علاقة الشهيد محمد باقر الصدر(قده) بوالدته الحاجة بتول الصدر(رحمها الله)
نتيجة فقد السيّد الصدر(رحمة الله) والده وتحمّل أخيه السيّد إسماعيل الصدر ووالدته الحاجّة بتول مسؤوليّة رعايته، فقد كان طبيعيّاً أن تشتدّ علاقته بهما، ولذا فقد كان يخصّص لوالدته جزءاً من وقته في كلّ يوم يجلس إلى جانبها ويلاطفها(1)، وكانت تحدّثه عن والده وتحاول أن تغرس في نفسه أن يكون مثله، وكانت في ذلك الوقت تقرأ كتب التاريخ وتعدّ من المثقّفات(2)، وكانت(رحمها الله) -حتّى بعدما كبر- تنتظر رجوعه إلى الدار، فإذا تأخّر انتظرته عند الباب وفتحت له فور وصوله(3).
وكانت(رحمها الله) مريضة، وعندما كانت تصاب بنوبة من نوبات ضيق الصدر كان يتغيّر وينهار شفقةً وحبّاً لها(4).
ويذكر الشيخ زهير الحسّون أنّ والدة السيّد الصدر(رحمة الله) أحسّت ذت مرّة أنّ ابنها في خطر ما، فبعثت مستفسرةً إلى مكان تواجده، فتبيّن أنّ مدير أمن النجف كان عنده. ولمّا سئلت السيّدة بنت الهدى(رحمها الله) عن الأمر قالت: «إنّ جسم أمّي داخل البيت لكنّ شعورها وقلبها مع السيّد أينما ذهب»(5).
يقول السيّد محمّد باقر الحكيم(رحمة الله): «كان يكنّ لأمّه الحُبَّ والاحترام بدرجة عالية جدّاً، حيث كان يلتزم تجاهها بنظام قاسٍ من الإخبار لها عن جميع حركاته وسكناته، ممّا كان يلفت نظر القريبين له، وكنتُ في البداية أثيـر لديه التساؤل عن ذلك، حيث كانت وسائل الاتّصال مثل التلفون مفقودة في ذلك الوقت، فيلتزم شخصيّاً بنظامٍ حديديٍّ في الأوقات والمواعيد والذهاب والإياب بسبب ذلك، ولكنّه كان في ذلك يستجيب لطلبها وإلحاحها بسبب عاطفتها القويّة وشفقتها الفائقة وما لاقته من فقدٍ للأولاد والزوج.
كما كان يأخذه الاضطراب الشديد شفقةً وخوفاً عليها عندما كانت تصاب بنوبات من ضيق التنفّس المتكرّرة التي تصبح في الحالات العادية أمراً عاديّاً بسبب تكرارها، ولكنّه بقي(رضوان الله عليه) يحسّ بذلك إلى آخر عمره حبّاً بها وشعوراً بالمسؤوليّة تجاهها وشفقةً عليها، وذلك تعبيراً عن العواطف المتأجّجة في نفسه تجاه الأشخاص الذين يحبّهم...
كما كان يكنّ الاحترام الكبير لأخيه الكبير بالرغم من تفوّق الشهيد الصدر العلمي عليه واعتراف أخيه له بذلك، مع أنّ أخاه الكبير كان من فضلاء الحوزة العلميّة المعروفين بالفضل والاجتهاد وانشغال الشهيد الصدر بصورة دائمة بالعمل العلمي. ولم يكتفِ بذلك الاحترام، حتّى أنّه كان يشعر ويقوم بمسؤوليّة الرعاية لأخيه الكبير ويقوم تجاهه بذلك من رعاية ماديّة واجتماعيّة ومعنويّة له ولعائلته، حيث كانت تشمله رعاية البيت كلّه الماديّة والتفكير بشأنه وموقعه الاجتماعي.
وكان للشهيد الصدر (رضوان الله عليه) الدور الرئيس في تهيئة ظروف انتقاله إلى مدينة الكاظميّين ورعاية وضعه الاجتماعي فيها هناك وتسديده بالقول والعمل والزيارة والإسناد، وكان أخوه يبادله الحُبَّ والاحترام الفائقين بحيث يشعر الإنسان بوحدتهما مع وجود الفوارق العديدة في شخصيّتهما الذاتيّة وطريقة العمل والتفكير وأسلوب الحياة الاجتماعيّة والشخصيّة»(6).
تقول السيّدة أم جعفر الصدر: «كانت حليفة المصحف الشريف وسجّادة الصلاة؛ لم تستغن عنهما يوماً، ولم تنقطع عن الذكر ما أمكنها... كانت أم الشهيد تخيط ملابسها السوداء بيدها، وبوسائلها اليدويّة البسيطة: الخيط والإبرة لا غير. وكان الشهيد كثيراً ما يلاطفها، ويحاول أن يخفّف عنها أحزانها الدائمة. كان يقول لها: تعزّي بنا، فنحن اليوم بجوارك، ونحن الذين بقينا لك. لقد اجتهد كثيراً للتغيير من وضعها النفسي. وإدخال السرور على قلبها، وخاصّة بعد افتقادها ابنها السيّد إسماعيل، وأودع التراب وهي حيّة ترزق. على أنّها لم تجزع ولم تعترض على قدر الله، لكنّ هذا شاق على قلب الأم. وفي الأخير تعلّقت أكثر، وصبّت كلّ آمالها على السيّد الشهيد وأخته بنت الهدى اللذين ما فتئا يحاولان التعويض عليها، إلى أن أجرى الله مقاديره بحسب ما شاء، وله الحمد»(7).
