مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الزنزانة رقم 7

الزنزانة رقم 7: من قصة "ذاكرة الصدى"

الزنزانة رقم 7:
كان الدعاء في المسجد لا يزال مستمراً والصوتُ يقلَّب التاريخ والذاكرة والأوجاع والأحزان والزمن المنسي... رددتُ تحية صديقةٍ اقتربت مني معاتبةً لنسياني اسمها...
فسخرت في سرَّي لهذه الذاكرة التي تحملني وتعود لأدق التفاصيل في أيام الاعتقال تلك... وتخونني فلا أتذكر أسماء صديقاتٍ أراهن دائماً...
انقطع الصوت فجأةً واظلمَ المسجدُ حولي: انقطعت الكهرباء... فوجدتني وجهاُ لوجه مع جدران زنزانتي التي تحمل الرقم 7.
العتمة في الداخل شديدة والسقفُ منخفض، بدأتُ أتحسس ما حولي لأعرف مساحة المكان الذي أتواجد فيه...
للمرة الأولى أشعر أنني متروكةً فما أصعب أن أنتهي على بابٍ سجنٍ قذرٍ... أنا التي حلمتُ بالحرية وبكل السجون تنكسر وبالقيود ترمى إلى غير رجعة...
الصمت قاتل وأنا أدور في الزنزانةِ التي لا يتعدى طولها المترين وعرضها المتر وارتفاعها تقريباً مترين...
سخرتُ من كل شيءٍ في لحظة... أخذت أتأمل بصعوبةٍ ما حولي... لا يوجد سوى ارضٌ وسقفٌ وحيطان... آهٍ بلى يوجد شيء: سطلٌ صغير يقبع في الزاوية اعتقدتُ أنه لحفظ الماء...
لا همسة ولا حركة... والجدران حولي تحد النظر والخيال، سيطرت الوحشة على قلبي وملأ الفراغ حواسي... وأخذت أتذكر حياتي السابقة بشريطٍ مرَّ أمام عيني صوره مشوشة والأمور الواضحة قليلة...
كل ما أراه هو هذا المدى الضيّق للمكان ويصعقني كيف يمكن أن ينتقل الإنسان من المساحات الواسعة والشمس والهواء إلى جدرانٍ أربعة تصدّ شعاع النظر لقربها من العين.
تحسست بعض الأحرف على الحائط، فقرأتُ كلمة "يا الله... لن يقتلوني في هذه الزنزانة"... رددتُ مؤكدة يا الله... يا الله... أدركتُ أنني لستُ وحيدة وان شعاعَ النور الإلهي لا يزال يضخُّ القوة في شراييني والصبر في قلبي والإيمان في حياتي، وان الله معي في هذا المكان البعيد المنسي.
مع كل حركة من حركات الشرطية التي كانت تقترب ثم تتراجع يزداد القلق وجعلني بانتظار شيءٍ ما لا أعرف ما هو.
عليَّ أن آلف المكان حدثتُ نفسي فهذه الزنزانة ليس بالمفاجأة أبدا... كان علي أن أتوقع الوصول إلى هنا لأنني مدركة منذ زمنٍ بعيد أن كل موقفٍ يتخذه الإنسان في حياته لا بُد وان يدفع ثمنه... راضياً وقد تكون حريته أو حياته.. هي الثمن... لا بأس!.
تنفستُ بعمقٍ مع أنني خائفة من أن ينفذ الهواء بين هذه الجدران... عرفتُ أن دور البصر يتضاءل كثيراً: عندها يقوى دور السمع اللمس ويعلو مؤشر الحاسة السادسة ومؤشر نبضات القلب...
فجأة... يخترق الصمتُ وقع أقدام عرفت أنها الشرطية حين فتحت باب زنزانتي تستدعيني لأمرٍ ما: فقدرت لي بطانية وإبريق. رغم الظلام أحس بالغبار والخيطان التي تتناثر من هذه البطانية تروي مرارة من سبق له أن تدثر بها.
انهمكتُ في فرشها والدوران في الزنزانة حين فاجأني نقرٌ بسيطٌ على الحائط؟.. أمعنت الإنصات فازداد النقر انه صوت فتاه-ـأيتها الجديدة- أيتها الجديدة...
قفي على الباب إذا كنت تسمعيني.. وعاد الصوت... انفرج قلبي بشعور رضا فقد احستف بالحياة في ثنايا الصمت المرعب والوحدة، تشجعتُ ابحث عن مصدره-ـ من أنت؟.
أجبت بصوتٍ يملؤه الأمل والرجاء: أنا؟
ـ نعم أنت؟
ـ من أين تتكلمين؟
ـ من الزنزانة المجاورة...
ـ هل أنت وحدك مثلي؟
ـ كلا. لدي رفيقةٌ معي.
توسعت دائرة الحوار بيننا على أمل الاستمرار، سألتني عن الطقس خارجاً، عن اسمي، عن قريتي وعن أخبار الشريط... انقطعت كلماتنا لدى وصول الشرطية التي رمت الأصفاد أمام الباب وفتحت الزنزانة طالبة أن أمد يدي، وضعت القيود في يدي والكيس مجدداً في رأسي سرتُ خلفها لا أعرف أين أضع قدمي...
التعثر من السرعة والعتمة...
بدأت أتساءل: ما الذي يحصل معي يا ترى؟ هل هو شيءٌ حقيقي أم إنني تحت وطأة كابوسٍ مخيف... لم أعد احش بالزمان والمكان منذ صعدت تلك السيارة اللعينة: الظلمة، القيود، السيارة المسرعة، صرير الباب، والبطانية.
سخرتُ من "الخمس دقائق" التي لأجلها أحضروني إلى هذا المكان، ولعنتُ ذلك العميل الحقير الذي يأنس بآلام الناس مقابل حفنةٍ من المال وصلتُ إلى مكانٍ لا اعرفه... أحسست أن كل حواسي بدأت تتحفز كي تلتقط وتتلمس ما حولها بعمق...
شعوري الذي يدفعني للمقاومة وتخطي هذه الحالة هو الذي يساعدني على اختراق عتمةِ الكيس... جاءني الصوت من أمامي يسألني عن اسمي ومن أين أتيت... واستنفرني سؤالٌ غريب: لماذا أنت هنا؟ ضحكتُ مستهزئةً: ما الذي أدراني أنتم أتيتم بي إلى هنا... وبدأ يحاول استدراجي بصوتٍ عطوف اعتاد هذا الكلام المعسول...
لن يفيدكِ عنادك يا رسمية، انظري هذه "زينب جابر" استدعيناها منذ شهرٍ وعادت الآن معززة مكرَّمة إلى بيتها، لم نأخذ من وقتها إلا بعض الإجراءات الروتينية.
كنتُ أعرفُ حق المعرفة كيف عادت زينب معززة! يميتُ الألم والخوف قلبها...

