مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

علاقة الشهيد الصدر(قده) بأولاده

علاقة الشهيد الصدر(قده) بأولاده

يقول السيّد الصدر(رحمه الله): «إنّ تربية الطفل بحاجة إلى شي‏ءٍ من الحزم والخشونة من ناحية، وإلى اللين والنعومة وإبراز العواطف من ناحية أخرى. وقد تعارف عندنا في العوائل أنّ الأب يقوم بالدور الأوّل والأم تقوم بالدور الثاني».
قال(رحمه الله): «ولكنّني اتّفقت مع (أم مرام) على عكس ذلك فطلبتُ منها أن تقوم بدور الجزم والخشونة مع الأطفال لدى الحاجة كي أتمحّض أنا معهم في أسلوب العواطف واللّين وإبراز الحبّ والحنان».
وكان السبب في ذلك أنّه كان يرى نفسه أقدر على تربية أطفاله على العادات والمفاهيم الإسلاميّة، فكان يريد للأطفال أن لا يروا فيه عدا ظاهرة الحبّ والحنان كي يقوى تأثير ما يزقّه في نفوسهم من القيم والأفكار، فلا بدّ أن تملأ حاجتهم إلى الصلابة والخشونة عن طريق الأمّ‏(1).
يقول الشيخ محمّد رضا النعماني: «أمّا مع ابنه وبناته، فكان(رحمة الله) في غاية الرقّة والمحبّة والحنان يلاعب الصغار ويؤنسهم، ولم يحاول في يوم من الأيّام أن يضربهم أو يهينهم، بل كان ينهج أفضل السُبل في تربيتهم، يتعامل معهم بروح الصداقة فيما تقتضيه الظروف، وبروح الأبوّة في أحيان أخرى.
وأتذكّر أنّه(رضوان الله عليه) حينما تنتهي جلسته اليوميّة في كلّ يوم عند أذان الظهر يدخل إلى بيت العائلة يستقبله أطفاله وكأنّه قادمٌ من سفرٍ بعيد، تمتلئ قلوبهم بالفرح والسرور.
وكان إذا تحدّث إليه أحدهم -وهم ما بين العقد الأوّل والثاني من أعمارهم- يصغي إليه إصغاءه للكبار يناقشه ويحاوره، وهو يحاول بذلك أن يزرع في نفوسهم الثقة والاعتماد على النفس وقوّة الشخصيّة. وأتذكر أنّ إحدى بناته الصغار -وكان عمرها في حدود العاشرة أو أقلّ- كانت قد أعدّت دفتراً، وفي كلّ يوم كانت تطلب منه كتابة حديث أو رواية فلم يكن يتردّد في التجاوب معها فيملي عليها حديثاً أو رواية، وكانت تحفظ ما يكتب لها، وكان يسمّيها لقمان الحكيم، وهي عقيلة الشهيد السيّد مؤمّل الصدر(رحمه الله).
وكان(رضوان الله عليه) يربّي أطفاله على أنّهم ملك للإسلام، وأنّ ما في أيديهم من أموال أمانة لا

ملك، وأتذكّر حينما أساعد في فرز المال وتقسيمه في آخر كلّ شهر، كان بعض أطفاله -وهو صغار- يحضرون معنا في بعض الأحيان تلك الجلسات، فيرون أكوام المال فيتعجّبون، فكان يترك العمل ويتحدّث معهم فيقول: (أولادي هذا المال ليس لي، هذه أموال صاحب الزمان، هذه أموال المسلمين أمانة بيدي. أولادي المال ليس مهمّاً، وهذ الدنيا لا قيمة لها، إنّنا نريد الآخرة، والآخرة خيرٌ وأبقى...)، ويتحدّث معهم‏
بأمثال هذه العبارات والمفاهيم.
وكان(رضوان الله عليه) قد اتّفق مع زوجته المكرّمة السيّدة أمّ جعفر(حفظها الله) في حال صدور ما يستوجب العقوبة من أحدهم أن تقوم هي بضربه وتأديبه، وكذلك خوّلني نفسَ الشي‏ء فيما يناسب، وكان يعلّل ذلك بأنّ الأولاد أكثر انشداداً إلى الأُم بحكم الفطرة والتربية والمخالطة، وسرعان ما تستطيع إزالة ذلك من قلوبهم، أمّا الأب فإنّه بحاجة إلى وقت أطول ليُحدث نفس الشي‏ء، هذا إضافة إلى أنّه أكثر قدرة من غيره على تغذيتهم بالمفاهيم والأفكار الإسلاميّة، وهذا الأمر يحتاج إلى أرضيّة سليمة وقلوب محبّة.
ورغم تواضعه(رضوان الله عليه) مع أطفاله فإنّ هيبته كانت تفرض احترامهم له، والتزامهم بحدود العلاقة المؤدّبة»(2).
كان يقول(رحمه الله): «إنّي نفثت في نفس ابنتي مرام -وكانت وقتئذٍ طفلةً صغيرة- الحقد على الصهاينة. قال: قد صادف أن حدّثتها ذات يوم عن ظلمهم للمسلمين من قتل أو قصف، فبان عليها انكسار الخاطر وتكدّر العيش، فأردفت ذلك بذكر قصّة أخرى من حكايات قصف المسلمين لإسرائيل فاهتزّت فرحاً وضحكت واستبشرت لتلك القصة»(3).
وكثيراً ما كان يصله(رحمة الله) من الحقوق الشرعيّة ما يصل عادة بيد المراجع ولكنّه(رحمة الله) قال: «إنّي فهّمت ابنتي مرام أنّ هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: إنّ لدى والدي الأموال الكثيرة ولكنّها ليست له، ذلك لكي لا تتربّى على توقّع الصرف الكثير في البيت بل تتربّى على القناعة وعدم النظر إلى هذه الأموال كأملاك شخصيّة»(4).
يقول الشيخ محمّد رضا النعماني: «وأتذكّر أنّي كنت في السوق وكان معي ولده السيّد جعفر وكان طفلاً، فرأى الموز بلونه الأصفر الجميل يباع في السوق فأحبّ أن يأكل منه، فاشتريتُ له كيلو غرام واحد من مالي الخاص، فأكل منه وأعطى لأخته الصغيرة أيضاً وانتهى كلّ شي‏ء. وحسبتُ أنّ الأمر قد انتهى، ولكن بعد ساعة من ذلك جاء السيّد الشهيد يلومني على ما فعلت عندما لاحظ قشور الموز في سطل النفايات فعرف الأمر، ثمّ دعا ولده ينصحه بكلمات جميلة ورقيقة أحفظ منها هذه العبارة: (ولدي إنّ موز الجنّة أطيب وألذّ من هذا الموز)»(5).
فعندما يمرض أحدهم كان السيّد الصدر(رحمة الله) عند دخوله المنزل وقبل أن يغيّر ملابسه يذهب‏

