مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سعدى

سعدى: من قصة "ذاكرة الصدى"

سعدى:
لم يكن استشهاد "سعدى" مستغرباً... ولم يكن تسريب الخبر لنا مستغرباً أيضا... فشهادة "سعدى" كانت أفظع ما يشوَّه به العدو قوة وصبر المعتقلات والمعتقلين.
جاءنا الخبر صاعقاً: "انتحرت لم تستطع التحمل".
يد خفية تمتد فتعبر المكان والزمان. تعبر مثل لمح البصر، ظللتُ صامتة، وصاعقة الخبر تنهمر عليّ مثل زخّات مطرٍ مفاجىء والأفكار تتماوج في وعيي ولا وعي...
سعدى؟!
كيف أنسى حكايتك يا سعدى؟ كانت حلماً مزعجاً رافق وجودي المعتقل... ها أنا أحاول أن أعيد الحكاية، أن أرسم وجهك من جديد أن أعرِّف الناس إليه، علَّ مشاركتهم تريحني...
كانت تعيش الحياة كلها بكل وجهٍ من وجوهها وكانت مشاركة المقاومة أبرز تلك الوجوه... ثم في يومٍ سحبت سعدى إلى معتقل الخيام، أمضت سنوات خمس في الصمت والتعذيب والتجاهل والبطش... وها هي الآن في اللحظة التي أطلقت للحرية تقع من شدةِ العتمة في عينيها في بركة ماء دون مقاومة... بقي أنين سعدى وخبر استشهادها يخلع شرايين قلبي في دقاتٍ بطيئةٍ متواصلة... وظلَّ رنينه يحفر في سمعي ويمتزج بنقر حبات المطر في الخارج... لا أدري لماذا الآن بالذات خطرت على بالي هذه الصور... وأنا أفكر في استمرار الحياة.
ويأتي من خلف هذه الصور صوت الأصفاد ترمى أمام زنزانتي... ثم الكيس... والعتمة... أدخلتُ إلى غرفةٍ، من الطريق الذي سلكناه أحسست أنها غير التي كانوا يحققون معي فيها...
جاء صوت من المجهول.
ـ هه يا رسمية هل تذكرتِ شيئاً؟
ـ ماذا تريدني أن أتذكر؟
عرفتُ أن جوابي لم يعجبه حين تلقيت لسعة من كرباجه وهو يتلذذ بضرب إنسان يرفض الإنكسار.
كان الكرباج ينزل على جسدي فيفتح جراحاً جديدة ويثير ما لم يكن قد هدأ بعد. نادى الشرطية جرَّتني بصمتٍ... صفرت الريح وكأنها تشارك جراحي النحيب والعويل... كانت الرياح تلفني... عرفتُ أننا في باحة السجن كنتُ وحيدة حين سمعت صوت خرير الماء ينزل في إناء فيزيدني برداً... ويكاد الدم يجمد في جروحي النازفة...
اقتربت الشرطية رفعت قبة كنزتي وإذا بالماء البارد ينسكب على ظهري، داخل ملابسي... ينسكب دون سابق إنذار أو كلمة...
تأوهت جراحي وغضبت لوحشية هذا الجلاد..
كنا وحدنا... السجان... وأنا... والماء والبارد... وقفتُ بإجلالٍ لروحي المعذبة التي رفضت الإنهيار والصراخ...
أحسست بميلٍ جارفٍ للضحك... نعم للقهقهة بصوتٍ عالٍ جداً يدخل بسخرية في قلب هذا السجان ويخترق افق السجن ليطير المعذبين في العالم... يدعوهم للضحك والقهقهة في وجه سجانيهم حتى يحترقوا بلسعة الصلابة والشموخ.
وفكرت للحظة... إن الذي يصب الماء علي هو مجنون أو هو يحترف الجنون... توقف التعذيب ثم أعادني إلى الزنزانة... حاولت النظر في عيني السجان أحببت أن أتحداه بنظرة احتقار... لكن للأسف لم أجد سوى شبحاً لا عينين له ولا وجه ولا لون ولا صوت ولا قلب... لم أستطع الجلوس فأنا مبللة وجراحي تنزف...
اقتربت زينب مني حاولت نزع الثياب عني... ودثترتني بثيابها وحنانها... طالما حملت الربيع إليّ في زنزانتي...
في الابتسامة المشرقة والصبر الثائر المرح، مسحت دمعةً اغتصبت سبيلها إلى عيني وعبثاً حاولت أن تجد كلمة تقولها لي...
عرفتُ أن "رلا" تركت الزنزانة وهي التي كانت تتركها باستمرارٍ في اليوم لكن هذه المرة نهائياً... وقد وجدت زينب أوراق ألواح شوكولا تحت فراشها بعد ذهابها...
وأردفت "إنها العميلة التي كانت بيننا..."
لم أستطع إلا أن ابتسم ساخرةً من العميلة والزنزانة والآلام... تسللت تحت البطانية التي زادت من الإحساس بالأوجاع، استيقظت على صوت الرعب الآتي مع الشرطية التي كانت هذه المرة تدعونا لأخذ الماء... كان البلل يعتصر ثيابي... فكرهتُ الماء للمرة الأولى في حياتي... شدتني دهاليز الظلام والقلق... ورنَّ
صوت الكرباج في أذني تذكرت كل شيءٍ دفعةً واحدة... ارتجفت تحت إحساس الماء ينزل على ظهري... تنهدتُ محاولةً إزالة الخوف من تجاويف قلبي بذلتُ جهداً كي افتح عيني فجأة أمعن السمع لصوت آتٍ من خلف جدران العزلة... سال الصوت هادئاً نقياً أيقظ في كياني الأحاسيس الغافية وفجّر وجداني... فجرت أقنية دموعي سيولاً وحنيناً...
سارعتُ أمد يدي بصورةٍ عفوية... محاولة إبقاء الصوت معي... بدأ الصوت يملأ أذني وقلبي معاً... ويرتفع صلاةً تتردد بخشوعٍ.. زاد الصوت نقاءً:
"فإليك يا رب نصبتُ وجهي واليك يا رب مددت يدي، فبعزتك استجب لي دعائي وبلغني مناي ولا تقطع من فضلك رجائي... يا سريع الرضا إغفر لمن لا يملك إلا الدعاء، فإنك فعال لما تشاء يا من اسمه دواء وذكره شفاء، وطاعته غنى ارحم من رأس ماله الرجاء...".
أبصرت عندها السجَّان والمحقق والشرطية يتراجعون، ثم يغرقون في بحر الحيرة والضياع، وهم يبحثون عبثاً عن جوابٍ مقنعٍ... عن سر قوتنا وثقتنا... عن الحقيقة في عيون "سعدى"... عن البسمة في وجه زينبٍ ورأيت الكلمات تتساقط من بين شفاههم مرتعشة كأوراق الخريف...
ونرد بسخريةٍ لن تبلغوا السرَّ الذي لأجله استشهدت سعدى... والذي لأجله نحيا...
جاء الدعاء يعيدني من أعماق الشرود، استدرت غير مصدقةٍ كانت روحي ترف بجناحيها... ترف بانتصارٍ... بفرح كبير.



 


المصدر: ذاكرة الصدى، قصة الأسيرة رسمية جابر: أميمة محسن عليق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق