مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الحصاد

الحصاد

صارت الشظايا تتطاير على السّطح، على الجدران، على النوافذ، في جوانب الغرف، في المطبخ، في الدار، على الفُرُش وفي كلّ مكان. لكن والحمد لله لم يُصَبْ أحدٌ منَّا أبداً.

تلك اللّيلة لم تكن ليلة، بل كانت الحرب بطولها، بلياليها وأيامها.احتضنّا أولاد أخينا وقبعنا في زاوية من زوايا الغرفة ننتظر بزوغ الفجر، لعلّ الفجر يعقبه الفرج!

وأخيراً بزغ الفجر، وحمل معه النّصر.

نَصْرَكم يا أحبّتنا، يا أبناءنا، يا أبطالنا، يا مقاومينا!

يا من ترقص الأفلاك لأعينكم

يا من تجلببتم بشعاع العفّة والعزّة والإباء والشموخ!

لأجلكم أقسَمَ ثرى وطني قسماً ستحفظه الأجيال!

قسماً بدمائكم الزكيّة، قسماً بعيونكم السًّنِيَّة

قسماً بوجوهكم البهيّة، قسماً بجباهكم العَليَّة
لن يَغلِبَ حديدهم والنّار! فهم دوماً خائبون وأنتم أبداً غالبون

ها هي الملائكة قد تجلّت بوجه الشّمس التي غزلت خيوط الانتصار على خدّ الصّباح ورتّلت:

سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم...

سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار

فأحرقت قلب المعتدي الجبان الذي فرّ خائباً

وحاك القمر وسام العزّ على جباه الأباة، وصنعت البلابل والحساسين أكاليل الغار على مثاوي الشهداء، وضمّدت سنابل القمح آلام الجرحى والمعوّقين، وأذّن ببّغاء الحاجّتين المؤمنتين في برج قلاويه:

الله أكبر الله يهدّك يا إسرائيل

وصاح الدّيك: ألا لعنة الله على الظالمين ستفنى إسرائيل فَهُمْ الخائبون الخائبون، وأنتم السابقون السابقون... الغالبون الغالبون...

بدموع الأمهات، بآهات الآباء، بنحيب الأطفال، ببكاء الأخوات، بحنين الأحبّة... ستبقوْنَ غالبين. قد أقسَمَ ربي بكتابه: ألا أنتم الغالبون.

وبرزت وجوه أفراد العائلة الصّامدة إلى النّور، وجوهٌ أكْلَحَها الخوف والضّعف والسّهر، حتى لكأنّهم قائمون من تحت الأنقاض.

أوّل ما قام به شادي هو سَحْبُ الماء من البئر، وأوّل ما قامت به الحاجّتان هو سَقْي الحيوانات والطّيور وإطعامها.

أما الفتاتان فقد حملتا قفص الببّغاء ـ الذي نفض ريشه وقام ينقر القضبان ـ وعلقتاه في الخارج ليستقبل يوم النّصر. سارت الحاجّة مريم نحو ساحة الضَّيعة لتستلطع ما تبقّى من حجارةٍ أو بقايا بيوت، فالتقت شاباً صاعداً من جهة وادي الحجير، مقبلاً يستطلع القرى صباح الاثنين في الرابع عشر من آب 2006. هي لم تتفاجأ به، فهو من الشباب، أبناء القرى، المدافعين عنها، الدّاحرين العدوّ. أما هو، فقد صعقته المفاجأة! امرأة في السّتينيات من العمر، تمشي في ساحة برج قلاويه سالمة! ألقت عليه التّحيّة وباركت له بالنّصر وحمدت الله على سلامته، عندها أفاق من دهشته وسألها: أين كنتِ يا حاجّة؟ أجابت: نحن هنا يا ولدي، في ذاك البيت الباقي هناك.

فقال: آه إذن أنتم من أطعمنا خبزاً و....

فقاطعته وقالت: أتقول من أطعمنا خبزاً ولا أقول من قدّموا أرواحهم وأجسادهم قرابين، ودحروا عدوّنا؟ نحن ما صنعنا شيئاً يا ولدي، أنتم من صنع نصرنا ورفع رؤوسنا.

وعادت قوافل النّازحين ساجدةً مقبِّلةً ذرّات التراب، جابلةً إياها بدموع الشكر والعرفان. منهم من نصب الخيام، ومنهم من افترش الأرض والتحف السّماء حاضناً نجومها بالأجفان، مخاطباً نسيمها بخطاب الحبّ والعشق اللاّمتناهي. ومرّ الشباب حاملين بيارق النّصر، ليسلّموا على العائلة الصّامدة، فرأت الحاجّتان وجوهاً يشعّ منها نورٌ لا يشبهه نورٌ على الإطلاق إلا نور الكعبة ليلة الإحرام...

وراحت عيون الأهالي وقلوبهم وهتافاتهم تطوف حول عيون الشباب علّها تردّ التحية بأحسن منها.
ولكن هيهات، أنى لنا أن نتقن تحاياهم؟ أو نردّ جميلهم؟ أو نبادلهم إحسانهم بإحسانٍ مثله؟
فإحسانهم لا يُطال ولا يُقاس ولا يُعادل...

ومرّ المقاوم الجريح بالبيت الصامد في طريق العودة، لوّح بيده باسماً وقال: "طلعت سليمة يا خالتي الحاجّة".

فزغردت الحاجّة وقالت: "الحمد لله الذي تقبّل نذري"، وعقدت نية الصّوم. ونادى ملاكٌ مرَّ بأثيرهم أن: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

وطافت الحاجّة مريم حول البيت، وسَعَتْ سَبْعَ أشواطٍ بين الحقل والدّالية وفاءً ولهفةً وحبّاً واشتياقاً...

وحجّت إلى الصّخرة السّمراء إياها، وأسندت ظهرها إليها وقالت: "إيه يا صخرتي السّمراء، غداً، يوم يظهر صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، انطقي وقولي له: "مُرّ بسلام، فما اختبأ خلفي يوماً إلا المؤمنون الصّابرون المحتسبون".

وبعد، ما نضبت قنابل إسرائيل، ولا جفّ سيلُ دمائنا، ولا سَكَت أنيننا، ولا مُسحَتْ دموعنا... فأثناء كتابتي لهذه السّطور، انفجرت إحدى قنابل العدوّ اللئيم بابن أربع سنوات بينما كان يلهو تحت نبتةٍ مباركةٍ في بساتين برج قلاويه فقطعته إرباً إرباً، إلا أن دماء رضيع الحسين عليه السلام التي تلقتها سماء كربلاء، عادت وأمطرتها عيوناً تروي تراب الأرض فتنبت براعم كعبد الله لا تفنيها كلّ قنابل الأعداء وقذائفهم وصواريخهم.
وبعد، فقد وجدنا ما وعد ربنا حقاً، فالنصر نصرٌ إلهي بحق، والعناية عنايةٌ إلهيةٌ بحقّ، فإن أول مَطَرَةٍ أمْطَرَتْها سماءُ جبل عامل - وأيضاً أثناء كتابتي لهذه السّطور- كانت حبات بَرَدٍ ضخمة تحاكي حجارةً من سجِّيلٍ، ففجّرت أكثر من ثلاثمئة قذيفة عنقوديّة كان قد أعدّها لنا العدوّ، ليخسأ أصحاب الفيل ويوقِنَ المؤمنون بأنّ لهم عقبى الدار.
 


المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق