مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

نصوص من كتاب وشاهد وشهيد

نصوص من كتاب وشاهد وشهيد بقلم أم الشهيد محمد ياسين

 نصوص من كتاب وشاهد وشهيد بقلم أم الشهيد (فاطمة نصر الله):
 تجربة الاستشهاد:
[...] تجربة استشهاد ولدي محمد، كانت لي بمثابة المدرسة التخصصيّة الجديدة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يضمّني إليها بدون إنذار مسبق، ووجدت نفسي فجأة أمام امتحان صعب، وصعب للغاية، لو تمّ تجاوزه بنجاح للوهلة الأولى فسأكون بالتالي أمام مستوى آخر من البلاء أو نوع آخر وهو فهم الجوهر وتقبله والرضا به.
وغريب هنا أن يكون الامتحان قبل الدراسة، وهذا بالحقيقة شأن البلاء حين يختارنا الله تعالى له، وكأنه سبحانه يريد منّا أن نتجاوز الخطوة الأولى المتمثلة بالباب الذي منه نعبر إلى مكان آخر مليء بالمعاني المختلفة عمّا تعودنا عليه أيام الرخاء والسعادة، أو لعلها أيام الغفلة والنسيان.
في البلاء -وهو العلم الجديد- حتى مشاعر الحزن يصبح لها نكهة أخرى وطعم آخر، لأنها وببساطة تلزمنا أن نعيد حساباتنا في الحياة الدنيا التي نعيشها والتي تنسينا الكثير من الأوقات أنّ النهاية قد تكون قريبة وأقرب مما نتوقع.
[...]
قبل استشهاد ولدي كنت أعتقد أنّ الوالدين يلعبان الدور الأساسي في صناعة ولدهم الشهيد، لدرجة أنه كان يغيب عن بالي الدور الذي يجب أن يلعبه الشهيد مع نفسه لكي يرتقي بها إلى مرتبة يستحق بها نيل هذه المرتبة العظيمة، هذا بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي والنفسي والقابليات العالية الموجودة في شخصيته. والتي لها الأثر البالغ في هذا الاختيار الإلهي العظيم الذي لا يناله إلّا ذو حظ عظيم.
... هنا بدأت حكايتي مع رحلة الشهادة.
في اللحظة التي تبلغت بها أنّ ولدي محمداً قد استشهد، امتزجت المشاعر وتشابكت إلى حدود صعبت علي الأمور في تحديد موقفي مما أسمع، فلكي أكون قادرة على تحليل الموقف في لُحيْظات قليلة فهذا ليس بالشيء باليسير، مع ذلك، لم تمر كلمة الاستشهاد على مسامعي مرور الكرام، فقد أعطيتها حقّها من الانتباه والتفكّر مع أنه أحياناً لا يستلزم التفكّر وقتاً طويلاً ليؤتي ثماره.

