مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سميتك

سميتك "علي"

سميّتك "علي" على اسمه.. وتمنيّت أن تكون مثله، في كل شيء؛ وغاب عن بالي يا بضعة مني أنه ذات نهار، تركني "علي" ورحل.. فصرتُ كلما نظرتُ إليك لاح طيفه بين عينيك، ويُقال في أمثالنا الدارجة يا ولدي أن الولد يرثُ من خاله ثلث الخصال.
حين حملتك طفلاً بين ذراعي، وسميّتك "علي"، شعرتُ أن جزءاً من ظهري المكسور قد جُبر، وعلمتُ أنك ستمحو بطلّتك بعضاً من تلك الأحزان التي ما فتئت تنزف بصمت في داخلي.. ويركنُ شوقي إليه في سكينة بين أهدابك، وأنا أحدّثك عن شاب كان زينة الشباب، ولست أقول ذلك لأنه أخي، فيكفي أن تتلفظ باسمه أمام كل من عرفه، ليُطرق برأسه متأسفاً على نموذج مميز من الرجال..
 قد تكون ملامح وجهك بعيدة في الشبه بين ملامحه، غير أن أشياء كثيرة كنت أرقبها في إيماءتك وأنت تكبر أمام ناظري، تعيدني لسنوات خلت، أيام كنتُ أتشارك معه الحياة.. في منطقة الليلكي التي كانت في السابق قرية هادئة، عشنا حياتنا المليئة بالمغامرات الطفولية.. كان علي يكبرني بثلاث سنوات، تشاركنا الأيام الحلوة والمرة، وفي كثير من الأحيان كنتُ أجدُ صعوبة في فهم ما يرمي إليه في أحاديثه المحبوكة بالفلسفة، وكثيراً ما ركنتُ في زاوية التساؤل وهو يصلي أو يقرأ القرآن أو الدعاء؛ لماذا هو هكذا؟! أعرف الكثير من المؤمنين، ولكنهم ليسوا كـ "علي"، وكأنه كان يكشفُ أمامنا ستارة الحجبُ عن التدين الحقيقي ومعرفة الله حق معرفته.. واستمعت إلى الكثير من المثقفين، لكن لم يطرق مسمعي قول مثل الذي يقول، وإنه لشيء يدعو إلى الزهو والفخر، أن يكون "علي" شقيقك!
"علي" الذي أنهى دراسته الجامعية في العلوم، وخضع لدورات عسكرية في صفوف الجيش اللبناني، وكان يتحضر لرسم مستقبل أكثر من مُشرق،  ولكنه رمّى صنّارة صيده في بركة الآخرة، فملوحة بحر الدنيا لا تروي ظمأ من اشتاق للقاء الله : "إلهي أعطني قوة حتى أعمل بها في الدنيا للإسلام.. إلهي أخاف أن أموت ولم أقدم إلا القليل لما يرضيك.. إلهي إن الشهادة في سبيل دينك ليُنشر على الأرض كلها تخففُ عن بعض التقاعس.. فيا ربي أمتني وأحيني ألف مرة.. أمتني شهيداً للدفاع عن الإسلام وكرامة الإنسان.. وأحيني لأعود أعمل للإسلام ولمرضاتك ومن ثم أمتني ثم أحيني حتى لا يبقى علي قدر ذرة من الذنوب.. أمتني يا رب شهيداً، اللهم لا تمتني إلا قتلاً في سبيلك لأنال الشهادة ومرضاتك.."[1]
ترك علي كل شيء ليقف مع قلة قليلة عند محور الجامعة اللبنانية ويتصدوا بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة للاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، ومن خلفهم كان التخاذل يطعنهم بخنجر أن العين لا تقاوم المخرز..
انتظرتُ "علي" كثيراً، حتى بعد أن عادوا به في كفنٍ وودعته، ودفنتُ معه جزءاً مني، غير أني ما فتئتُ انتظره، وأتحدث إليه، وها أنت صرت أنيسي.. ولستُ أدري إن كانت السنوات طارت بنا، أم أنك كبرت قبل أوانك، ففجأة لم تعد ذلك الفتى الذي يلعبُ مع رفاق الحي، وما عدتَ ذلك الطفل الذي أحكي له حكاية خاله قبل النوم، بل صرْتَ القلب الذي يستمعُ الشكوى ويخففُ من الهمّ..
كان قدومك يثلجُ قلبي، وأنا أراك شاباً جميل الوجه، حسن الأخلاق، تأتي لتسند ظهر والدك، ولتخفف من مرض أخيك، وتساعدني في تقليب الأيام بصبرٍ واحتساب..
وصرتُ اسمع ما سمعته جدتك قبل ثلاثين عاماً؛ صار علي شاباً فانتقِ له عروساً..
بلى.. صرتَ عريساً كخالك علي.. الذي زففناهُ بالفل والياسمين، وعلَت الزغاريد في عرسه الذي لم يشبه الأعراس آنذاك؛ عريساً في كفنٍ أبيضٍ إلى جنة الفردوس..
وأنتَ يا من تركتَ كل شيء لتجاهد في سبيل الله.. كنتَ من الملبين الأوائل للذود عن مقام العقيلة، كما كان علي من المقاومين الأوائل.. أرحت فؤادي بتلك الزيارة معك.. عندما حددنا موعد خطوبتك بعد شهر صفر.. وأخيرا سيدخلُ الفرح إلى بيتنا كشمسٍ بعد ليل طويل.. وما عاد لنا سيرة أنا وأبوك وإخوتك في غيابك سوى ماذا سنفعل عند عودتك، وماذا سنحضّر لعلي..
كان نهار الأحد موعد عودتك من الشام.. لكنّك أبكرت، وجئت قبل يوم، ورحت لأراك ولأزّفك عريساً كخالك علي..
أخبروني أنك في ليلة العاشر من المحرم، قضيت ليلتك بالقرب من الحضرة المباركة للسيدة زينب عليها السلام، واني لأعرفُ، كما يعرفُ كل من عرفك، أنه من كان مثلك، لا يمكن أن يظلّ في الحياة.. أولستَ أنتَ من قال عنك الرفاق أنك جئتَ إلى هذه الدنيا خطأً فالملائكةُ لا يعيشون إلا في السماء!
سَميتك "علي".. على اسم خالك؛ علي أحمد مرمر.. الذي استشهد وهو يتصدى لأعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط في العام 1982، وكتب أول حروف هزيمتها.. ورحلتَ أنتَ يا علي وتباشير النصرِ على أفنان القهر أزهرت.. فيا ربّ متى يحين القطاف؟!.
نسرين إدريس قازان –دائرة إرث الشهادة– مؤسسة الشهيد
قصة شهيد الدفاع المقدس علي حسين صالح (الشيخ هادي)، مواليد العباسية، استشهد بتاريخ 07.12.2013.
 


________________________________________
[1] من كلمات الشهيد علي أحمد مرمر
 

المصدر: إرث الشهادة.

التعليقات (0)

اترك تعليق