مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

في الزوايا المظلمة

في الزوايا المظلمة: من قصة "سراديب الوجع"

في الزوايا المظلمة:
طلب المسؤول الأمني إلى الشرطيتين أن تأخذاني إلى الداخل، وأن يجلبا لي طعاماً لأني صائمة، فضحكتا باستهزاء شديد عليّ، ونظرتا إليّ نظرة استهزاءٍ وسخريّة. قادتاني إلى الداخل، حيث تقومان عادةً بتفتيش المعتقلات، وجردتاني من كل ما أملك.
سألتني إحداهما إن كنت أريد تناول الطعام، فأجبت بالنفي خوفاً من أن تضعا لي شيئاً فيه، فجلبت لي علبة فيها ماء ووضعتها أمامي..
بعد ذلك جاءت شرطية وكبلت يديّ بالأصفاد الحديدية، ثم وضعت رأسي في كيسٍ أسود من قماش، كريه الرائحة، وعصبت عينيّ فوق الكيس، وأخذتني إلى غرفة التحقيق وهي تنهرني وتصرخ بوجهي كي أسرع الخطى التي بطؤت لعدم معرفتي بالطريق، فكنت أستعين بمصدر صوتها حتى أعرف وجهتي..
في غرفة التحقيق رفع المحقق الكيس عن رأسي، وجلس أمامي،، وبدأ بتدوين المعلومات الشخصية في ملفي، وهو ما يسمى ب"فتح ملف"، وانتقل من الأسئلة الشخصية إلى الأسئلة العامة، ثم بدأ يسألني عمن أسماهم "مخربين" في بيروت والجنوب..
كنت أجيبه بأني لا أعرف أحداً، ولا أعرف ما هي التهمة الموجهة إليّ.. وهو يعاود الأسئلة، وينتقل من سؤال إلى سؤال بلا كلل أو ملل..
بقيت حتى الساعة الثانية ليلاً في غرفة التحقيق، ثم جاءت شرطية وقادتني إلى غرفة، جدرانها مليئة بالعناكب، متسخة الأرض، نتنة الرائحة.. وما إن أوصدت الشرطية الباب الحديدي حتى انتابني شعور عارم بالوحدة والخوف. أغمضت جفنيّ متمنية أن تكون الساعات التي مرت مجرد كابوسٍ مريع، لكن ما إن فتحتهما حتى أبصرت واقعاً لا مفر منه..
قضيت ليلتي الأولى في معتقل الخيام، وأنا ارتجف من البرد، وأقاسي الجوع والعطش، وأعد الثواني ليبزغ الفجر، عسى نور النهار يمحو قسوة الظلام عن وجهي...
في الساعة الثامنة صباحاً، جاءت الشرطية وطلبت إليّ أن أنظف الغرفة، فنظفتها. وبينما أنا جالسة، سمعت صوت وقوع الأصفاد من يد الشرطية التي جاءت تقودني إلى غرفة التحقيق أمام باب الزنزانة، فتردد صداه في فؤادي خوفاً ورعباً. ومن غير أن أتناول أي شي‏ء من طعام أو شرب، أخذت إلى غرفة التحقيق بالطريقة نفسها التي أخذت فيها ليلاً، الكيس الأسود في رأسي، والعصبة على عيني، والأصفاد في يدي..
رُكِّعت على الأرض، وبدأ المحقق أسئلته كالعادة بالمعلومات الشخصية، وفجأة صرخ بي: ألا تريدين أن تعترفي؟
أجبته: أنا لا أعرف شيئاً حتى أعترف به...
ولم أكد أنهي كلمتي حتى ركلني على ظهري، فوقعت على وجهي، وراح يركلني بحذائه العسكري وهو يصرخ: نحن نعرف كل شي‏ء عنكِ، أنت تخبئين أسلحة للمقاومة، ولديك جهاز في المنزل، وتساعدين في نقل الصواريخ للمقاومة.. هيا اعترفي بذلك..بقيت مدة خمس ساعات، بين ضربٍ وركلٍ وأسئلة واستجواب وتلفيق تهم، وكلما قلت له إني لا أعرف شيئاً زاد ضربه لي.. وصادف أن جاء مسؤولون إسرائيليون إلى المعتقل، وعادة يجتمعون مع العملاء في الغرفة التي كنت أضرب بها، فجاءت الشرطية وقيّدتني وأخذتني إلى حمامٍ فيه مغسلة تنقّط المياه منها وتتجمع على الأرض لتصبح أسنة، ما يجعل المرء يتقيأ من الرائحة المقرفة التي تفوح من جوانبه.
بقيت راكعة هناك لمدة ثلاث ساعات، جاءت خلالها الشرطية بالطّعام، فلم آكل شيئاً، أولاً: لوجودي في مكان مقرف، ثانياً: لأنني بقيت مقيدة بالأصفاد..
بعد رحيل المسؤولين الإسرائيليين، أعادوني ثانية إلى غرفة التحقيق، وسألوني الأسئلة ذاتها، وعندما أصبحت الساعة الرابعة أنصرف جميع المحققون على أن يأتي المحققان المناوبان ليلاً، فهناك أحد عشر محققاً مع مسؤولهم، فإذا تعب محقق من ضرب معتقل واستجوابه، نادى زميله ليكمل عنه..أخذتني الشرطية إلى غرفة، وعندما أقفلت عليّ الباب الحديدي، تيممت وصليت، ولم أكن حينها أعرف الحكم الشرعي لعدم معرفة القبلة، فصليت باتجاه، علمت فيما بعد أنه الاتجاه الصحيح للقبلة.
في الساعة السادسة مساءً، أعادوني إلى غرفة التحقيق، كانت رائحة الخمر تفوح من أرجائها، رفع المحقق الكيس الأسود عن وجهي، فرأيته يشرب الخمرة ويأكل البطاطا والمكسرات..
قال لي: لم تأكلي بعد؟!
لا أريد أن آكل..
اسمعي يا مريم، أنصحك بأن تعترفي بكل شي‏ء، فهنا في معتقل الخيام، ليس هنالك من أحد قربك، لا أب ولا أم ولا شقيق، لِذا أطلب إليك أن تعتبريني أباً، أو أخاً، أو حتى صديق، واعترفي لي بما كنت تقومين به، فتعودين إلى أهلك..
في هذه الأثناء كانت "مريم جابر "رفيقتي في غرفة التحقيق المجاورة تتعرض لأشد أنواع التعذيب..
وتابع المحقق نصيحته لي:
ابنة بلدك "مريم جابر "اعترفت بكل شي‏ء، وهي الآن بين أهلها وأخوتها في البيت معززة مكرمة..ولم يكد ينهي حديثه حتى صرخت مريم من الغرفة الثانية صرخة ألم شديد.
فقلت له: هذا صوت مريم، إنها تتعذب!