 يوم من أيام الله- فإنّي قريب:
[...] وبنفس الوقت تكون هذه المسحة أو النفحة حديثاً يوميّاً قائماً بين الحامل وخالقها لا يتوقف إلّا حين الوضع، وإذا أرادت متابعة الحديث يمكنها ذلك فليس من عند الله صد«وإذا سألك عبادي عني»(سورة البقرة، الآية: 186).
وبالتالي وَجَب أن يكون هذا الكائن الجديد الذي ينمو في رحمها هو الذي يذكرها في كل لحظة أنها تعيش يوماً من أيام الله التي لا تشبه الأيام العاديّة أبداً. يتم الحمل وتضع ذات الحمل حملها بقدرة ربها في آلام مخاض يقدرها من أحسّ بها فقط، ومع ذلك فهي بين يدي الله تعالى تشعر بحضوره وتجلّيه، يخرج حيّاً من حيّ.
في فترة النفاس تنفصل الأم عن الحياة الدنيا وتشعر أنها في عالم برزخي ما بين الناسوت والملكوت، فالغرابة في الولادة أنّ الطهارة لا تتوقف على أنها من صفات المولود الجديد بل تشمل الأم أيضاً... لست أدري، ربما لأنه عليها أن ترضعه لبناً ممزوجاً بحضور الله لكي ترسخ في روحه وقلبه معاني تقوى في داخله مع الأيام، لتؤلف شخصيّة إيمانيّة يحضر الله بها فترسخ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
هذه الفترة هي من أيام الله... وليس كثيراً على الأم أن يختصّها الله تعالى بهذه الوظيفة، فالهدف المرسوم ما وراء الوظيفة هو كبير جداً، ويستحق كل هذا، لأنه متعلق بصناعة البشر وهذه المهمة لا تقل أهميّة عن مهمات الأنبياء على مر الأيام والعصور. إلّا أنّ الفارق أنّ الأنبياء مسؤوليتهم مناطة بكل من كلّفهم الله هدايتهم والصبر عليهم، أما الأم ينحصر دورها بصناعة شخصيّة وليدها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانيّة مهمات أخرى تتنوع وتختلف. ليست حالة الحمل والولادة عند البشر هي فقط التي تذكّر بالله، وليست أيامها فقط هي التي تعتبر من أيام الله، إلّا إذا كانت المرأة فعلاً تريد أن تستفيد من هذه الفرصة الإلهيّة التي منّ الله عليها بها[...]
قدرة الله:
"إذن فالعلاقة مع الله تعالى وضعتني في قالب جديد، في بداية الأمر لم أكن أدري ماهية هذا القالب ومدى صلابته... لعلّه هو أسر جديد –وهو كذلك-  إلّا أنه ملاذ نهائي أخذني من مكان إلى آخر، علماً أنّ المكانين لم يكونا بعيدين عن بعضهما كثيراً إلّا أنهما مختلفين مع بعض التقاطعات البسيطة.
أصبحت أتلمس أكثر مؤثريّة وجود الله في حياتي وحياة الآخرين، وصرت بطريقة تلقائيّة بسيطة أرجع كل الأمور لله حتى التفاصيل اليوميّة البسيطة المتعلقة بشؤون الحياة العاديّة، أتأمل بها فأجدها قد نظمت بتدخل إلهي واضح المعالم، وأحياناً كثيرة يكون مدهشاً حتى لو كانت تدابير عاديّة، إلّا أنها ملفتة.
فالمقاربة هنا غريبة بعض الشيء... لأنني لا أتحدث عن إضافة ماديّة تفضّل الله بها عليّ، إنّما هي -على المستوى المادي- خسارة كبيرة وكبيرة جداً ولا تعوّض على الإطلاق... لذلك وبحسابات بسيطة من المستغرب أن تقرب الخسارة من الله أو تكون حافزاً لتحسين العلاقة معه سبحانه وتعالى. ولكن عندما يشعر الإنسان أنّ هذا الإله هو مصدر الفيض والإحاطة حتى لو أنّ المظهر الخارجي للقضيّة هي نقص أو خسارة أو فقد، فإن علم الله تعالى بالمصلحة التي يقدرها من خلال إرادته التي تجلّت بالخسارة الماديّة هو الذي يجب علينا أن ندور بفلكه. تماماً كما يجهل الأبناء الحكمة من بعض المواقف التي يتخذها الوالدين بحقهم وذلك يعود لقصور الولد عن إدراك الحكمة لقلة خبرته وتجربته في الحياة.
أولياء الله- أسوة حسنة:
[...]
في العلاقة مع زينب(ع) نراها بعين القلب عندما نستمع إلى المجالس الحسينيّة التي تارة تنجح –هذه المجالس- في تصوير شيء من حقيقتها وأطواراً أخرى لا تنجح.
زينب هذه... العالمة غير المعلّمة، عقيلة بني هاشم، حبيبة أمير المؤمنين(ع) وشبيهته هي ليست مدرسة فحسب، هي حياة بأكملها، زينب هذه... هي الصدى الذي لا زال العالم يسمع ترداده عندما حدد الإمام الحسين(ع) هدفه من خوض تلك المعركة التاريخيّة "ألا وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
أراني أحسب نفسي وكأني أتعرف عليها من جديد فقبل استشهاد ولدي كنت أحفظ اسمها عن ظهر قلب وأردد مصائبها وأتأثر كثيراً كلما سمعت واعيتها. ولكني لم أكن أعلم أنّ معرفتي بها سوف تتغيّر إلى هذا الحد.
غريب أن يلعب ولدي باستشهاده كل هذا الدور في هدايتي إلى الله تعالى وأهل البيت(ع)، وليس المقصود أنني وصلت إلى قمّة الهداية أو المعرفة أبداً... بل المقصود أنّ تحوّلاً ما قد طرأ، وكأنه باستشهاده ترك باباً مفتوحاً بين الأرض والسماء تصلني منه كل يوم بركات وقبسات... بل كل دقيقة[...]

نصر الله، فاطمة: وشاهد وشهيد، دار الولاء، ط1، بيروت 2014م- 1435هـ


التعليقات (0)

اترك تعليق