صرخ فجأةً: هه، هل تحبين البقاء هنا؟

لم اجبه ولكن كان لدي رغبةً كبيرةً بالصراخ وضرب هذا اللعين على وجهه.. حيث بدأت لهجة المحقق تصبح ساخنة ثم بحركةٍ عصبيةٍ قام من مكانه بسرعة، وأحسست من لهاثه انه يقترب مني.
صاح فجأةً: اركعي! اركعي على الأرض...
انحنيت والسلاسل في يدي، تلمستُ البلاط بأطراف يدي...
امسكي هذا بيديك...
تلمستُ كرباجاُ ملفوفاُ من الحديد، سميكٌ جداً...
هل ستتكلمين أم لا؟
ـ بماذا تريدني أن اعترف؟
ـ يعني لا تريدين الاعتراف، ارفعي يديك إذا...
ترددتُ في رفع يدي ثم رفعتهما وهوى بكرباجه على يدي ثم أخذ يصيح ارفعي يديك، ارفعي يديك... وينزل الكرباج بعد كل كلمةٍ علي يدي... وكانت يداي لا تزالان مكبلتين بالأغلال ورأسي معصوباً...
صارت السياط تكويني، توجعني وتنزل على ظهري حامية جارحة... مع كل ضربةٍ تزداد حدة صراخ المحقق وسرعة ضربه وبدأ الدم ينزف مع الألم المريع...
التزمتُ الصمت وكان مع صمتي يزداد حدةً ووحشية، لم اعد استطيع التحمل فالألم قوي... صرخت من أعماق جرحي... توقف عن ضربي ماذا فعلتُ لك...
إنني أتألم...
كانت كلماتي البلسم الذي زاد نشوة جنونِ هذا الوحش الذي لم يكن يرى أمامه شيء...
ونادى الشرطية: اسحبوها، هذه الجرعة تكفيها حالياً...
هيا انهضي بسرعة، يجب أن تخرجي من أمام المحقق... حاولت الوقوف لم أستطع... الدم يسيل من قدمي... أحسست بالظلم حاداً ينزل في حياتي فسرتُ إلى اللهِ طالبةً العون، فأمدني بالصبر والقوةِ حتى وصلتُ الزنزانة...
أحسست بأمان غريبٍ في أحضان هذه الزنزانة فإن البقاء هنا أضل مئة مرة من وجودي مع ذلك المحقق المتوحش الذي كان يؤكد لي انه يعرف عني الكثير...
معلومات تستطيع أن تتركني بين جدران هذه الزنزانة حتى أتعفن فيها... يريد بثَّ الرعب في قلبي حتى لا أستطيع المقاومة راودتني كلمة غريبة "إنني أسيرة في هذا المعتقل" كنتُ أسمعها تقال عن إحداهن أتفاعل معها... ولكن أنا هي الأسيرة الآن، شعورٌ آخر، شعورٌ يبثُّ العنفوان في النفس ويثبت الأقدام ويقذف السكينة والتحدي والمقاومة في القلب...
إنني بحاجةٍ للصلاة للدعاء، فالألم يمحي الذنوب ويزيل الحجب، الألم شديد والدم ينزف من ظهري، توضأتُ بالماء القليل في الإبريق البلاستيكي، ووقفت مباشرةً في اتجاهٍ معينٍ ظناً انه القبلة كأن قلبي الشاكي إلى الله دليلي الذي لا يخطىء... وصليتُ كما لم اصلَّ من قبل... العزيمة أوقفتني ثابتة، والتوجه أزال الإحساس بالألم...
حاولتُ النومَ لم استطع فالبرد شديد والبطانية لا تكفي... ولكن لم تستمر محاولاتي كثيراً...