يقول السيّد محمود الخطيب: «كانت قمّةً في التقوى والورع، وكيف لا تكون كذلك وهي بنت ذلك البيت العريق الذي أنجب العلماء والمفاخر من الرجال العظام من آل ياسين. كان(رحمة الله) كثير الاحترام
والتقدير لوالدته، فلقد شاهدته مرّات عديدة إذا أراد السفر لزيارة الإمام الحسين(ع) يستأذن منها ويقول لها: أنا ذاهبٌ لزيارة سيّد الشهداء(ع)، تقول له: كان الله معك يا ولدي، ثمّ يجلس على ركبتيه ويقبّل يديها فتضع المصحف الشريف على رأسه وتقول له: كتب الله لك السلامة، أسألك الدعاء»(8).
ويقول الشيخ محمّد رضا النعماني: «لقد اطّلعتُ على بعض خصوصيّات المرحومة والدة السيّد الشهيد من خلال معايشتي لها، فوجدتها والله مثال التقوى، امتلأت روحها حبّاً لله تعالى ورسوله وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم، وحتّى في الأيام الأخيرة من حياتها كان عشقها لأهل البيت ولأمير المؤمنين(ع) يطغى على ما كانت تعاني من آلام وأمراض، فتخرج مستعينةً بابنتها البارّة الشهيدة بنت الهدى(ره) لزيارة قدوتها وإمامها رغم ما كانت تعاني من صعوبة كبيرة في مشيتها. وكانت لا تفارق القرآن، فهي رفيقته في كلّ وقت تتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكلّما انتهت منه عادت إليه.
وكانت دائمة الذكر لله تعالى تلهج بتسبيحه وتحميده، وما انقطعت عن ذلك حتّى فارقت نفسها المطمئنّة برحمة ربّها بدنها الطاهر، ولقيت ربّها راضيةً مرضيّة، وكانت في فترة الحجز نموذجاً رائعاً في الصبر والثبات والاتّكال على الله، فلم تتململ يوماً ممّا كان يصيبها بسبب الحجز من فقد الدواء الذي كان به قوام حياتها، بل كانت تتظاهر بالصحّة والسلامة لتُشعر السيّد الشهيد بعدم أهميّة المعاناة الكبيرة التي تعيشها، رحمها الله وأسكنها الفسيح من جنّاته»(9).
«كان في كلّ يوم يجلس إلى والدته(رحمها الله) يؤنسها بحديثه ويخفّف عنها من آلام ما تعاني من أمراض ومشاكل صحيّة، ويخفّف من قلقها عنه، فقد كانت(رحمها الله) تشعر بقلق كبير على سلامته، ولها إحساسٌ بأنّ السلطة سوف لن تتركه على أيّ حال، فكان(رضوان الله عليه) يدخل إلى قلبها بكلّ الوسائل ليبدّد هذه المشاعر أو يقلّل من سطوتها، فكان في كلّ يوم يجلس معها في غرفتها ومعه كتبه ودفاتره ويبقى معها -في أكثر الأحيان- حتّى العصر يكتب ويعدّ أبحاثه وغير ذلك، واستمرّ على ذلك حتّى اليوم الأخير قبل اعتقاله ومن ثمّ استشهاده»(10).
تبقى الإشارة إلى أنّ السيّد الصدر(رحمة الله) -وفي ما يتعلّق بتقبيل اليدين- كان يستثني -إضافةً إلى من أريد به وجه رسول الله(ع)- تقبيل يدي الوالدين مستشهداً بقوله تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ»(11)(12).
الهوامش:
1- ما بعد الفارزة الأخيرة مستفادٌ من: مقابلة(1) مع الشيخ محمّد رضا النعماني(*)
2- مقابلة(3) مع الشيخ علي كوراني(*).
3- مقابلة مع الشيخ [علي] آل إسحاق(*).
4- من نظرات جماعة العلماء: 24.
5- مقابلة مع الشيخ زهير الحسّون(*).
6- ملامح من السيرة الذاتيّة (محدود الانتشار)؛ الصدر في ذاكرة الحكيم: 83 - 84. وقد قيل: إنّه أغمي عليه أكثر من مرّة في وفاة أخيه السيّد إسماعيل(رحمه الله) (مسائل في البناء الفكري: 39)، الأمر الذي نفته لي أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) في مذكّراتها.
7- وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 127 - 128
8- من مذكّرات السيّد محمود الخطيب الخطيّة للمصنّف
9- شهيد الأمّة وشاهدها 51 :1
10- شهيد الأمّة وشاهدها 205 :1.
11- الإسراء: 24
12- المرجعيّة والقيادة: 39.
المصدر: محمد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق: الشيخ أحمد أبو زيد العاملي، 2007م. ج2.
اترك تعليق