أجابني بنبرة لؤم: مريم ليست هنا.
ولكني أعرف صوتها جيداً..
فصرخ بوجهي: قلت لك إنها ليست هنا.. وغادر الغرفة مسرعاً..
سمعتُ خلفي صوت أقدام ضخمة، فلم أجرؤ على الالتفات، وامتدت يد دفعتني إلى الأرض، ومزّق صوته أذني وهو يصرخ: ضعي رأسك في الكيس.
وما إن فعلت ذلك حتى قال لي: لا تريدين الاعتراف، حسناً.. وبدأ بضربي بحذائه العسكري، وبيديه، وإذا ما علا صوتي وقلتُ: "آهٍ، يا أبي"، سخر مني قائلاً: "سنلحقكِ به قريباً"، وإن ناديت: "آهٍ، يا أمي"، أجابني: "سنأتيك بها إلى هنا".
بقي يعذبني حتى منتصف الليل، أخذوني إلى الغرفة وأنا بالكاد أستطيع أن أقف على قدمي، فلم أعد أشعر بجسدي من كثرة الأوجاع، وقد تلقيت ضربة على أذني اليمنى، ما جعلني أفقد السمع بها نهائياً طوال وجودي في المعتقل.
ارتميت على فراشٍ رقيقٍ جداً، وقد وهن جسدي من عدم الطعام والشراب وكثرة الضرب، ولم أعرف كيف قضيت ليلتي التي خلتها لن تنتهي..
في الصباح وبعد أن نظفت الغرفة، سمعتُ صوت معتقلات أخريات يتحادثن عبر الشبابيك، فاطمأن قلبي، وعرفت أني أستطيع أن آكل من الطعام الذي يقدمونه، فجاءت الشرطية لي بفطور، عبارة عن جبنة إسرائيلية وكوب من الشاي البارد.
عندما وصل المحققون، أخذوني مباشرة إلى غرفة التحقيق بالأسلوب نفسه، رُكِّعت على الأرض وراح المحقق الموكل إليه مهمة استجوابي، يعيد الأسئلة نفسها، وأعيد الجواب ذاته: "هناك عليك أن تتكلم، ولكن يجب أن تختار بدقة ما تقوله، وما تريد أن تعّرفهم به، فهم مهما قالوا لك إنهم يعرفون الكثير عنك، حتى عدد أنفاسك، ومهما واجهوك بحقائق، وبأكاذيب، وحدك أنت الذي تعطيهم معلومات أو تضللهم.. اعترف بأي شي‏ء لا يضر، واذكر أسماء بعيدة جداً عن الشريط المحتل، أسماء ماتت أو استشهدت، ولا تسوّل لك نفسك أن تذكر أحداً، فوحدك أنتَ من يملك المعلومات".
هذا هو الدرس الذي لقنته لنفسي في اللحظات الأولى لبداية التحقيق معي، ففي كل الأحوال سأضرب، وسأتعرض لأبشع أنواع التعذيب، وإن كانت أقدامهم توجع جسدي وتترك عليه آثارا زرقاء، فإن نفسي كانت مطمئنة مرتاحة، فما يتحمله الجسد، لا يستطيع أن يتحمله القلب..
كانت الدموع نقاباً لوجهي، والضياع في سراديب الوجع مسيرة أحاسيسي المشردة خارج حدود الألم، عندما قال لي المحقق عمّن وشى بي.. شتمني و زاد في ضربي، وأخبرني عمّا ورد في تقرير عني، وأنا لا املك سوى بسمةٍ مدفونةٍ تحت شفتي، تدغدغ الاستهزاء بحديثه الكاذب، ولا أسمع سوى صدى نبضات قلبي تخبرني أني ما زلت على قيد الحياة!
في معتقل الخيام، لا تصدّق عينيك أو أذنيك، فالصورة المشهدية والأكاذيب المنسوجة من خيوط الواقع، سياطٌ قد لا تترك آثارها على جسدك، ولكنها كفيلة بأن تحطّمك من الداخل.. أن تفقدك التوازن، وتبتر في نفسك الثقة تجاه أي أحدٍّ قد يوهموك أنه وشى بك..

