مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

البيت الأمريكيّ الأسود

البيت الأمريكيّ الأسود

أمّا في مقلب آخر من الأرض، هناك بيتٌ أسود، يسمونه البيت الأبيض، تعشّش بين جنباته عناكب الحقد والإجرام والرّذيلة، تحاك في صالاته مؤامرات القتل والسّلب والنّهب، يتردّد عليه رجال ونساء نواب ووزراء، يتكلمون عن الديمقراطية ويطبقونها مع الكلاب لا مع البشر، يديره شيطانٌ حين تسمع اسمه تشعر أن حرف الشين قد صبغه بالشؤم والشّناعة والشّر.

كان هذا الشيطان قد دبّر مع أذنابه مؤامرة للهجوم على لبنان بهدف القضاء على المقاومة قضاءً نهائياً، فالقرار 1559 الذي كان ينصّ على سحب سلاحها لم يطبّق، ولن يستطيع تطبيقه، لذا قرّر الهجوم العسكريّ من خلال الإسرائيلي للقضاء على قيادة هذه المقاومة وعناصرها وجمهورها، وكان قد حدّد أواخر أيلول أو أوائل تشرين موعداً لهذا الهجوم. إلا أن العناية الإلهية مكّنت المقاومين من أسْرِ الجنديين في النصف الأول من تموز، ممّا اضطرّه لتقديم موعد هجومه مدَّعياً الرّد على عملية الأسر، إلاّ أن جمهور المقاومة الصّامد والواعي لم يخفَ عليه منذ اليوم الثاني للعدوان، أن هذا العدوان بكل همجيته ودمويته واستهدافاته التدميرية للبنى التحتية وللبشر والمؤسّسات ليس ردّاً على عملية الأسر، خاصّة بعد أن أعلنت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في اليوم الثالث للعدوان أنّ هذه الحرب هي بدء المخاض العسير لولادة شرق أوسط جديد.

هكذا بدأت إسرائيل عدوانها ظهر يوم الأربعاء في الثاني عشر من تموز بغارات وحشية برّاً وبحراً وجوّاً فما انقضى ذاك اليوم إلاّ عن سقوط أكثر من أربعين شهيداً وعشرات الجرحى وتدمير معظم جسور منطقة الجنوب اللبناني، وأخذت القرى الجنوبيّة تتعرّض لقصفٍ همجيّ على المنازل الآمنة وبدأت أجساد الأطفال تتمزّق أمام أعين الأهالي، وقامت قوات الاحتلال منذ فجر يوم الخميس بسلسلة مجازر بشعة راح ضحيتها عائلات مؤمنة، نهضت لتأدية الصلاة، فإذا بها تصعد إلى بارئها، بَكَتْها ملائكة السّماء وتَشَارَكَ القمرُ قبل أفوله والشمس قبل بزوغها على إقامة عزائِها، وأدّت عصافير الجنة مراسم استقبالها على ألحان ترانيم الخلود هاتفةً هلّموا إلى الاستقبال فها قد وصل السّابقون السّابقون.
وتابعت الغارات الصّهيونية عدوانها على كلّ المناطق دون استثناء، وأخذت البوارج الحربيّة تقصف مطار بيروت الدّولي وضاحية بيروت الجنوبية وأكملت وصولاً إلى البقاع اللبناني فوزّعت عدوانها ليترافق الأبرياء في ترحالهم إلى الملكوت من كلّ حدبٍ وصوب تاركين بقايا نجيعٍ نازفٍ هنا وهناك، يستجدي دموع المحبيّن وآهاتهم ويصرخ في وجوه الأذلاّء والخانعين صرخاتٍ يرنّ صداها في رؤوسهم الفارغة. وبدأ سكان القرى بالنزوح إلى أماكن أقلّ استهدافاً، وكان نزوح سكان القرية من أشدّ الأنباء المحزنة على قلبيْ الحاجّتين المؤمنتين، فانطلقتا إلى بيوت أهل القرية، تشدّان من أزر الناس، وتهدّئان من رَوْعِ الخائفين، وتؤمّلان اليائسين بنصر المقاومة المحتوم بإذن الله وبخزي المعتدين، فالباطل حتماً إلى زوال، وذلك دون أن تأبها لطائرات الاستطلاع ولا للغارات الوهميّة ولا للقصف الهمجيّ، فسلاحهما الإيمان بأنه لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وأن الله سوف يحفظ دينه سواء مِتْنا أو حَيينا.

تحوّلت اللّيلة الثالثة للعدوان إلى ليلةٍ مجنونة، مستَعِرَهْ، حيث أن كلّ الجنوب من أقصاه إلى أقصاه قد تعرّض لقصفٍ عنيفٍ مدمّر من أسلحة الجوّ والبحر والبرّ الصهيونية، واستمرّت الغارات تتواصل حتى شملت كلّ لبنان من جنوبه إلى شماله إلى ضاحية بيروت الجنوبية، إلى بقاعه موقعةً المئات من الجرحى والشهداء، ومرتكبةً المجازر المروّعة كمجزرة مروحين، مجزرة شمع، مجزرة بافليه، مجزرة ياطر، مجزرة الدّوير، مجزرة زبقين، مجزرة شحور، ومجزرة صريفا. وكانت الحاجّتان تستمعان إلى الأخبار وتصلهما هذه الأنباء من المذياع الصغير الذي يعمل على البطاريات، فيواجهانها برباطة جأش وشجاعة دون أدنى خوفٍ أو وجل، وكانتا تضعان نَصْبَ أعينهما عدم الخوف والتسلّح بالإيمان والصبّر والاتكال على الله وترديد الآيات القرآنية والأدعية التي تحفظ الإنسان من كيد الأعداء. في تلك الليلة، وعند الساعة التاسعة مساءً، وأثناء إلقاء سماحة السيد حسن نصر الله كلمته، كانت القوة الصّاروخية في المقاومة الباسلة تدكّ سفينة صواريخ العدوّ (ساعر 5) في عرض البحر قبالة مدينة بيروت فتشعل فيها حريقاً هائلاً وتصيبها بأضرار بالغة وتوقع فيها إصابات بين قتلى وغرقى. إزاء هذا التسديد المبارك، ارتفعت معنويات جمهور المقاومة، وبدأت الحاجّتان تذرفان دموع الخشوع لله عزّ وجلّ، تأثراً برأفته سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين المستضعفين، وإمدادهم بالنّصر والغلبة وتكبّران بأعلى الأصوات، فيردّد الببّغاء تكبيرهم، فتلقنه الحاجة مريم الدّعاء: (اللّهم انصر شباب المقاومة) فيكررّه مثلها تماماً بصوته الحادّ، فتستبشر الحاجة مريم خيراً وتتوجّه إلى أختها بالقول: سوف ننتصر بإذن الله بدعاء هذا الطائر الضعيف.
وهكذا استمرّ العدوان حتى كان اليوم الخامس، حيث أغارت طائرات العدوّ على القرية مستهدفةً مبنى مؤلفاً من ثلاثِ طبقات لا يبعد عن بيت الحاجّتين سوى بضعة أمتار، فسوّته بالأرض وجعلته كالرّميم. اهتزت القرية بكاملها، وتطايرت الشظايا والأحجار في كل جانب وتناثر الزجاج في البيوت المجاورة كما تصدّعت بعض جدرانها، كذلك بيت الحاجّتين اللّتين لاذتا بالزوايا بحركة تلقائية لعلّ الزوايا تكون أكثر أمناً، فبناء البيت قديم، وما من ملجأ، وهما تصرخان: "الله أكبر، يا صاحب الزمان أدركنا". فيعيدهما إلى ثباتهما صوت الببغاء مردّداً نداءهما: "الله أكبر، يا صاحب الزمان أدركنا"، فتشعران أنهما تستمدّان القوة من هذا الطائر الصغير. ثم انطلقتا بعد برهة لتكنيس الزجاج والأحجار والشظايا، وتفقّد الحيوانات والاطمئنان على سلامتها.

في عصر هذا اليوم الرّهيب، كانت قرية "برج قلاويه" قد فرغت من 99% من سكانها، ما خلا الأسود البواسل من شباب المقاومة المدافعين، المنزرعين في كلّ شبرٍ من الأرض، وخلف جذعِ كلّ شجرةٍ، ووراء كلّ صخرة، يسطرون ملاحم العزّ والإباء، فيحطمّون كبرياء أعتى عدوٍّ عرفه التاريخ.

كغيره من أهالي القرية، وصل أخوهما وعائلته وقد أحضر سيارة نقل (باص) ليصحبهما معه نزوحاً نحو بيروت، لأن القرية أصبحت معزولة، لا ماء ولا كهرباء، فقد دمّرت مصادر المياه ومضخّاتها ومحطات التوتر العالي للكهرباء، وأعمدتها وأبراجها، وبدأوا يستهدفون المباني السّكنية في القرية.
إلا أن الحاجتين رفضتا تَرْكَ الدار وأجابتاه قائلتين: "أنت مريض يا أخي، ولا يمكنك البقاء تحت رحمة هذا القصف، ابتعد أنت عن الخطر، فأختنا فاطمة في بيروت تكون شديدة القلق الآن والأقارب كُثُر والحمد لله، ابتعد عن الخطر، وَدَعْنا هنا يا أخي، في البيت الذي وُلدْنا فيه، في الأرض التي درجنا عليها، في القرية التي تعوّدنا أن نتنفّس هواءها.

لن نترك الدار يا أخي مهما حصل، لن نترك بيتنا وداليتنا والحقل، لن نهرب ونترك الشباب يدافعون عن القرية وحيدين فريدين، علينا أن نفتح لهم الدار علّهم يحتاجون لأية مساعدة، وإذا انتهى عمرنا وجاء أجلنا فسوف نموت في بيتنا. ثم إن هذه الحيوانات التي أمضينا العمر نتغذّى من لبنها وخيرها، وهي مصدر رزقنا ومعيشتنا، أنتركها تموت جوعاً وعطشاً؟ أهكذا ردّ الجميل؟ لا، لن نهرب من إسرائيل، نحن لا نخاف من إسرائيل أبداً.

تأثرّ أولاد الأخ بكلام عمّتيهم، صبيّتان وشاب كأزهار الياسمين، لم ينسوا أنهم هم أيضاً درجوا على هذه الأرض، وأن هاتين العمّتين تعبتا كثيراً من أجل أبيهم، ثم من أجلهم حتى كبروا وتعلّموا وأصبحوا طلاّباً في الجامعات، لذا لن يتركوهما وحيدتين.

أخذت دموعهم تنهمر على خدودهم وترجّلوا من الباص وقالوا: "سوف نبقى مع عمّتينا". تعانق الجميع، وتدحرجت دموع الوداع، ولَعَنَتِ الملائكةُ كلَّ طاغٍ وباغٍ على وجه الأرض.

ثم زوّدت الأختان المغادرين بما تيسّر من خبزٍ وخضارٍ وثمار، كما زوّدتهم بالدعاء والتضرّع إلى الله عزّ وجلّ كي يوصلهم بأمان. فقد كانت الطائرات الإسرائيلية تلاحق سيارات المدنيّين النّازحين هروباً من جحيم الصّواريخ والقذائف التي كانت تمزّق الأجساد بوحشية، كما تلاحق سيارات الصليب الأحمر اللبناني والهيئات الصّحية في كشافة الرسالة الإسلامية. دخلوا الدّار والأسى يعتصر القلوب، فوداع الأخ والأب في هذا اليوم المخيف قاسٍ ومؤلم، ولا أحد يعلم غير الله إن كان هناك لقاءٌ بعد هذا الوداع، فربّما بين لحظة وأخرى يكون أحد الباقين أو جميعهم طعمةً لقصف الأعداء، أو ربّما يطال القصف السّيارة التي تقلّ النازحين هرباً من الغارات المجنونة.


 


المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق