مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

رجع الصدى

رجع الصدى: من قصة "ذاكرة الصدى"

رجع الصدى:
طويلة كانت أيام اغترابنا... ها أنذا بين الناس في المدينة، في هذا المسجد... يحدقون إلى نظراتي الحزينة والى تساؤلٍ متهالكٍ فوق شفتي: "هل حقاً بكيتِ يوم غادرت المعتقل؟".
كان وجود زينب وصفاء وفاطمة وسعدى رهن بتلك اللحظات التي انطفأت مع تسليمي بطانيتي وصحني واستلامي ساعتي وربطة شعري... وتذكرتي
القديمة.. جواز العبور من سجن الخيام إلى سجن الإبعاد.
ويبقى القلم يسير اسمع صريره وهو يسجل ذكرياتي والصور المعذبة الهاربة مني... أذكر الوحدة تنهش قلبي، يوم لوحتُ بالمنديل لزنزانتي ووقفت أقبل رفيقاتي...
هذه الزنزانة عاشت في قلبي، تغذَّت من أضلعي... ها أنا أراها غبراء دكناء،...
شعرتُ بأنني حين وقعتُ اعترافاً ساخراً إنني "لن أساند المقاومة بعد الآن"، صفقت روحي من حرارة الحياة.. أغمضت عيني لأسمع أصوات آلامي.. إنني أسمعها تشق جدران الصمت المغلفة بغبار الأيام.. كما تشق سنبلة القمح النحيلة قشرة الأرض لتعيد أناشيدها الخضراء، ترانيمها في آذان الوجود.
ولدت الشمسُ من جديد في ذلك الصباح، فهزمت الدقائق الخمسة التي كانت تقضيها الأسيرات كل يومٍ تحت شعاعها...
خمس دقائق يا شمس هو ما كان يسمح لنا أن نعبه من دفئك، هل رأيت في مشوارك الطويل كائن في الأرض يبخل عليه بدفئك وشعاعك...
كانت سيارة الصليب الأحمر بانتظاري حيث طرت إلى القريةِ... شوق غامر يدق جدران صدري ويدفع الحرارة في عروقي... لفح الهواء وجهي، فاستغربته وتنفست الكثير منه... لم أكن أتوقع أن تخرج القرية كلها لاستقبالي، أنا العائدة من سراديب الظلمة والانتظار...
فاض وجهُ أمي بشراً، هي التي حضّرت للحزن جلباباً وتركت لمعتقل الخيام أوسعها.. ومسحت فرحة رؤيتي ظلال القهر عن وجه أبي الحنون بكت أمي والجارات فلا مفرَّ من البكاء عند أبناء قريتنا في الاستقبال وفي الوداع... أعطاني حنانهم طاقة ذاتية على الحب... وبدأت احلم بأن أعود ثانيةً للتحليق...

لم تكن طريقي مصادفةً أبدا... في النهار مثل كل بنات قريتي... أقوم بأعمال المنزل الروتينية وانتظر انقضاء الساعات الطويلة وحين يأتي الليل تبدأ حياتي...
الليل كان ستاراً يدثر قصة حبٍ مع الأرض والمقاومة والسلاح... صلاة ليلٍ جهادية... هدية متواضعة لمسيرة السواعد الإلهية المقاتلة.

كانت جراح الوطن تنزف أمام عيني... لم يكن بوسعي أو بوسع أي كان إلا أن ينتصر لجراحات الوطن...
لستُ نادمةً على أي لحظةٍ من اللحظات التي أمضيتها بين جدران الزنزانة كل ما حصل لي هو ضريبة ادفعها لأنني أحببت الأرض وقريتي وأهلها والمقاومة...
لقد رأيت الحسين عليه السلام أمير قافلة الثوار يدعوني فنادت روحي "لبيك يا خميني".
تركتُ المسجد... حاولتُ رؤية صاحب الصوت الذي استطاع إخراج روحي من المعتقل وتزيين الزنزانة وجدران قلبي بصفائه وروعته، لكن الذكريات شدتني فكنت الأخيرة التي خرجت من المسجد...
حزنت كثيراً لكن صدى صوت دعائه لا زال يتردد في أفق حياتي يزيدني صبراً وأملاً وتعلقاً بالنور الإلهي..

صار الصدى، دليلاً وفيصلاً دائماً بين الخنوع وبين الانتفاضة. بين الركون لسجن الدنيا وبين التحليق نحو الأفق العلوي الأرحب.
تابعتُ مسيرتي والأمل يطفو على محياي... كل ما قدمته... هو بسيطٌ بسيط في مسيرة الجهاد والولاء.

والأيام التي قضيتها متألمة حزينة مظلومة مقهورة هي التي رممت الطريق بيني وبين الحياة، صار الطريق راسخاً ثابتاً مسدداً بصلاة المعتقل وصدى دعاء "كميل" والصمت الشجاع أمام الجلادين...
لم تترك المدينة القاسية أبوابا مفتوحة... فالأبواب أقفلت بين قلبي وقريتي الرائعة... تمنيت أن ألثم ترابها، أن أتبارك بالسجود عليه..
هالني طريق العودة الواسع فناديت حدود قريتي السجينة دثريني، خذيني فقد آلمني الإبعاد...
اشتقت لترابك يضمني، فقد ضاق جسدي بهذه الروح الطليقة علَّ فضاءك يحويها...
هذا الصباحُ، كنت في عملي، أذيع نبأ استشهاد احد المقاومين... تدخلت صديقتي موضحةً: إنه صديق أخي، لعلك تعرفينه هو من يقرأ الدعاء في المسجد المجاور...
لم تزد أي كلمة... لكن ذكرى الصوت غزلت قصة تحكيه.. لم تنته أبدا...
اعتراف:
أنا الموقعة أدناه: رسمية فوزي جابر
الأسيرة السابقة في معتقل الخيام
والمبعدة عن الشريط المحتل...
أقرُّ وأعترف بأنني لن أتوقف عن مساندة المقاومة..
وعن محاربة إسرائيل التي تريد قتل أحلامنا والدوس على ورودنا...
واغتيال مستقبل أطفالنا..
وهيهات لها أن تمحو من قلبي ذاكرة الصدى.


 
 



المصدر: ذاكرة الصدى، قصة الأسيرة رسمية جابر: أميمة محسن عليق، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق