مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الشهيدالسيد محمد باقر الصدر(قده) كزوج

الشهيدالسيد محمد باقر الصدر(قده) كزوج

أمّا السيد الشهيد كزوج: فيكفي أن نأخذ شهادة زوجته في حقّه بقولها: إنّه كلّما تمرّ علينا السنين تزداد احتراماً وثقةً به، إيماناً واستقامةً وعدالةً، وكأنّه لا حدّ لتلك الصفات.
والحقُّ أقول: إنّني ما رأيته يوماً آذاها بكلمة أو أسمعها ما لا يرضيها، وكنت أراه في الأيّام التي تكون الوالدة فيها صائمة يلزم نفسه الشريفة أن يعود إلى البيت عند الإفطار ويتفقّد وضعها ويستخبر حالها وما كان يناديها إلاّ (يا ابنة العم)، وهذا السلوك جعل هذه المرأة الصالحة ما تذكره حتّى تفيض عيناها بالدموع حسرةً وألماً .. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله..
فبالله عليكم هذا القلب الكبير الذي وسع الأمّة بأسرها وحمل تلك الهموم الجسام وكان الشفيق والراعي لطلبته ومحبّيه، أقول هذا القلب الكبير كيف يا ترى يكون أباً؟!
لقد كان في أبوّته كما هو في كلّ حالاته، القمّة الشامخة والمثل الأعلى والقدوة والأسوة، كان الغاية في الشفقة والحنان ولا أخطئ إذا قلت في حقّه كان أباً يحمل قلب الأم الرؤوم الحنون.
فعندما يجد الفسحة والزمن يقضي معنا وقته طورًا ملاعبًا وأخرى مؤدّباً ومربياً، إذا رأى منّا عملاً صالحاً فرح له وأثنى عليه, وإذا رأى منّا عملاً دون ذلك أدّبنا بنظراته قبل كلماته.
وإذا علم بمرض أحدنا تراه مضطرباً دؤوبَ السؤال والتفقّد عن صحّتنا، وإنّي لا أجانب الصواب إذا وصفت حاله معنا بقول ضرار عنه‏[(ع)]: (كان والله معنا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع دنوّه لنا وقربه منّا لا نكلّمه هيبةً له)(1).
كنّا معه والله كذلك، فطَورًا ينبسط معنا حتّى نتجرّأ للّعلب بالكرة بين يديه وهو مشغول بكتابته ومطالعته، وقد تسقط الكرة بين يديه فنأتي لأخذها ويستقبلنا بوجهه البشوش الطلق المرح ونحن لا نخشى منه سطوةً أو غضباً.
وكان إذا رمق أحدنا بنظرة عتاب وتأنيب كان ذلك كافياً لردعنا بلا حاجة منه للكلام وغيره.
وكانت عاطفته وشفقته موزّعة بالسويّة بيننا فلم يَمِل لذكرٍ على حساب أنثى ولا لصغير على حساب كبير.. وليس هذا وحده، فمن أرشد الأمّة وهي أسرته الكبيرة وأزال عنها ظلام الجهل بدينها ودفع عنها شبهات المستعمرين والمرجفين، فهو أقدر وأجدر على أن يراعي أسرته الصغيرة ويتعاهدها بالتربية والإرشاد ولم يكن مقصّراً في هذه الناحية أيضاً وحاشاه من التقصير.. فكان حريصاً على التزامنا بشعائر ديننا وأدائنا لفروضه.
كان يؤكّد كثيراً على محافظتنا على الصلوات الخمس وأن نؤدّيها في أوّل وقتها، وكان في بعض الأحيان وهو يرانا مشغولين باللعب ينادي علينا: يا جعفر يا فلانة هل أدّيتم الصلاة أم لا؟؟
وكان يضع لنا برنامجاً خاصّاً - إن صحّ التعبير- في شهر رمضان ابتداءً بالصوم - تدريجيّاً - وحتّى قراءة دعاء السحر في لياليه المباركة، وكنّا إذا اشتكينا إليه شيئاً أهمّنا أو مرضاً أصابنا كان يحيلنا إلى الدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى.
وأتذكّر مرّة كثرت الانقطاعات للتيّار الكهربائي في أيّام الحجز، فكنّا نضجر من ذلك فكان يوصينا بل قد يقرأ معنا دعاء الفرج حتّى يعود التيّار.
ففي جانب الثقافة الدينيّة: كان يعقد جلسات يجمعنا فيها ويقوم بإرشادنا ووعظنا وكان بعضها يدور حول قصص الأنبياء السابقين ويتعمّد رضوان الله عليه أن يستخلص منها العبر لنا في الصبر والتحمّل في سبيل الله وأنّ هذا يورث رضا الله والفوز في الدارين.
و في الجانب العلمي: كان حريصًا على إكمال إخوتي للتعليم الابتدائي كحد أدنى وعندما وجد في إحداهن القابليّة وجّهها نحو تحصيل العلوم الحوزويّة.
وأذكر أن إحداهنّ كان لها مع السيّد جلسات علميّة في تفسير آية قرآنيّة أو شرح حديث شريف وكانت تملي ما يذكره السيّد حتّى تجمّع لديها الشي‏ء الكثير وهي لم تبلغ العاشرة وكان يشجّعها وكان يثني عليها ويعدها بمستقبل زاهر في مجال العلم»(2).
وأخيراً ننقل بعض ما تصفه السيّدة فاطمة الصدر (أم جعفر)، حيث تقول: «بيت السيّد الشهيد من حيث الحجم والإمكانيّات كان متواضعاً صغيراً، لكنّه كان محطّاً لرحال الكثيرين من الإخوان والزوّار والأتباع والمحبّين، رجالاً ونساءً، على مدار السنة. كانت مسؤوليّات الشهيد تتعاظم وتكبر يوماً بعد يوم؛ فلقد كان مهوىً لقلوب المؤمنين من داخل العراق وخارجه.كان مأوىً يلجأ إليه كلّ من كان يعرف السيّد الشهيد قائداً وعالماً ومرجعاً. قد تعلّقت بشخصه طموح الآمال، في صحراء مجدبة باليأس والقنوط من أيّ تغيير.
لقد وجدت المسؤوليّة عظيمة في مثل هذا البيت، فلست مجرّد زوج وشريكة حياة لرجل يدرِّس مجموعة من طلاّب العلم وكفى، إنّه آية الله العظمى محمّد باقر الصدر. وبهذا فقد حملت على عاتقي مهمّة تأمين الجبهة الداخليّة للسيّد الشهيد. إنّ مثل هذا البيت كان بحاجة إلى واجهة نسائيّة تعكس شخصيّة الشهيد، وتقوم بخدمة من يحلّ ضيفاً على هذه الدار. ولم أجد بدّاً من القيام بكلّ ما يتطلّبه ذلك، من تدبير شؤون المنزل بكلّ تفاصيلها، رغم قلّة الإمكانيّات وضعفها، كلّ ذلك صدر منّي بفضل الله، برضا نفس وطيب خاطر.
لَشدّ ما كان الشهيد رقيقاً في مشاعره، محبّاً لخاصّته ولمن حوله، حريصاً على ألاّ يكلّف أحداً بأمر يشقّ عليه، ولا حتّى لي أنا زوجه وأخصّ خاصّته. لقد كان بي شفوقاً محبّاً، لم يشأ يوماً أن يراني مجهدة في ملاحقة تبعات ما تسبّب هو في صنعه، إذ للشهرة والقيادة تبعاتها وأتعابها. ورضيت بذلك كلّه، وتحمّلت قسطي الوافر منه بحبٍّ ورجاء فيما عند الله. وهذا ما ينبغي أن تلتزم به المرأة المؤمنة.
إنّنا نرى قسماً من النساء يتبرَّمن إذا ما طلب منهنّ الزوج القيام ببعض الشؤون المتعارفة، ويعتبرنه حكماً ثقيلاً مفروضاً عليهنّ. وقد يقمن به إسقاطاً للواجب والتكليف ليس إلاّ، في مظاهر خالية من مشاعر الدف‏ء والتفاني التي بها تعمر البيوت وتبنى الأسر الناجحة. ولعل الإنصاف يدعونا لأن نقول: لا تثريب على بعض النساء إذا شعرت بذلك التبرّم تجاه شريك لا يستحقّ، رغم أنّها ستؤجر وتثاب، إذا ما صبرت وتفضّلت وأعطت. ولكن في حالتي أنا الأمر مختلف تماماً.
لقد كنت أرى السيّد الشهيد رجلاً معطاءً، كريم النفس، جواد السجايا، في داخل بيته ومع خواص أهله، رغم ضيق ذات اليد وعسر المعاش. وبذلك عوَّضنا الشهيد عن السعة واليسر المادي الذي يراه الكثيرون سبباً وحيداً للسعادة والهناء، عوّضنا عنه بغنى نفسه وكبر روحه وكرم سجاياه الثرّة.. ثمّ من جهتي كنت مقتنعة مؤمنة بأنّ مجرّد اقتراني بشخصٍ مثل الشهيد هو الثروة الحقيقيّة.. كانت القناعة بما رزقنا الله زاداً عظيماً عَمَر وجودنا وصان علاقتنا عن أيّ شائبة، رغم ضغوطات الحياة ومتطلّبات المعاش التي لا تنتهي. حتّى أنّ الشهيد مرّة كان يتذاكر معي بعض الشؤون المنزليّة وتطرّق للنعمة العظيمة التي نعيشها، وشكر الله على ما ألهمنا من الرضا والدعة.. ولم يترك الفرصة تمرّ دون أن يوجِّه لي عبارات الثناء.. ثمّ صار يبدي تعجّبه من حدوث بعض المشاكل الزوجيّة والأزمات العائلية لدى الأسر كافّة، باعتبار أنّ هناك الحب وهناك انصهار كلٍّ من الطرفين في الآخر.. ممّا يمكن معهما أن تذوب أيّ مشكلة وتختفي أيّ أزمة. وفي تصوّره ينبغي أن تكون جميع الأزمات العائليّة والأسريّة التي نسمع عنها مجرّد افتراضات!(3) لقد كان رجلاً مثاليّاً بحق. إنّي أتمكّن أن أقول غير مبالغة بأنّه لم يغاضبني ولو مرّة بحسب ما أتذكّر طوال تلك السنين التسعة عشرة في رفقته... وكذلك حرصت ألاّ أغضبه أو أختلف معه في كلّ تلك الفترة، غير أنّي -كي لا أجافي‏ الحقيقة- أذكر حادثةً لم يتكرّر مثلها بحمد الله في حياتنا تلك، [...](4).
كان كثيرا ًما يناديني بـ (ابنة عمّي)(5). ولكن ما أكثر ما كان يناديني بـ-(حوريّتي)، (نعيمي)، (جنّتي) و(فردوسي). وكنت أعلم أنّه إنّما نادى بها صادقاً مخلصاً، لا مجاملةً ولا تصنّعاً.. لأنّي بفضل الله كنت له نعيماً وفردوساً في خضمّ جور الحياة. كان أحياناً يبدي رغبته وخالص أمنيته لو استطاع أن يكتب فيَّ بيتاً من الشعر أو في من يحبّ، ولكنّ ذلك الفيلسوف العظيم والمفكّر المبدع عجز بالفعل عن تحقيق تلك الأمنية. فما تسخّرت له القوافي يوماً ولا لانت له البحور(6).
كذلك كان محمّد باقر الصدر في داخل بيته.. لذلك كنت أرى أيّ جهد يبذل في سبيل هذا (الإنسان) هو بعض الحق الذي يمكن أن يردّ له شيئاً من جميله، فما كنت أتوانى ولم أسمح للضجر ولا للملل أن يتطرّق إليّ، أو يحجزني عن تقديم أيّ عون له على أداء رسالته.
والشهيد في خارج بيته هو هو في داخله، فلم يكن الشهيد من ذوي الأقنعة، ولم يكن يظهر عليه أمام الناس غير ما كان يبطنه.. فهو المعروف بالتفاني فيمن حوله.. فكان غاية في السخاء والجود في سبيل مبدئه وناسه وأهدافه المقدّسة. منسلخاً من حضوص نفسه، متنكّراً لذاته، مؤثراً لمصالح الآخرين، حتّى لو أثّرت على مصالح بيته، يحتسب كلّ ذلك عند ربِّه جلّ وعلا، يرجو تجارة لن تبور.
كان قدّس الله روحه بعيد الشأو، متّقد الذهن، ملبوباً، ملحوب الطريق، أكرومة الأيّام.. العادُّ لفضائله كمن يدخل الغابة عابثاً يعدُّ أشجارها. قد أتعب من بعده خيراً وفضيلةً وعلوّاً وتسامياً وارتفاعاً، قد ألحم ما أسدى من معروف، كان إلهيّاً في سجاياه، ربانيّاً في معارفه.. هكذا كان آية الله محمّد باقر الصدر»(7).


الهوامش:
1- المراد حديث ضرار بن ضمرة الكناني بين يدي معاوية بن أبي سفيان عندما دخل عليه وسأله معاوية: «يا ضرار صف لي عليّاً». انظر: كنز الفوائد 160:2؛ بحار الأنوار 274:23؛ شرح نهج البلاغة 225 :18.
2- من مذكّرات السيّد جعفر الصدر على موقع (والفجر) على شبكة الإنترنت.
3- نقل لي السيّد حسن عطوي عن السيّد عادل العلوي قوله: إنّ أباه السيّد علي العلوي أجرى ما يشبه الإحصاء فيما يتعلّق بالمشكلات بين الزوجين، ولمّا وصل إلى السيّد الصدر(رحمه الله) وسأله عن الموضوع قال(رحمه الله): وهل يختلف الزوج مع زوجته؟
4- القصّة موجودة في المصدر، ولكنّ أسرة السيّد الصدر(رحمه الله) كتبت لنا بحذفها، مع إبقائها على أصل وقوع الحادثة.
5- انظر كذلك: المصدر: 99.
6- نقلنا في هذا الفصل عن الشيخ علي كوراني حواراً مع السيّد الصدر(رحمه الله) حول عجزع عن نظم الشعر.
7- وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: 109 - 113


المصدر: محمد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق: الشيخ أحمد أبو زيد العاملي، 2007م. ج2. 

التعليقات (0)

اترك تعليق