في معتقل الخيام صدّق قلبك فقط، فإن الحواس بوصلة القلب في يمٍّ من ضبابية الحقائق، وهي وحدها التي توصلك إلى الوضوح..
كنت أُضرب، ويتناهى إلى سمعي صراخ شاب في غرفة أخرى يتعذب ويصرخ مثلي، ويجرحني صوته الطالع من صدرٍ هو أطهر الأماكن وأقدسها، ويقول لي المحقق ليزيد من عذابي "هذا أخوك الذي تسمعين صوته"، وأعرف أنهم يقولون له إني أخته ليجبروه على الاعتراف، لكنهم جهلوا أنه إن كان أخي ابن أمي وأبي، أو لم يكن، فهو ابن ديني، ووطني، وما يجرحه، يؤذيني، وليس بالضرورة أن يكون ابن الرحم ذاته الذي أنجبني حتى أتمنى أن أنال الضرب عوضاً عنه، فعزيز عليّ أن أسمع، أو أرى شاباً في مقتبل عمره، يُضرب ويُهان، وهو ابن بلدي..
بعد ساعات من الضرب، أوصل المحقق أسلاك الكهرباء بسبابتيَّ، وراح يرفع التيار الكهربائي شيئاً فشيئاً، حتى يزداد صراخي، وبين "يا الله ساعدني"، و"يا ربي دخلك"، شعرت بأني فقدت وعيي تقريباً، ولم أعد أركز على أي شي‏ء، وهذا ما يساعدهم على أخذ الكثير من المعلومات، لكن جوابي كان واضحاً: لا أعرف شيئاً..
بعد الكهرباء، سحبني المحقق إلى المغسلة، حيث فتح المياه الباردة جدّاً على يدي، فتلويت ألما، وأحسست بأنه بتر كفيّ من ساعديّ، ثم قام برميي على الأرض، وحمل قدميّ، ليضربني المحقق الثاني بالسياط على قدمي من الجهتين، وبقي يضربني حتى ضاعت كل أوجاعي، بين دموع وصراخ..

