الذكريات المفقودة: من قصة "ذاكرة الصدى"
الذكريات المفقودة:
لماذا الآن بالذات؟؟ لماذا عاد من بين طيات الأيام ليشعل فتيل الألم؟ ويجرِّدني أمام أحزاني ووحدتي؟ نسيتُ نفسي، لكنني أحسست فقط بيدي ترتجفان وكأنهما تخافان مجرد رجوع الروح لذلك المكان حيث دفن الكثير الكثير من قلبي وأحلامي وجسدي ودمي...
عاد إلي شريط الذكريات نقياً واضحاً... تحت وطأةِ نورٍ ساطعٍ فاض من روحي على صوره ومحا منه عتمة الزنزانة...
تلك الزنزانة: رائحة الرطوبة والعفن والآلام والأنين معبأة بين مساماتي لا تستطيع مفارقتي..
كانت أياما يصعب تصديق وقعها ومرورها... وما زلت أتساءل حتى الآن "هل حقاً عشت هذه اللحظات؟ هل مرت على خفقات قلبي هذه الأحداث وتركتني على قيد الحياة؟".
غريبٌ غريبٌ كيف تغيِّر لحظةً مسارَ الحياة التي تتخذَّ منحىً لا يمكن التراجع عنه أبدا...
لا زلت اذكر كان يوم خميسٌ والطقس بارد، شهر كانون الثاني في قريتنا "محيبيب" يتقلب بين البارد جداً والقارس، كنتُ خارجة، نحو منزل أخي "علي" على بعد مفرقين من بيتنا...
لأخي علي الذي يكبرني بأربع سنوات مكانةٌ خاصةٌ في قلبي تجمعنا وحدة أحلام وآلام... وإذا بصوت سيارة يخرق الهدوء الذي يسيطر على حيِّنا في مثل هذه الساعة من النهار... فالكل قد عاد من عمله في الحقول والدكاكين الصغيرة القليلة في قريتنا قد أقفلت واستعد الناس لاستقبال مغيب الشمس المنسحبة من عناء النهار...
توقفت السيارة أمامي، نزل منها رجلٌ متوسط القامة يرتدي ثياباً عسكرية، تلمعُ عيناه بحدةٍ وكأنه غاضبٌ من أمر ما، وكان في المقعد الثاني "زهير شقير" (أحد رموز العملاء الأمنيين في الشريط) ذو الشهرة السيئة المخيفة التي باتت تنشر الرعب في قلوب الأهالي.
كان يقود السيارة، خاطبني بنبرة عالية: هيا اصعدي معنا.
أجبته بصوتٍ واثقٍ: أريد فقط أبلغ والدي.
أجاب بسخريةٍ: نبلغ والدك، لا يهم... ها هو قادم...
رأيتُ نظرةَ الإنكسار التي أحزنني في عيني والدي حين هزَّ رأسه: اذهبي معهم يا ابنتي... الله يكون معك....
تجرأتُ على السؤال وأنا اصعد السيارة: ولكن إلى أين؟ ولماذا؟
"نريد التحدث معك خمس دقائق...".
كنتُ أعرف معنى الخمس دقائق... فدعوتُ الله ليمدني بالشجاعة والصبر... فالأمرُ لا يدعو للاطمئنان...
توقفت السيارة أمام محطةٍ للوقود التي تحويه والذي تحول إلى مرتعٍ للعملاء وصار مصبَّ لعنات المقهورين والمظلومين... لم يأخذ الطريق وقتاً طويلاً منذ خروجنا من المنزل، ربع ساعةٍ تقريباً...
لحظة وصولنا ترجَّل أحدهم، أحضر كيساً من النايلون ولفة من الشريط اللاصق...
وابتدأت رحلةٌ من التغيير والعذاب حين وُضع ذلك الكيس الأسود في رأسي وشُدَّت عينايَّ بقسوة...
رأسي اخذ يتحوَّل لمسرحٍ تلعبُ الأفكار المتصاعدة افضل الأدوار... فتخاف وتبكي حيناً ثم تتمرَّدُ بعنفوانٍ حيناً آخر وتتألق بامتيازٍ حين تسير نحو الله تطلب المدد لهذه النفس الضعيفة...
رفت أن زهير شقير لا زال يقود السيارة. لقد حفظت طريقه المتوترة المجنونة في القيادة...
