يدخن، ولكنني متأكدة انه ستعلم ذلك هناك. يا نور عيني أمه! أود لو كان قريباً فأحمل له كل يوم طعامه من صنع يدي".
- يأكل مثل رفاقه.
- "اسم الله عليهم جميعاً"
وصمتت لحظة، ثم دارت وواجهتني:
- "أتعتقد أنه سينبسط لو ذهبت فزرته؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق، وأذهب يومين إلى هناك"
وتذكرت شيئاً فأكملت:
- "أتدري؟ إن الأطفال ذل! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به. لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم. خدمتهم بعيني ولكن الأطفال ذل".
قلت لها:
- لا ضرورة لأن تزوريه هناك، دعيه يتصرف وحده. إن الرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج، بعد، إلى رعاية أمه.
ونشفت كفيها بمريولها، وعميقاً في عينيها رأيت شيئاً يشبه الخيبة: تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها أم ما انه صار بالوسع الاستغناء عنها، أنها أطرحت في جهة ما كشيء استهلكه الاستعمال.
ودنت مني تقول:
- "أتعتقد ذلك حقاً؟ أتعتقد أنه من غير المفيد أن أذهب إلى رئيسه هناك وأوصيه به؟"
وتحيرت قليلاً، مستشعرة التمزق ينهكها، ثم سألت:
- ".. أم تراك تستطيع أنت أن توصى رئيسه به؟ تقول له: دير بالك على سعد، الله يخليلك ولادك"
وقلت لها:
كيف؟ إن أحداً لا يستطيع أن يوصي بالفدائي.
- "لماذا؟"
- لأنك أنت تقصدين أن يتدبر رئيسه الأمر بحيث لا يعرضه للخطر، أما سعد نفسه، ورفاقه، فيعتقدون أن أحسن توصيه بهم هي أن يرسلوا على الفور إلى الحرب.
ومرة أخرى جلست هناك، ولكنها بدت قوية أكثر مما رأيتها أبداً، وراقبت في عينيها وكفيها الخشنتين حيرة الأم وتمزقها وأخيراً قر رأيها:
- "أقول لك، لتكن توصيتك به إلى رئيسه أن لا يغضبه. قل له: أم سعد تستحلفك بأمك أن تحقق لسعد ما يريد. إنه شاب طيب، وحين يريد شيئاً لا يتحقق يصاب بحزن كبير.
- "والطعام؟"
- يأكلون كفاية، وكذلك يعطونهم السجاير.
- "إن سعد لا يدخن، ولكنني متأكدة انه ستعلم ذلك هناك. يا نور عيني أمه! أود لو كان قريباً فأحمل له كل يوم طعامه من صنع يدي".
- يأكل مثل رفاقه.
- "اسم الله عليهم جميعاً"
وصمتت لحظة، ثم دارت وواجهتني:
- "أتعتقد أنه سينبسط لو ذهبت فزرته؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق، وأذهب يومين إلى هناك"
وتذكرت شيئاً فأكملت:
- "أتدري؟ إن الأطفال ذل! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به. لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم. خدمتهم بعيني ولكن الأطفال ذل".
قلت لها:
- لا ضرورة لأن تزوريه هناك، دعيه يتصرف وحده. إن الرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج، بعد، إلى رعاية أمه.
ونشفت كفيها بمريولها، وعميقاً في عينيها رأيت شيئاً يشبه الخيبة: تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها أم ما انه صار بالوسع الاستغناء عنها، أنها اطرحت في جهة ما كشيء استهلكه الاستعمال.
ودنت مني تقول:
- "أتعتقد ذلك حقاً؟ أتعتقد أنه من غير المفيد أن أذهب إلى رئيسه هناك وأوصيه به؟. قل له، دخيلك، أن يحقق له ما يريد.. يريد أن يذهب إلى الحرب؟ لماذا لا يرسله؟"
المصدر: رواية أم سعد: غسان كنفاني. ط6، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، بيروت، لبنان، 2011م.
اترك تعليق