مرّ النهار، ولم تمر دقيقة بلا تعذيب. انتهى دوام المحقِّقَيْن، فتركاني لآخرين، ومباشرة دخلا عليّ، وقال لي أحدهما: لم تعترفي بعدُ، الآن سنأتي لك برجلٍ لم يرَ النساء منذ عشر سنوات، وسنتركه معك ليسليك، فما رأيك؟! وراحا يضحكان ويستهزئان بأوجاعي، وكأني أمامهما لا شي‏ء، قم قاما بسحبي إلى الخارج حيث الهواء القارس والمطر الغزير، وكانت الرياح تكاد تقتلع الجدران، خصوصاً وأن معتقل الخيام قريب جداً من جبل الشيخ الذي لا تفارقه الثلوج طوال السنة.
أوقفوني ساعاتٍ طويلة إلى الحائط ويداي مرفوعتان إلى الأعلى، ثم قاموا بصب دلو من المياه الباردة عليّ.. وكل عشر دقائق أو ربع ساعة، يأتي محقق ويصب عليّ دلو ماء، حتى ظننت أني فارقت الحياة لأني لم أعد أشعر بشي‏ء من البرد..بقيتُ واقفةً إلى الحائط حتى ساعة متأخرة من الليل، وثيابي مبللة، والمطر يتساقط بغزارة.. تخيلت، لو أن والدي جاء الآن وراني على هذه الحالة، فأيهما أشد قسوة على فؤاده، موته أم عذابي؟ تخيلتُ، لو أنه يأتي على وميض البرق، يخبئني بين أضلعه، يعطيني دفئه، يغمرني بحنانه الذي أحتاج.. لو يأتي أبي، يأخذني إليه، حتى الموت أهون من هذا، هناك أنت بين يدي الله الرحيم، وأنت هنا بين أيدٍ لا تعرف الله.. ثمّة آلام في هذه الدنيا أقسى بكثير من الموت.. ثمّة رحيل أعمق من كلمة "موت"..
أمطرت السماء.. رعدت وبرقت.. ولمَّ يأتِ والدي.. وبقيت واقفة إلى الحائط حتى جاء المحقق ليسحبني من جديد إلى مشهد آخر من مشاهد التعذيب..
قضيت الليلة بثيابٍ مبللة، أجلس على نفس الفراش الرقيق، وليس لي وسادة سوى كفيّ.. وبين عويل رياح الشتاء وصراخ المطر، ليل طويل أخاله لن ينتهي، وحدي في تلك الغرفة الباردة، وقد شرعت أحاسيسي نوافذ جوارحها للصراخ والعويل حتى أصبحتُ المطر والصقيع.. لا الرعد أقوى مما يضج في نفسي، ولا وميض البرق يضي‏ء شيئاً من سواد الوحشة القابعة حولي.. ووجدتُ نفسي بين جدران لم تشهد سوى عذابات الّذين مروا قبلي.. تحسستُ جسدي المنقوش عليه شتّى ألوان العذاب، فليس هنالك من أحد ليخفف عني سوى نفسي، فأتمتم بالحمد لله دوماً، وأشكر الله، على ا تحمّلت من مصاعب، وأسأله أن يؤازرني في محنتني فليس لي سواه...
ونظرتُ إلى الله لتشخص عيناي إلى رحمته تعالى، يرنو قلبي إليه فأنسى ما مرّ في النهار السقيم.. أقترب أكثر، ألمح دروب الشوق إليه محفوفة بالبلاء،فلستُ سوى فرد في ركب من العاشقين الوالهين إليه.. أدنو أكثر، فأغمض عيني عن سجني، لأبصر دنيا واسعة، ترتفع فيها قبضات الأبطال عالياً، وأسمع صراخي ضغطة زنادٍ في يد مقاوم، يحمل الموت بين جنبيه ليهديه حياةً لنا وللمعذبين في الأرض. مجاهد جعل من جسده راية في دروب التمهيد لظهور الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ما أرحب سجن الخيام، الذي يحوي بين جدرانه أسوداً وأبطالاً، وما أضيق تلك النفوس التي باعت نفسها لتكون حرساً لتحرم تلك الأسود حريتها، وما فطنت أبداً، أن أسخف السجون، تلك القضبان التي تحبس الجسد...

بعد أحد عشر يوماً من التحقيق والعذاب المستمرين، سجنوني في زنزانة إفرادية صغيرة لمدة عشرة أيام، بعدها ألحقوني بزميلاتي المعتقلات اللاتي لم ألتق بواحدة منهن طوال فترة التحقيق..
حدّثتُ نفسي وأنا أسير خلف الشرطية عمّا يمكن أن ألاقيه بعد أن أقيم في غرفة مليئة بفتيات لا أعرفهن، ولكني سرت في سراديب المعتقل الضيقة، لأقف أمام باب حديدي مقفل، تحمل الشرطية مفتاحه، وسرعان ما تفتح به الباب، ليرفع ستار جديد من مشاهد وجودي في معتقل الخيام، وليمتلئ دفتر الذكريات بأسماء حفرت في قلبي، ولا تزال أصواتها ترافق نبض فؤادي.



المصدر: سراديب الوجع: قصة الأسيرة مريم جابر: نسرين إسماعيل إدريس، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ


التعليقات (0)

اترك تعليق