كانت المرة الأولى التي أسير فيها معصوبة العينين وأسير إلى مكانٍ مجهولٍ بعيد... أحسست بالظلم والحزن في أعماق قلبي... هزني هذا الواقع... تخطَّت السيارة مطبات ثلاثة عرفتُ أننا تخطينا منطقة "الميس" وبعدها انعطفت يميناُ فسرى الهدوء قليلاً -فقط- لأنني عرفت الاتجاه الذي نسير فيه... نحو الخيام...توقفت السيارة في مكانٍ ما، فزادت ضربات قلبي لتنذرني بخطرٍ قد اصبح قريباً...
سألني العميل... هل تعرفين أين أنت الآن؟
أجبت: لا، أين؟
ضحك ضحكةً هازئةً وأضاف: ماذا تعرفين عن معتقل الخيام؟
"يقولون انه مقبرة الأحياء"، جاء صوتي متردداً. (معتقل الخيام، اسمه يجلب الرعب والحزن لبيتنا فأخي علي قضى فيه عدة أشهرٍ وأبي الحبيب سيق إليه فعاد للبيت منكسر النظرة والخاطر...) نعم أعرفه، أعرفه.
- انزلي إذن.
وقفتُ استمع لصرير الباب وهو يفتح وأدركت من صوت وقع الأقدام أن أحدا يتقدم نحونا.. وفي الحقيقة كانت شرطية جاءت تستلمني.. أدركت عندها أنني أصبحت داخل معتقل الخيام... العالم الغريب الذي كنتُ حتى اللحظة أنظرُ إليه من البعيد.. ويرق قلبي للصابرين في داخله.. معتقل الخيام عالم التعذيب والرهبة والصبر..
اجتاحني شعورٌ بالضياع لم أجربه من قبل وأدركت أن الإنسان يظل معلقاً بأملٍ شديد الضآلة طالما هو لا يعرف شيئاً..
امتدَّت يد تجرني بصمتٍ... مشيتُ منصاعةً معصوبة العينين وشعورٌ بالقهر يأكلني... دخلنا إلى مكانٍ ما، شعرتُ بالبرد... فالسماء تمطر بغزارة والهواء يصفرُ متمرداُ... دوار وغثيان ترقبُ للمجهول يتملكني.
جاء الصوتُ من الداخل يقرعُ أذني يسألني عن اسمي، اسم أبي، اسم أمي من أين أتيت... مضت نصفُ ساعةٍ على بضعةِ أسئلة... ثم اقتربت الشرطية، سحبت الكيس من رأسي رأيتها منتصبةً أمامي، شعرها أسود قصير، يغطي وجهاً يضم تقاسيماً ملؤها الخشونة والقسوة... زجرتني: "اخلعي الحجاب عن رأسك" هذا الأمر هزني لقد بدأت المسألة تسيرُ بعيداً عن التصور... فازداد القلق...
خاصةً أن الشرطية انقضت عليّ بقسوةٍ وسحبت الحجاب عن رأسي حين رفضت خلعه، وبلؤم شديدٍ وسخريةٍ: "لا تستطيعين أنا أعلمك كيف".
أول ما تراءى لي بعد الذي حصل صورة أبي وحدثته قائلة: "ماذا كنتَ فعلتَ لو انك حضرتَ هذه الواقعة فسترت القشعريرة في شراييني" أخذوا أغراضي:
الساعة وربطة شعري، وتذكرة هوية.. آخر ذكرى من وطنٍ منسي.... ثم أعيد الكيس يحدَّ انشراح صدري... حاولت حفظ الاتجاهات التي أسير فيها.. دخلنا إلى مكانٍ آخر... الباب كان أشبه بقطةٍ تموء وهو يُفْتح على مهل...
كانت الأبواب تُفتح... وتُغلق في نفسي الآمال بالعودة إلى الوراء إلى الزمن الأصفى الذي كنتُ فيه... بدأت الأسئلة تتسارع في ذهني وشيءٌ غريبٌ يتنامى داخلي، اهو الخوفُ أم القلق؟ أم السير نحو المجهول هو ما يرعبني؟؟ أحسست بالوحدة الكبيرة، فلا احد معي... غير نور أمل يربط قلبي بخالقه.
سحبت الشرطية الكيس من رأسي وفكت القيود... فتحتُ عيني فلم تتوضَّح الصورة أمامي بسرعةٍ وبدأ شيئاً فشيئاً يعود البصيص فظهر أمامي ممر طويلٌ والكثير من الأبواب الحديدية... أقفالها تتدلى داخل العتمة...
صرخت الشرطية بصوتٍ قطع الهدوء: هيا ادخلي بسرعة...
أقفل الباب ورائي ولم يعد من مجالٍ للسير إلى الأمام...
المصدر: ذاكرة الصدى، قصة الأسيرة رسمية جابر: أميمة محسن عليق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ
اترك تعليق