إلى قربه ويسأل عن حاله ويطمئن عن صحّته ويضع يده الشريفة على رأس المريض ويقرأ سورة الفاتحة بنيّة الشفاء(6).
وذات مرّة أصيبت ابنته الكبرى في صغرها بالحمّى، ولمّا دخل السيّد الصدر(رحمة الله) إلى البيت توجّه مباشرةً في لهفة وحنوٍّ إليها، فاندفع جميع أفراد البيت بقلوبهم وحواسهم معه بشكل لافت إلى صوب الفتاة المريضة. هناك التفتت أختها التي تصغرها إلى ذلك الاهتمام وتلك العناية، فلمّا رأت ذلك القدر من حنوِّ وعطف أبيها ثمّ أهل البيت معه، تحرّكت مشاعرها وأشواقها، وتمنّت أن تكون هي المريضة بدل أختها. فما كان منها إلاّ أن انتظرت فترة حتّى خرج أبوها من البيت، فبقيت تترصّده عند دخوله. وما إن أحسّت بقدومه حتّى ألقت بنفسها على الفراش تتمارض وتتأوّه وتئن، في حركة تمثيليّة بريئة حلوة، تستدرّ بذلك عطفه، ففهم(رحمة الله) رأساً، وتوجّه إليها في الحال، فاحتضنها وأخذ يلاطفها ويقبّلها وهو يقول: «حبّوبتي.. ابنتي.. أين يؤلمك يا نور عيني؟»، فردّت في براءة: «آه.. إن شعري يؤلمني يا أبت!!!»، وكان الكلّ يرقب ذلك المنظر، فانفجر الجميع في موجة من الضحك والتعليقات، ممّا حدا بالطفلة نفسها لأن تجعل وجهها بين يديها، في دِلٍّ وخجل‏(7).
وكان يعاملهم مثل الكبار ويتفاهم معهم ولا يجبرهم على أمر ويتكلّم معهم كلّما سنح أو سمح له الوقت. وكان يقول لزوجته: «إنّي أرى أولادي أقلّ ممّا ترينهم، إنّني ولأجل ذلك لا أريد أن تذكري لي إذا ارتكبوا خطأً معيّناً حتّى أؤنّبهم، لا أحبّ أن يذكر أولادي أنّي أنّبتهم أو عاقبتهم، أريد أن أتحدّث معهم وألاطفهم ولا يعكّر ذلك شي‏ءٌ حتّى لا يذكروا منّي إلاّ كلّ ما يحبّونه ويعتزّوا به، ومسؤولية تربية الأطفال على عاتقي»(8).
وكان(رحمة الله) إذا اشتكى أولاده أمامه من أمرٍ يوكلهم إلى الدعاء والتوسّل بأهل البيت(ع)(9).
وكان(رحمة الله) يعطي بناته في أوقات المدرسة يوميّاً 50 فلساً (درهماً واحداً) حتّى يشترين ما يردنه هناك. وفي موسم الموز أخذت المدرسة تبيعه بسعر 60 فلساً للموزة الواحدة، فطلبت بناته منه أن يزيد لهنّ اليوميّة 10 فلوس ليتسنّى لهنّ شراء موزة واحدة، فأجابهنّ: «ليس عندي مانع أن أعطيكم، ولكن أسألكم: هل كلّ البنات في المدرسة يشترين الموز؟!»، فأجبن: «لا، ليس كلّ البنات يستطعن ذلك، وأمّا من يشتري الموز فهنّ الأقلّ»، فقال السيّد: «إذاً كنّ مثل أكثر البنات العاديّات لا مثل أقليّة البنات»(10).
إحدى بناته كانت ضعيفة في مادّة الرياضيات فأخذ السيدّ مع كلّ مشاغله ومسؤوليّاته يدرّسها ويراجع معها ذلك حتّى تيقّن أنّها استوعبت المادّة جيّداً(11).
وكان أبناؤه يفرحون ويشعرون براحة كبيرة كلّما رجع أبوهم إلى المنزل وكأنّهم كانوا
يشعرون بصعوبة الظروف وأنّ كلّ يوم يرجع فيه بسلامة فهو غنيمة ونعمة عظيمة.
وعندما كان يكتب في غرفة (الجلوس) التي تجتمع فيها الأسرة حتّى يكون بين أهله وأبنائه، فلو أرادت زوجته أن تسكت الأطفال أو تطلب منهم ترك الغرفة يقول لها: «دعيهم، إنّ أصواتهم لا تزعجني ولا تؤثّر على كتابتي».
ولم يكن(رحمة الله) مستبدّاً في الرأي أو متعجرفاً، بل بخلاف ذلك تماماً فقد كان يأخذ آراء الجميع في أمور المنزل ويستمع إلى وجهات نظر الجميع، وعندما يقع حادثٌ أو يأتي مسؤول من الدولة أو تمرّ على العائلة مشكلة كان السيّد(رحمة الله) يجمع الأسرة كلّها من الكبار إلى الصغار وينقل لهم ولو بشكل مبسّط ما جرى ويوضح لهم الحال لكي يكونوا على علم بما يجري.
وكذلك كان(رحمة الله) مع أولاد أخيه؛ فكان يحنو عليهم ويهتم بأمورهم ويسعى إلى مساعدتهم ومشاركته معهم في شؤون حياتهم‏(12).
وممّا يذكره ابنه السيّد محمّد جعفر: «إنّي كنت ألمس اهتمام السيّد قدّس الله نفسه بعمّتنا الغالية وحبّه إيّاها، وممّا أذكره في هذا الصدد توقيره لها، فكان يؤثرها بأحسن مجلس إذا التأم مجلس العائلة ويصغي إلى حديثها بكلّ اهتمام وعناية، وكان يقضي معها وقتاً طويلاً في مراجعة كتاباتها ومقالاتها مستمعًا ومطرياً، ناقداً ومعلّقاً. كلّ ذلك بخُلُق رفيع ووجه مبتسم واهتمام بالغ حتّى [إلى أن‏] تنصرف عنه وهي راضية فرحة.

الهوامش:

1- مقدّمة مباحث الأصول: 48 - 49.
2-
شهيد الأمّة وشاهدها 206 :1 - 208؛ وانظر: مقابلة مع السيّد محمّد باقر المهري (*).
3- مقدّمة مباحث الأصول: 49؛ وانظر أيضاً: مقابلة مع السيّد نور الدين الإشكوري (*).
4- مقدّمة مباحث الأصول: 49؛ وانظر أيضاً:الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر.. دراسة في سيرته ومنهجه: 73؛ مقابلة مع السيّد نور الدين الإشكوري (*).
5- شهيد الأمّة وشاهدها 212 :1.
6-
من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط)؛ وانظر مثلاً: وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 151.
7- وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 152 
8- من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط)
9- من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط)
10- من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط)؛ وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 151
11- من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط)؛ وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 153.
12-
من مذكّرات أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) للمصنّف، (مخطوط).

المصدر: محمد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق: الشيخ أحمد أبو زيد العاملي، 2007م. ج2.

التعليقات (0)

اترك تعليق