ارتجفت لصوت الأصفاد ترمى أمام الباب جاءت الشرطية تجرني مرَّةً ثانية، أقدامي تؤلمني، لا استطيع السير عليها جيداً ولكن لا يهم...
جرتني وراءها، وصلتُ الغرفة... أحسست بلهجة المحقق الساخنة:
ـ هل ستتكلمين الآن؟
ـ ليس عندي شيء أقوله...
ـ اسمعي، عندنا ألف أسلوب مفيد للكلام... وسوف تتكلمين، سترين.
لم ينه كلامه حتى اسقط الكرباج نفسه الذي آلمني فيه في المرة الماضية على قدمي، فاشتعل الدم النازف... والوجع الرهيب...
ـ ما زلنا ندلعكِ، سترين ما الذي يحل بك إن عاندتي.
لم أكن أتوقع شيئاً من الذي سيحصل لي...
ما أحسسته فقط هو أن الجلاد قرب مني شيئاً سقطت مغشياً عليّ، استيقظت داخل الزنزانة على يدين تحاولان إيقاظي ومسح الدماء عن وجهي... لقد عذبوك بالكهرباء وانهالت بالدعاء على المحققين الخبثاء...

كانت تحنو عليّ كأمي تحاول احتضاني لتخفيف الألم الذي كان ينهش قلبي... من أنت؟
ـ زينب وهذه رفيقتي "رُلا"...
ـ سنكون معاً في هذه الزنزانة...
ـ أنتما هنا منذ وقتٍ طويل...
ـ أنا هنا منذ ستة أشهر وثلاثة أيام.
ـ رُلا: أنا منذ ثمانية أشهر وعشرة أيام.
ـ "وأنا هنا منذ الآن" أجبت مبتسمة برغم وجعي...
تحسنتُ لرؤيتهما وحاولت التماسك متجاوبةً مع كلام زينب التي تمدني بالصبر والإيمان...
كانتا متلهفتين لمعرفة الأخبار في الخارج، عن الحرب في بيروت عن أخبار المقاومة المنسية في هذا العالم.
واسترسل أحيانا بالكلام فتقاطعني برفقٍ أو بسؤالٍ: من هذا الذي تتكلمين عنه؟ حقاً متى حصل هذا.
وتوسعت الأحاديث ودائرة الأشواق لترسم طريقاً جديداً في إنفاق هذه الحياة الخانقة، قطع كلامنا اللطيف صوت الشرطية تدفع إلينا صحون الطعام: اليخنة ببطاطا رائحتها غريبة وزينب تنقب منها شيئاً لم اعرفه بدايةً لكنني استطعت لاحقاً تمييز الدود الصغير الموجود على طرفي الصحن... لم أستطع أن آكل شيء...
عرفتُ الاستعمالات الكثيرة للسطل حين طلبت الشرطية رمي الطعام المتبقي فيه: فهو تارة "مرحاض ويصلح لرمي النفايات ويكون له استعمالات كثيرة اكتشفتها لاحقاً".
لم أتوقف كثيراً عند الطعام الآخر الذي أكلته "رُلا" ظننتها تحتفظ به من يوم ليوم...
أشعر بالتعب والأنين يزداد في نفسي، وحدها اللحظة المنسية تستطيع التعبير عن الحزن الذي أحسست به في ذلك الوقت... فلستُ أدري من الذي يسجل هذه الكلمات اهو هذا القلم الأصم أم الرغبة الجامحة في نقلِ الألم خطوطاً واضحةً يراها الزمان بعد أن ينسانا الناس...
هل يشعر من يقرأ هذه الكلمات مثلما أشعر أنا الآن، هل يغلي الألم في نفسه فيكاد يذيبها مثلما يفعل بنا نحن الذين عشنا في المعتقل؟؟.
لا أطرح السؤال عالياً ولكني سمعتُ الجواب همساً، طبعاً نشتاقكم والإ فعلام نتكبد عناء الإنتظار.



 
 



المصدر: ذاكرة الصدى، قصة الأسيرة رسمية جابر: أميمة محسن عليق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق